فرنسا وحلفاؤها الغربيون المتدخلون في منطقة الساحل والصحراء في أفريقيا، يفعلان نفس ما تفعله التنظيمات الإرهابية، أي تدمير المجتمعات من أجل النفوذ وإحكام السطوة على الثروات.
منطقة الساحل هي موطن الجماعات الإرهابية الأسرع نموًّا والأكثر فتكًا في العالم، إذ تواصل جماعات مثل تنظيم “داعش” والقاعدة شنّ حملة عنيفة في المنطقة، وبحسب المؤشر العالمي للإرهاب شكّلت الوفيات في منطقة الساحل 35% من إجمالي الوفيات الناجمة عن الإرهاب في العالم عام 2021، مقارنة بـ 1% فقط عام 2007.
مصالح القوى الكبرى في الهرولة إلى الساحل
تكتسي هذه المنطقة الأفريقية أهمية كبرى، من حيث البُعد الجيوستراتيجي والثروات الخام، التي تعد أساس الصناعات الحالية وعصب صناعات المستقبل، وبالتالي استقرار المنطقة يعني استقرار مصالح القوى الكبرى، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لهذا نصّبت هذه الدول الغربية نفسها شرطيًّا حاميًا للأمن في المنطقة، وتصاعدت المنافسة الصينية أمام انضمام فلاديمير بوتين إلى هذه الهرولة، من خلال نشر قوات جيشه السرّي، أي مرتزفة “فاغنر”.
جغرافيًّا، تحتل المنطقة مساحة شاسعة تمتدّ من البحر الأحمر شرقًا وصولًا إلى الدول المطلّة على المحيط الأطلسي غربًا، وأيضًا تقع هذه المنطقة على معابر مائية مهمة تطل على أوروبا والمشرق العربي، فصارت بالتالي مسرحًا للتنافس الإقليمي والدولي، ما جعلها واحدة من أكثر أقاليم العالم هشاشة وما تسبّب في تحولها إلى بيئة خصبة لاحتضان وتغلغل التنظيمات الإرهابية.
الهشاشة والفقر ينخران مجتمعات الساحل، وكل ذلك مدفوع بالفساد السياسي والأنظمة الاستبدادية القائمة هناك.
تمتلك منطقة الساحل والصحراء مؤهّلات اقتصادية فريدة، مدفوعة بالثروات النفطية التي باتت تشكّل عامل جذب لدول العالم، فمثلًا تصدّر تشاد حوالي 200 ألف برميل من النفط يوميًّا، وتعد نيجيريا أكبر دولة مصدرة للنفط بحجم إنتاج يومي يصل إلى 27 مليون برميل واحتياطي يبلغ 36 مليار برميل، ولا ننسى أن هذا البلد الكبير يملك رابع احتياطي من الغاز.
هذا فضلًا عن الثروات المعدنية الدفينة في أراضي المنطقة، مثل الذهب واليورانيوم والفوسفات، حيث تعتبر مالي ثالث منتج أفريقي للذهب بعد جنوب أفريقيا وغانا، وتتميز النيجر بكونها ثالث دولة مصدّرة لليورانيوم في العالم بعد أستراليا وكندا.
كما تملك موريتانيا مخزونًا هامًّا من الحديد المهم لصناعة الصلب في أوروبا، وتحتل النيجر المرتبة الرابعة عالميًّا في إنتاج اليورانيوم بنسبة 8.7% من الإنتاج العالمي، وتغطي ما نسبته 12% من احتياجات الاتحاد الأوروبي.
بيد أن الهشاشة والفقر ينخران مجتمعات الساحل، وكل ذلك مدفوع بالفساد السياسي والأنظمة الاستبدادية القائمة هناك، بل إن معظم هذه البلدان الـ 14 التي تقع أجزاء منها على امتداد خط الساحل، تصنَّف عادة ضمن فئة البلدان الأقل نموًّا.
هذا بالإضافة إلى الديون الخارجية الكبيرة، إذ تعتبر إريتريا الأكثر مديونية، ليس في المنطقة فحسب بل في كامل أفريقيا، بعدما تجاوز مستوى الدين القومي في هذه الدولة الواقعة في القرن الأفريقي 175% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022.
الحملة العنيفة يحرّكها الصراع بين الإرهابيين
تعود أصول تنظيم “داعش” في الساحل إلى أكثر من عقد، وهي نتيجة لسلسلة من الاندماجات والانقسامات، حيث تمَّ تشكيل سلفها الفعلي، حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، عام 2011 كفرع من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجمعت عرب الساحل من مالي وموريتانيا والصحراء الغربية في المغرب.
وكانت حركة التوحيد والجهاد في غرب مالي متورطة في البداية في سلسلة من عمليات اختطاف الغربيين في جنوب الجزائر، لكنها برزت خلال استيلاء المتشددين على شمال مالي عام 2012، وحكموا مدينة غاو، أكبر مدينة في شمال مالي، لمدة 6 أشهر تقريبًا.
في أغسطس/ آب 2013، اندمجت حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا مع كتيبة الموقعون بالدم، بقيادة القائد العسكري الجزائري سيّئ السمعة مختار بلمختار لتشكيل جماعة “المرابطون”، لكن من أصبح رئيسًا لمجلس شورى “المرابطون”، المدعو عدنان أبو وليد الصحراوي، والذي كان ناطقًا باسم حركة التوحيد والجهاد، انشقَّ في النهاية مع رجاله بعد أن أدّى قسم الولاء لأبي بكر البغدادي في مايو/ أيار 2015.
في الصراع الإقليمي في الساحل، يعتبَر تنظيم “داعش” ثاني أكثر الفاعلين المسلحين نشاطًا بعد منافسه تنظيم القاعدة، وثالثهما جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، ويبدو أن الحملة العنيفة كانت مدفوعة بالمنافسة المتزايدة بين “داعش” والنصرة، حيث سعت هذه الأخيرة إلى تحدي هيمنة نظيرتها القاعدة، التي كانت لسنوات حليفة تواجه خصومًا مشتركين بين القوات الدولية وقوات الحكومات المحلية والميليشيات الموالية للحكومات.
المعركة ضد الإرهاب شأن أفريقي
مضت 10 سنوات على تدخل الجيش الفرنسي في الساحل، وهي الآن تجد نفسها مطالبة بالانسحاب، بعدما فشلت عملياتها العسكرية الأربع، المتشكلة من 5500 عنصر، في تحقيق أهدافها المرجوة، لتجدَ باريس نفسها مطرودة من المنطقة، كما أنها أعلنت تغيير استراتيجيتها بشأن المنطقة، ما يشمل سحب قواتها من المنطقة وتعويضها بدعم مباشر للجيوش الحكومية هناك.
وضد فرنسا برز عدو جديد هو الانقلابات التي أطاحت بالحكومات الحليفة لها في مالي وغينيا وبوركينا فاسو بين عامَي 2021 و2022، وفي تشاد سقط حليف فرنسا، الرئيس إدريسا ديبي، قتيلًا برصاص المتمردين الذين كانوا على أعتاب العاصمة إنجامينا.
استنادًا إلى التقديرات والمواقف الفرنسية، اتخذت الحكومة الألمانية قرارًا بوقف عمل بعثات التعاون التدريبي والأمني المشتركة مع جمهورية مالي، وسحب قواتها التي في عملية حفظ السلام الأممية المعروفة باسم “مينوسوما” في شمال مالي اعتبارًا من منتصف العام الجاري 2023، وصولًا إلى سحب آخر جندي ألماني بحلول مايو/ أيار 2024.
زعزعة الاستقرار في منطقة الساحل يشكّل تهديدًا مباشرًا لباقي العالم، ليس فقط من حيث الأمن والإرهاب لكن أيضًا في العديد من المجالات الأخرى مثل التجارة
وسارت بريطانيا على النهج نفسه، إذ قررت تبكير سحب قواتها لمكافحة الإرهاب وطواقم التدريب العسكري من جمهورية مالي قبل حلول الموعد المقرر سلفًا لذلك، وهو ديسمبر/ كانون الأول 2023.
وطبعًا المسكوت عنه في هذه العسكرة الغربية بإقليم الساحل هو الرغبة في الهيمنة والحفاظ على النفوذ في هذه المنطقة ذات الأهمية الجيوستراتيجية الكبرى، كما أثبتت سنوات من الكفاح الغربي ضد الإرهاب في الساحل أن التدخل الأجنبي لن يكسر شوكة الإرهاب، وتبرز الحاجة إلى تعاون إقليمي قوي أكثر من الحاجة إلى شريك أجنبي قوي.
في عام 2014 تشكّلت مجموعة دول الساحل الخمس، لتنسيق عمل سلطات موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، لكن القرار الذي اتخذته سلطات مالي في أعقاب انقلابات 2020 و2021، بالانسحاب من هذا التنسيق، شكّل ضربة شبه قاتلة لهذه المنظمة، وقد تراجع آداؤها في النهاية، رغم أن التنسيق الإقليمي يظل الأساس الذي لا غنى عنه لمحاربة الإرهاب بشكل فعّال ولتنمية منطقة الساحل.
هذه المعركة هي بالطبع شأن أفريقي في المقام الأول، بيد أن زعزعة الاستقرار في منطقة الساحل يشكّل تهديدًا مباشرًا لباقي العالم، ليس فقط من حيث الأمن والإرهاب لكن أيضًا في العديد من المجالات الأخرى مثل التجارة بجميع أنواعها.