اشتهر بإثارة الحروب خلال التسعينيات، وأثّر على المشهد السياسي في بلاده منذ ما يقارب الـ 3 عقود، حياته السياسية بأكملها كانت طريقًا نحو الاستبداد، فلديه طموحات سلطوية لا تهدأ، وهوس بوضع كل شيء تحت سيطرته، في جوهره شعبوي وانتهازي ماهر، إذ دفعته مصلحته الذاتية إلى تغيير مساره السياسي بشكل مفاجئ.
كما تظهر عليه أيضًا علامات النرجسية الخبيثة والكاريزما والدهاء وانعدام الضمير والتطرف القومي، إضافة إلى طول قوامه الجسدي الذي يبلغ مترَين، إذ يعدّ واحدًا من أطول السياسيين في العالم، وقد استغلَّ هذا الطول في لعب كرة السلة أيام الفتوة، ومعروف بتعصّبه الشديد لفريق “سرفينا زفيزدا”، أي النجم الأحمر، لكرة القدم.
يؤكد في كثير من الأحيان على قدرته الجسدية الفائقة، ويذكر أنه وُلد قبل أوانه بوزن يبلغ كيلوًا ونصفًا، لكنه يفضّل وصف نفسه على أنه “قارئ نهم” يحبّ الاطّلاع على كتب الأدب والتاريخ والجغرافيا والسياسة، ويمتلك مكتبة شخصية يحسَد عليها.
مع ذلك لا يستطيع العيش من دون شراب النبيذ الذي يعده أهم من الطعام، ولا يعتقد أن هناك من يفهم في النبيذ أفضل منه، ولديه نظرية بأن شرب الخمر يُكثر من الأصدقاء، وكما يقول: “من دون أصدقاء لا يكون النبيذ نبيذًا”.
إنه الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، شخصان في جسد ورأس واحد، وثنائي الميول السياسية الذي فعل كل شيء ونقيضه، إذ يعيش حياته الآن بين ماضٍ قومي متطرف وحاضر مكيافيليّ.
البدايات الملتهبة
تنحدر عائلة ڤوتشيتش من قرية تشيبولجيك (Čipuljić) بالقرب من بلدية بوغوينو (Bugojno) الموجودة وسط البوسنة، وعائلة ڤوتشيتش هي إحدى أغنى العائلات الصربية، لكن القوات الكرواتية المعروفة باسم “أوستاشي الفاشية” قتلت العديد من كبار العائلة بمن فيهم جد ڤوتشيتش، ثم قامت بطرد الباقي من منازلهم خلال الحرب العالمية الثانية.
اضطرت عائلة ڤوتشيتش لأن تُلملم أشياءها، وهُجّرت من ديارها مع باقي العائلات الصربية، واستقرت في بلوك 45 التابع لبلدية نوفي بيوغراد (Novi Beograd) بالقرب من العاصمة بلغراد، حيث وُلد فيها ألكسندر ڤوتشيتش في 5 مارس/ آذار 1970.
ترعرع ڤوتشيتش بجانب أخيه الصغير وسط عائلة محافِظة من طبقة وسطى، كان والداه أنجيليكو وأنجيلينا فوتشيتش من خريجي الاقتصاد، عمل والده كخبير اقتصادي، وعملت والدته كصحفية، ولا يزالان على قيد الحياة.
وبحسب السيرة الذاتية الرسمية لـ “ڤوتشيتش” – والتي أرد أن يرسم فيها صورًا مختلفة لماضيه – ، فقد كان مشاغبًا في طفولته، وأنهى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة زيمون، إلى أن تخرج منها عام 1988، ثم أكمل تعليمه الجامعي، فالتحق بكلية الحقوق بجامعة بلغراد، وتخرج منها عام 1994 بتقدير مرتفع على الرغم من أنه استغرق ست سنوات لإنهاء تعليمه الجامعي، ووُصف حينها بأنه أفضل المتخرجين في جيله مثلما يدعي كاتب سيرته.
ولكن قبل عام واحد من التخرج، وتحديدًا في عامه 23، كان فوتشيتش قد اتخذ قرارًا في عام 1993 غير كثيرًا من حياته ومسيرته السياسية، حيث انضم وهو في أوائل العشرينات من عمره إلى الحزب الراديكالي الصربي (SRS)، وهو تشكيل قومي متطرف أسسه مجرم الحرب المدان “فويسلاف شيشلي” في العام 1991، حيث قاد مليشيات عسكرية خلال حروب التسعينيات.
في ذلك الوقت، كانت القومية الصربية تتصاعد بقوة، وكان فوتشيتش الشاب العشريني يؤيد مشروع “صربيا الكبرى” مثل رئيسه “شيشلي” الذي أعجب به، ومع الوقت أصبح ذراعه اليمنى، وكان الحزب الراديكالي الصربي يضم في أغلبه العديد من الطبقات الدنيا، ويفتقر إلى كوادر المتعلمين مثل فوتشيتش.
ولذا كان من السهل أن يترقى بشكل سريع في صفوف الحزب، وسرعان ما انتخب ڤوتشيتش نائبًا لأول مرة في البرلمان الوطني لجمهورية صربيا عام 1993، وبعد عامين من انضمامه للحزب، أصبح فوتشيتش أمينًا عامًا للحزب الراديكالي الصربي وهو في 24 من عمره.
لكن حياة فوتشيتش المهنية بدأت تحديدًا بين عامي 1992 و 1993، حيث عمل كمراسل صحفي في البوسنة، وحسب سيرة فوتشيتش الرسمية فإنه قام في ذلك الوقت بإعداد وتقديم التقارير باللغة الانجليزية، إلا أنه لا يوجد ما يؤكد ذلك، والعديد من الصحفيين والباحثين يتهمونه بالكذب، فـ واقِعيًّا شارك فوتشيتش حينها بدور نشط في الدعاية الصربية المضللة، وساهم في نشر الخطاب المعادي للمسلمين.
ولذا خلال حرب البوسنة والهرسك اكتسب فوتشيتش مكانة بارزة في السياسة كشاب قومي متطرف يدافع بشراسة عن الصرب، وكان بالفعل جزء من آلة الحرب التي حرضت الصرب على الحروب والصراعات ضد القوميات الأخرى.
ويعد أهم حدثين في حياة فوتشيتش السياسية في تلك الفترة، الأول: خطبته المرعبة التي ألقاها في البرلمان الصربي في 20 يوليو/ تموز 1995، حيث دعا علانية إلى قتل 100 مسلم مقابل مقتل صربي واحد، صرخ بذلك قبل أيام قليلة من مذبحة سربرنيتسا التي قتل فيها أكثر من 8000 مسلم ذكر على يد القوات الصربية!
والثاني: ترويج فوتشيتش لسياسات الحرب التي دمرت البوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو، وشيطنة العراقيات وشرعنة الفظائع الصربية ضدهم، حيث كان من دعاة الحرب المفوهين، وكانت خطاباته ملتهبة للغاية، نشر من خلالها الكراهية الدينية والعرقية وحرض على الحرب التي قادت الكثير من الناس إلى الخطوط الأمامية، كما أيد بشدة “عملية العاصفة” التي مثلت العدوان على كرواتيا، وقام بجولة في المناطق التي سيطر الصرب عليها في كرواتيا.
هذا بجانب دفاعه عن مجرمي الحرب “راتكو ملاديتش” و”رادوفان كاراديتش”، إذ أجرى معهما مقابلات دعائية، وقام بجولات دعائية مع المليشيات الصربية العسكرية التي أبقت سراييفو تحت الحصار، ونهبت وقتلت على نطاق واسع في أنحاء كرواتيا والبوسنة والهرسك. كما تفاخر بلعب الشطرنج مع “راتكو ملاديتش”، وهناك مقطع فيديو لـ فوتشيتش – على الرغم من إنكاره – وهو يسير على التل فوق سراييفو زمن الحرب، مع رئيسه مجرم الحرب “فويسلاف شيشيلي” وكان فوتشيتش حاملًا بندقيته.
ألكسندر فوتشيتش مع مجرمي الحرب أثناء حصار سراييفو
إرهاب الوزير
حصل فوتشيتش على أول منصب وزاري له عندما عُيّن وزيرًا للإعلام في مارس 1998، وذلك بحكم تجربته الميدانية في البوسنة والهرسك، وقتها كانت الحريات قد تدهورت بشكل كبير، ونظام “سلوبودان ميلوسيفيتش” يشكل تهديدًا لأي شخص يعارضه، ووجد هذا النظام بغيته في فوتشيتش الذي كان بمثابة الآلة الدعائية لـ ميلوسوفيتش.
في الواقع، كان فوتشيتش الشخصية الحاسمة التي شكلت السياسات الإعلامية في فترة ميلوسيفيتش، والتي عبئت الجماهير عسكريًا وسياسيًا ضد المخالفين، فالهجوم الصربي لم يكن قادمًا من السماء فقط، ولذا يطلق الباحثين على وزارة الإعلام في عهد فوتشيتش بـ وزراة الدعاية.
أحكم فوتشيتش قبضته على الإعلام الصربي، فسيطر على محطات الإذاعة والتلفزيون والصحف الحكومية؛ من خلال فرض رقابة صارمة عليها بما فيها المستقلة، كما حظر العديد من شبكات التلفزيون الأجنبية والصحف اليومية المحلية، وأدخل تدابير تقييدية ضد الصحفيين، إضافة لهجومه على الصحفيين غير المنحازين، وقد تعرض الكثير منهم لاعتداءات من قبل شرطة بلغراد، وسجن بالفعل العديد من الصحفيين، إضافة لاقتحامات شرطة بلغراد للعديد من الشبكات الإعلامية، مثل شبكة B92.
وفي أحسن الأحوال، غُرم أي صحفي ينتقد النظام، وكانت الغرامات المادية فلكية ومبالغ فيها بشكل كبير، حيث كانت تصل إلى 100,000 دولار أمريكي، ومن لا يدفع تتم مصادرة ممتلكاته على الفور. وفي عام واحد فقط، تم تغريم العاملين في وسائل الإعلام 2,400,000 مارك ألماني، وهو مبلغ كبير جدًا يدل على أن بعض وسائل الإعلام كانت تكافح في ظل حكم فوتشيتش، ونتيجة لذلك، أغلقت المؤسسات الإعلامية المستقلة مكاتبها.
ثم وصل الأمر بـ فوتشيتش أن أعلن استخدام ما اسماه “مصطلحات رسمية” لوصف أحداثًا معينة، على سبيل المثال “الألبان” لا يتم ذكرهم في الأخبار بوصفهم بشرًا وإنما إرهابيين، وقد ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش أن خمسة محررين صحفيين مستقلين اتهموا بنشر معلومات مضللة؛ لأنهم أشاروا إلى الألبان الذين قتلتهم القوات الصربية في كوسوفو على أنهم “بشرًا” وليسوا “إرهابيين”.
إضافة لذلك، أجبر فوتشيتش الصحفيين على عدم ذكر أي معلومات عن الجيش الصربي غير خاضعة للرقابة، والأسوء من ذلك قيامه بهندسة وتطبيق “قانون الإعلام الجديد” الذي وصف بكونه الأكثر تقييدًا في الوجود، حيث يمكن مقاضاة أي شخص بسبب أي شيء يقوله، وبموجب هذا القانون، فـ أمام المتهم 24 ساعة فقط لإثبات براءته، مما هدم القاعدة القانونية الأساسية المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وقد تم تبرير كل هذه الإجراءات القسرية بـ “الدفاع عن البلاد”، ولذا اتهم فوتشيتش بأنه خلق جو من التشجيع على العدوان على الصحفيين.
ونتيجة لهذا الجو الذي فرضه فوتشيتش، قُتل بعض الصحفيين المستقلين في عمليات مخطط لها، مثل “سلافكو تشوروفيا” رئيس تحرير جريدة دنيفني تلغراف، وهي أول صحيفة يومية خاصة في صربيا تنتقد نظام الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش، لكن اللافت أن مقتل “سلافكو تشوروفيا” جاء بعد تعهد فوتشيتش بالانتقام منه بسبب ما كتبه عنه.
مورس التضييق أيضًا على الصحفيين الأجانب الذين تم تهديدهم أو احتجازهم أو إجبارهم على الفرار، مثل جيفري سميث من واشنطن بوست وديفيد هولي من لوس أنجلوس تايمز ولوري مونتغمري ومارك ميلستين من نايت رايدر.
كما قُتل ثلاثة صحفيين في كوسوفو عام 1999 بنيران قناص صربي، وهما فولكر كريمر، وغابرييل غرون، وسينول أليت، تم استهدافهم بشكل متعمد أثناء تواجدهم داخل سيارتهم. في الواقع، كانت فترة فوتشيتش في وزارة الإعلام مليئة بقتل وخنق الصحفيين وإغلاق وسائل الإعلام المستقلة، والجدير بالانتباه أن فوتشيتش كان بالفعل على قائمة الوزراء والمسؤولين رفيعي المستوى الذين خضعوا للعقوبات الدولية.
تغيير البدلة.. الراديكالي الجديد
استقال فوتشيتش من منصب وزير الإعلام في يوم 5 أكتوبر 2000 عندما تمت الإطاحة بـ ميلوسوفيتش، ظلت العديد من الهياكل الموروثة من النظام القديم تعمل على نطاق واسع، لكن الحزب الراديكالي الصربي الذي ينتمي له فوتشيتش أصبح حزب المعارضة الرئيسي في صربيا، وظل فوتشيتش في منصب الأمين العام للحزب الراديكالي حتى العام 2008، وهذا رسميًا يعد المنصب الثالث في التسلسل الهرمي للحزب، لكن بعد تسليم رئيس الحزب “فويسلاف شيشيلي” إلى محكمة العدل الدولية عام 2003، أصبح فوتشيتش أقوى شخصية في الحزب منذ العام 2003.
وفي هذه الفترة 2003 – 2008، نَظم ڤوتشيتش احتجاجات في الشارع الصربي دفاعًا عن مجرمي الحرب، وتعرض للضرب من قبل الشرطة بسبب الاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة، وعندما تم القبض على مجرم الحرب الأخر “رادوفان كاراديتش”، قاد ڤوتشيتش مظاهرات للدفاع عنه، لكن اللافت هو ما قام به في عام 2007، حيث طالب بإطلاق اسم “راتكو ملاديتش” على شارع في بلغراد تكريمًا لدوره الوطني في جرائم الحرب التي ارتكبها!
أما على الصعيد السياسي، فقد كان الحزب الراديكالي الصربي يتعرض للعديد من الهزائم الانتخابية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وواجه احتمالات ضعيفة للوصول إلى السلطة، وخسر فوتشيتش انتخابات عمدة بلغراد مرتين، ويبدو أنه أدرك ساعتها أن الأمور لابد أن تتغير، إذ أن من الصعب عليه خسارة الحروب وخسارة الانتخابات أيضًا، وبالتالي كان ينتظر الظروف المناسبة لتغيير الوضع.
ثم مع تنامي الخلافات داخل الحزب الراديكالي الصربي، قرر فوتشيتش مع نائب رئيس الحزب “توميسلاف نيكوليتش” ترك الحزب بعد خمسة عشر عامًا من بينها 13 عامًا قضاها فوتشيتش في منصب الأمين العام للحزب، فحدثت انشقاقات وتفكك الحزب الراديكالي الصربي في العام 2008، وعلى أثر تفكك الحزب، أعلن فوتشيتش استقالته من جميع وظائفه في الحزب ومفارقته الحياة السياسية، وذكر أنه سيعمل في البورصة ويؤسس شركة مع أخيه.
لكن الأمور اتخذت منعطفًا مفاجئًا عندما أعلن فوتشيتش بعد شهر واحد من اعتزاله الحياة السياسية، إنشاء حزب جديد أُطلق عليه “الحزب التقدمي الصربي (SNS)”، وأعلن انضمام رفاقه المنشقين من الحزب الراديكالي إلى الحزب الجديد، وهو حزب يصف نفسه بأنه محافظ ومؤيد لأوروبا، حيث أصبح الراديكاليون المناهضون للغرب تقدميون موالون لأوروبا، وانتُخب فوتشيتش نائبًا لرئيس الحزب في المؤتمر التأسيسي، ثم في العام 2012 أصبح رئيسًا للحزب.
بمجرد أن أدرك فوتشيتش صعوبة الوصول والبقاء في السلطة من دون ثقة ودعم الغرب، تخلى ظاهريًا عن ماضيه القومي وخطابه الراديكالي المعهود، وغير تمامًا كل آرائه السياسية السابقة بين عشية وضحاها، إذ تحول من مؤيد لايديولوجية صربيا الكبرى وعدو للاتحاد الأوروبي إلى تقديم نفسه كمعتدل يؤيد عضوية صربيا في الاتحاد الأوروبي، وسياسي براغماتي يعتزم حل المشاكل الإقليمية التي فشل أسلافه في حلها، ولا سيما قضية كوسوفو.
لكن فوتشيتش على أرض الواقع لم يبتعد عن برنامجه المتطرف وسياسته الشعوبية، ولم يُظهر أي شيء يدل على الندم على ما شارك فيه خلال سنوات التسعينيات الدموية، بل على العكس كان يستخدم قضية كوسوفو في كل مشهد انتخابي، ولا زال ينفي بإصرار جرائم الحرب الصربية.
ولأول مرة في حياته، أصبح فوتشيتش مقبولًا في الصالونات السياسية الدولية، فبعد أقل من أربع سنوات على إنشاء الحزب التقدمي الصربي، وبعد فترة الـ 12 عامًا التي قضاها في المعارضة، وصل فوتشيتش أخيرًا إلى السلطة عكس توقعات الجميع، بعد فوزه بهوامش ضعيفة في انتخابات عام 2012، وأصبح الحزب التقدمي الصربي جزءً من الحكومة لأول مرة في العام 2012، كان هذا الانتصار بمثابة بداية لتوطيد السلطة، وصعود الاستبداد مجددًا في صربيا.
احتفل فوتشيتش بالنصر الذي حققه، وفي الواقع كان عام 2012 أهم وأفضل الأعوام له، حيث بدأ فعليًا مشواره نحو الرئاسة، وبدأ يترقى في السلم السياسي في بلغراد، فقد شغل منصب وزير الدفاع في الفترة من 2012 – 2013، في نفس الوقت أصبح أيضًا أمينًا لمجلس الأمن القومي ومنسقًا للخدمات الأمنية، وهو المنصب الذي شغله لأكثر من 5 سنوات، وقد أتاحت له هذه الوظائف السيطرة على الهياكل الأمنية في البلد، والوصول إلى معلومات حساسة عن كل من حلفائه وخصومه السياسيين، والتي وفرت له بعد ذلك أداة لممارسة الضغط والابتزاز والاستفادة منها لصالحه.
ثم ترقى فوتشيتش بعدها إلى منصب نائب رئيس الوزراء المسؤول عن الدفاع والأمن ومكافحة الفساد والجريمة في حكومة “إيفيتسا داتشيتش”، وراح ينتقد بشكل متكرر عملية الخصخصة التي تسببت في زيادة كبيرة في البطالة، وأعلن ساعتها حربًا على الجريمة المنظمة والفساد واعتقل العديد من رجال الأعمال وأباطرة المخدرات، أهمهم، أكبر وأشهر رجل أعمال في صربيا “ميروسلاف ميشكوفيتش – Miroslav Mišković”، فأسعدت هذه الرسالة الجماهير الجائعين للعدالة، ونما الحزب بما فيه الكفاية، وبالتالي ساهمت كل هذه الإجراءات في ارتفاع الدعم الشعبي وفوز فوتشيتش وحزبه في الانتخابات المقبلة عام 2014.
وأصبح فوتشيتش رئيسًا للوزراء لفترتين، الأولى: من 2014 إلى 2016، والثانية من 2016 حتى 2017، وبعد أن بات واقعيًا يعرف كل شيء ويمسك بكل أدوات السلطة في يديه، كان قريبًا بما يكفي ليصعد أخيرًا إلى الرئاسة.
وبالرغم من أنه نفى بشكل مستمر ترشحه في الانتخابات الرئاسية من أجل طمأنة بعض رفاقه الذين ترشحوا إلى الرئاسة، إلا أن فوتشيتش في مناورة تكتيكية حسم الجولة الأولى بنسبة 55% في الثاني من أبريل 2017، ويؤكد العديد من الصحفيين على أن فوتشيتش معروف بأنه غدار ولا يحفظ كلمته. ثم انتخب فوتشيتش في فترته الثانية عام 2022 وحصد قرابة 60% من الأصوات، لكن معظم مجموعات المعارضة قاطعت الانتخابات الأخيرة، ووصفها البعض بأنها كانت انتخابات بدون انتخابات.
الديكتاتور الكلاسيكي واستبداده الناعم
على مدى السنوات الماضية، أسس فوتشيتش لأوتوقراطية ناعمة، واستولى حزبه بشكل كامل على جميع مؤسسات الحكومة، وفي الواقع، فإن فوتشيتش يعتمد على حزب سياسي راسخ ومنظم، حيث يضم الحزب قاعدة واسعة مكونة من 700000 عضو، وهو ما يمثل حوالي 10% من السكان، رقم فريد جدًا مقارنة حتي في عموم أوروبا.
أما المعارضة، فأصبحت مهمشة ولا تشكل له أي تهديد وغير قادرة أصلًا على خلق بديل يمكن أن يمثل تحديًا لـ فوتشيتش نتيجة غياب ساحة متكافئة، إضافة إلى أن المعارضة ليس لديها سوى القليل من الوسائل الإعلامية لإسماع أصواتهم.
وفي الواقع، تم بناء المجتمع السياسي في صربيا حول فوتشيتش وليس حول الشعب، وبعد فترة وجيزة من توليه الرئاسة، شدد فوتشيتش قبضته على السلطة من خلال الخطوات الخمس التالية:
أولًا: قام بتنصيب امرأة مثلية الجنس كرئيسة للوزراء، اختار فوتشيتش “آنا برنابيتش” لتكون خليفته، وقد جلبت له هذه الخطوة فائدتين:
الأولى: تعيين شخص ضعيف ليس لديه أي نفوذ سياسي في أقوى منصب رسمي في البلاد، مما يجعلها تعتمد على دعمه وبالتالي منع أي تحدٍ محتمل له في المستقبل.
الثانية: وجود أنثى “رئيسة وزراء ملحدة ومثلية الجنس بشكل علني”، سيجلب له اهتمامًا إيجابيًا كبيرًا في وسائل الإعلام الغربية، ويضمن من خلالها استمرار الدعم السياسي والإعلامي الغربي، ويقدم لافتة رمزية تجاه بروكسل فيما يتعلق بالتزام بلغراد بنظام القيم في الاتحاد الأوروبي.
ثانيًا: تأمين ولاء الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، والتي تعد واحدة من أكثر المؤسسات احترامًا بين مواطني صربيا، زاد فوتشيتش من جهوده لتوثيق العلاقات مع القيادات الكنسية العليا، ولا سيما مع البطريرك، وذلك بهدف تأمين ولائهم وتعزيز شرعيته، كما قام بزيادة التبرعات الحكومية للكنيسة بشكل سخي، من بينها تبرعات بقيمة 43 مليون يورو لكاتدرائية “القديس سافا” في بلغراد (أكبر كنيسة أرثوذكسية في البلقان)، كما وفر فوتشيتش التسهيلات لقادة الكنيسة الأرثوذكسية الصربية لإجراء العديد من أعمال البزنس.
من أجل رد جميل هذه الامتيازات، قدم البطريرك إيرينيي إلى فوتشيتش في أكتوبر 2019، أعلى جائزة كنسية نتيجة لأعماله العظيمة لصربيا وكوسوفو، إضافة لذلك، تلقى فوتشيتش بانتظام دعم البطريرك إيرينيي في اللحظات الحساسة سياسيًا، وخصوصًا خلال تكرار الاحتجاجات الشعبية المناهضة لنظام فوتشيتش، أو ما سمي بالاحتجاج “ضد الديكتاتورية”، وقيام 105 من أساتذة جامعة بلغراد بنشر خطابًا رسميًا لدعم الاحتجاجات بسبب ما اعتبروه “صعودًا للديكتاتورية”.
ثالثًا: أحاط فوتشيتش نفسه بأهل الثقة والولاء على حساب أهل الكفاءات والخبرة، والذين غالبًا ما يقولون نعم، وقد خلصت عدة تقارير دولية مختلفة، إلى أن إجراءات التعيين والاختيار والعزل تخضع إلى التأثير السياسي المباشر وغير المباشر.
إضافة إلى أن الانتماء السياسي لحزب فوتشيتش أصبح أسهل طريقة للحصول على وظيفة، وتم بالفعل الكشف عن العديد من الأمثلة على شبكة المحسوبية المتنامية، والتي من خلالها يرد فوتشيتش الجميل ويشتري ولاء رفاقه المقربين، وبالتالي فهناك حالة من الغياب الفعلي للضوابط والتوازنات المؤسسية.
رابعًا: إحياء القومية لصرف النظر عن المشاكل المجتمعية، يعتمد فوتشيتش بشكل متكرر على ورقة القومية لمواجهة التوترات المجتمعية المتزايدة والوضع الاقتصادي المتدهور، حيث قام بفرض عودة الخدمة العسكرية الإجبارية لإيقاظ الروح القومية العسكرية للشباب الصربي بعد أن ألغيت في يناير 2011، كما زاد من ميزانية الجيش بنسبة 50%، وبالتالي أصبح الجيش والكنيسة يقف خلف فوتشيتش بقوة.
كذلك أدخل فوتشيتش عطلة وطنية جديدة في يوم 15 سبتمبر 2021، أطلق عليها “الوحدة الصربية” وتم الاحتفال بهذا اليوم أمام النصب التذكاري لـ ستيفان نيمانيا، وقد جمع فوتشيتش أبرز المسؤولين وكبار الشخصيات الصربية، مثل بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الصربية وزعيم صرب البوسنة “ميلوراد دوديك” للاحتفال بهذا اليوم.
واللافت أن فوتشيتش لعب كثيرًا بورقة القومية وصور نفسه “حامي الأمة” من خلال تأجيج التوتر بشكل دوري مع كوسوفو، والتي واقعيًا تزيد من شعبيته وتبقيه في السلطة، ففي خلال فترة رئاسته أمر الجيش الصربي بالسير نحو حدود كوسوفو، فعل هذا الأمر سبع مرات!
كما استفز ألبان كوسوفو بشكل متكرر، وأرسل بشكل شخصي في العام 2017 قطار كبير ملون بالعلم الصربي ويحمل عبارة “كوسوفو هي صربيا” بـ 21 لغة مختلفة بما في ذلك الألبانية. يحقق فوتشيتش من خلال هذه الاشتعالات أهدافًا سياسية، وهذا في الواقع يتناقض مع برنامجه الذي يقدم فيه نفسه على أنه ضامن للاستقرار الإقليمي.
خامسًا: سيطر فوتشيتش على جميع وسائل الإعلام الرئيسية التي تديرها الدولة، واخضع باقي المؤسسات الإعلامية لسيطرة كاملة من قبل حلفائه، فمن خلال خبرته في الإعلام عندما كان وزيرًا في حكومة ميلوسيفيتش، تمكن من خنق الإعلام مرة أخرى عبر طرق عديدة، أهما السيطرة على مصدر دخله الرئيسي: “الإعلانات”.
فـ معظم وكالات الإعلان في البلاد مملوكة من قبل حفنة من أباطرة الإعلام الموالين لـ فوتشيتش، لذا فهو يعرف جيدًا كيف يتلاعب بالصرب ويخدرهم سياسيًا، ولكي نفهم هذا الدور علينا أن ننظر إلى تاريخه السابق في أواخر التسعينيات، فالطريقة التي يتعامل بها اليوم مع وسائل الإعلام متشابهة إلى حد ما مع فترة التسعينات.
ويشير رئيس المجلس الأوروبي بأن صربيا لديها أسوأ انتهاكات لحرية الإعلام في منطقة البلقان، وفي العام 2021 وصفت منظمة العفو الدولية “رئاسة فوتشيتش” بأنها واحدة من انتهاكات حقوق الإنسان بسبب القيود المفروضة على حرية التعبير وحملات المضايقة ضد شخصيات المعارضة ووسائل الإعلام.
إضافة إلى أن صربيا تراجعت 14 مركزًا في مؤشر حرية الصحافة العالمي في عام 2019، وتزايدت التهديدات بالقتل والخطاب اللاذع الذي يستهدف الصحفيين من قبل المسؤولين. وبحسب مراسلون بلا حدود، فقد تراجعت صربيا 34 مرتبة في حرية الإعلام، وتحتل حاليًا المرتبة 93، ما يعني أن بلغراد انخفضت 39 مركزًا منذ أن تولى فوتشيتش السلطة.
جنون العظمة
يظهر فوتشيتش بشكل متكرر للغاية على شاشات التلفاز، حيث يقضي وقتًا على الشاشات أكثر من أي سياسي في العالم، ولذا يرى عالم الاجتماع “راتكو بوزوفيتش” إن فوتشيتش بإمكانه التنافس في موسوعة غينيس للأرقام القياسية بسبب عدد مرات الظهور على شاشات التلفزيون.
يرى فوتشيتش نفسه قائدًا قام بأشياء كثيرة لم يفعلها غيره، وتُصوره وسائل الإعلام المحلية باعتباره منقذ صربيا الذي ضحى بكل شيء لأجلها، والأول في كل شيء، سياسي كفء يتمتع بكاريزما وكفاءة عالية، ويحظى بدعم هائل بين المواطنين، يحارب الصعاب من أجل الصرب ولا يخشى من المعارضة، فهو يقاتل الأعداء داخل الدولة وخارجها.
مع التركيز على أن الجميع يستهدفه لجهوده النبيلة، والمبالغة أيضًا من وجود محاولات اغتيال وانقلاب ومؤامرات دورية للإطاحة به وقتله، بجانب تنصت الأعداء على هاتفه، وقد استُخدمت مثل هذه المبالغات لحشد الدعم حول الرئيس وزيادة إقصاء المعارضة.
يستخدم فوتشيتش التخويف الداخلي باعتباره يمثل نمطًا أساسيًا من السيطرة السياسية، ولذلك يُكثر من الوعود بالدفاع عن الدولة المحاطة بالأعداء، إضافة لخطاب الضحية الذي يلهب المشاعر، فهو ضحية ومقاتل في نفس الوقت.
نلاحظ هذا الأمر في معظم سلوكيات “فوتشيتش” وبالأخص سلوكه الأخير مع كوسوفو، فقد ظهر على التلفاز واتهم العالم والجميع بنبرة أسى وحزن بأنهم لا يريدون سوى “موت الصرب”، ثم في نفس الوقت صور نفسه قويًا يقاتل من أجل تحرير الصرب في كوسوفو، وقام بالفعل بحشد الجيش ناحية الحدود الكوسوفية، أسلوب صبياني لكنه فعال جدًا!
هذه المبالغة الاستطرادية، التي يرى العديد من الباحثين أنها جوهرية للتواصل المخادع، يستخدمها فوتشيتش بكثرة، إذ يعد الخطاب السياسي له مبالغ فيه وملون عاطفيًا، وتهدف العديد من خطاباته والرسائل التي يوجهها إلى خلق “استجابة عاطفية”، فدائمًا ما تسبق المشاعر الحقائق، ومن عاداته الإكثار من الحجج الزائفة، والسخرية من منتقديه، وتوجيه الاتهامات ضد خصومه السياسيين بدعوى أنهم لا يفهمون في أي شيء.
واقعيًا، يعرف فوتشيتش جيدًا كيفية تشكيل الرأي العام وتوجيه الجمهور، إضافة لأنه خبير في التواصل السياسي، ويفهم الرأي العام أفضل من أي سياسي آخر. ومن خلال فترة رئاسته التي تبلغ الآن ست سنوات، أثبت أنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بوسائل الإعلام، بجانب تصويره لكل نشاط يقوم به مهما صغر حجمه في وسائل الإعلام، ومن المهم جدًا لـ فوتشيتش أن يفتح كل ما تم بناؤه حديثًا في البلد، سواء مصنع أو مدرسة أو روضة أطفال أو تمثال.
كما يستخدم بشكل متكرر منصات التواصل الاجتماعي لتوجيه رسائله ومهاجمة “الأعداء”، ويسعى لتصوير نفسه كمقاتل لا يكل من أجل خدمة المواطنين، يعرف كل شيء وموجود في كل مكان، ويظهر بالملابس الرسمية وغير الرسمية، ولذا تقول إحدي النكات الصربية، “إذا فتحت ثلاجتك ستجد فوتشيتش بدخلها”.
وبنظرة على حسابات فوتشيتش على مواقع التواصل، نجد أن هناك صورة معينة يحاول ترسيخها في وعي الناس، إذ تصوره جميع الصور على أنه زعيم محبوب من الجميع، يهتم بالناس وبالأخص الأطفال ويقاتل أعدائهم المزعومين، ويلاحظ أنه يهتم كثيرًا بالضجة البصرية من خلال تعبيرات الوجه والإيماءات البارزة، فمثل هذا المحتوى المفرط يُنشط المشاعر لدى الجمهور، وبالتأكيد يتأثر المتابع بالتأطير البصري للصورة الحميمة لرجل دولة قوي وقائد عطوف يحبه الناس.
في المجمل، سيطر فوتشيتش على أجهزة الدولة ومعظم وسائل الإعلام في البلاد من وراء واجهة الديمقراطية، إذ حول صربيا إلى ديستوبيا شمولية من خلال آلياته المخططة والمنفذة بعناية، والتي سمحت له بالتحكم في كل شيء والبقاء في السلطة منذ عام 2012، فمنذ وصوله إلى رأس السلطة، أحكم الخناق على وسائل الإعلام، وقوض الحقوق السياسية والحريات المدنية، وقمع جميع المنظمات السياسية والأحزاب والنشطاء، وتدهورت الديمقراطية بشكل كبير، وارتفعت جرائم القتل والاغتيالات.
هذا بجانب سيطرة فويتشتش أيضًا على الأوساط الأكاديمية، ففي العام 2017 أصدر 650 عضوًا من النخبة الأكاديمية والفكرية والفنية إعلانًا عامًا يدعم فوتشيتش. وبحسب مؤرخة بلغراد “دوبرافكا ستويانوفيتش” فإن كل علامات الديكتاتورية موجودة في فوتشيتش.
وعلى الرغم من تعده بإصلاح جذري للاقتصاد الصربي المتعثر، إلا أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي أصبح في غاية السوء، حيث ازدادت ديون البلد وشهدت تصاعدًا في المحسوبية والفساد، وارتفاعًا في معدلات الهجرة خصوصًا بين المواطنين الأكثر كفاءة وتعليمًا، إضافة إلى أن هناك عددًا كبيرًا من الشباب لا يرون أي معنى في المشاركة السياسية في صربيا. وبحسب منظمة الشفافية الدولية، فهناك زيادة كبيرة في الفساد منذ أن صعد فوتشيتش إلى السلطة، كما يشير بعض الصحفيين إلى أن معركة فوتشيتش ضد الفساد تنحصر عمليًا أمام الكاميرات.
وفي الواقع، فإن الحقوق المدنية والقيم الديمقراطية ليست أولوية لدى الغرب تجاه صربيا، وهذا ما تنبه له فوتشيتش، حيث أن الأولى غضت النظر عن سلوكياته الاستبدادية على حساب الاستقرار، مع الأخذ في الاعتبار أن فوتشيتش لديه بالفعل دعم بين الناس، ولا يزال يتمتع بمكانة جيدة للغاية بين ناخبيه، فمعظم تقييمات الرأى العام لـ فوتشيتش وحزبه أفضل من تقييمات ميلوسيفيتش عندما كان في ذروة حكمه.
يبدو أن غالبية الشعب الصربي يعشق الأشخاص الأقوياء والقادة السلطويين، حيث أظهر استطلاع للرأي في صربيا، أن اثنين من كل ثلاثة أشخاص يعتقدوا أن صربيا بحاجة إلى شخص يتمتع بأذرع قوية، فجزء كبير من الشعب الصربي لديه نوع من الميل نحو نموذج حاكم شبه استبدادي، ولا يريد دولة بالمفهوم المؤسساتي بقدر ما يريد قادة من نوع فوتشيتش.
الولاء المزدوج
مع رغبة فوتشيتش في انضمام بلاده إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، حاول التراجع عن بعض خطاباته الأكثر حدة، وفي نفس الوقف حاول أيضًا عدم إثارة غضب موسكو، لكن واقعيًا، لم يكن الرئيس الصربي صادقًا في خطاباته المعارضة لروسيا أو المؤيدة للغرب، ولا زال يتأرجح بينهما بشكل انتهازي.
يلعب فوتشيتش بالبطاقة الروسية بعدة طرق مختلفة، ففي الداخل، يروج لروسيا باعتبارها قوة عالمية تقف ضد الناتو الذي قصف صربيا في التسعينات، ومن جانب أخر، يهدد الغرب بحساسية الشعب الصربي وتعاطفه الواسع مع موسكو، ثم عندما يتحدث مع القادة الغربيين، يدعى فوتشيتش أنه السياسي الوحيد القادر على إبقاء البلاد على المسار الأوروبي، بينما عند التحدث مع الروس، يصور نفسه على أنه آخر حصن موالٍ لروسيا في البلقان.
وبينما يقوم الاتحاد الأوروبي بتوسيع سياسته نحو غرب البلقان، اعتبر فوتشيتش أن من الأفضل الاقتراب أكثر مع روسيا وتقوية العلاقات معها، وأبرم مع موسكو العديد من الصفقات، أهما صفقة توريد الغاز بسعر مخفض لمدة ثلاث سنوات. كما أن فوتشيتش من الناحية الأخري يستفيد أيضًا من ورقة الاتحاد الأوروبي، إذ يظل الاتحاد الأوروبي أكبر مقرض ومانح لصربيا، تبلغ قيمة القروض أكثر من 4,3 مليار يورو، إضافة لأكثر من 3,6 مليار يورو في شكل منح على مدى السنوات الماضية.
أدان الرئيس الصربي الغزو الروسي لأوكرانيا، – وهو في الواقع يقف عند هذا الحد – ، لكنه في نفس الوقت رفض مرارًا وتكرارًا فرض عقوبات ضد روسيا، ولا تزال الخطوط الجوية الصربية تُسير رحلات بين بلغراد وموسكو، إذ لا تزال صربيا واحدة من الدول المضيفة الرئيسية للروس، وكل هذا في الواقع يتعارض مع السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فصربيا كدولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، من المتوقع أن تتماشى مع سياسات الاتحاد الأوروبي.
يحاول الرئيس الصربي التلاعب بالجانبين ضد بعضهما البعض لتعزيز قدرته على المساومة في قضايا مثل النزاع حول وضع كوسوفو، ومن المعروف أن كوسوفو بالنسبة لروسيا هي الاستثمار المثالي، إذ لاتزال تدعم بقوة مطالبة صربيا بإقليم كوسوفو وعرقلة أي اعتراف رسمي باستقلال الإقليم في الأمم المتحدة، وهو ما تحتاج إليه صربيا، لأن فقدها الدعم الروسي سيضعف موقفها تجاه كوسوفو التي اعترف بها ما يزيد من نصف دول العالم.
لا يزال فوتشيتش يجلس على كرسيين متباعدين في نفس الوقت، إذ يتقن فن اللعب على المتناقضات، واضعًا قدمه الأولى بثبات عند الروس، والقدم الأخرى باهتزاز عند الأوروبيين، وتكشف الحرب في أوكرانيا عن هذه الازدواجية. فعلى الصعيد الدولي، يتصرف فوتشيتش كسياسي مؤيد لأوروبا، بينما في الداخل، يتصرف بنفس الطريقة التي كان يتصرف بها في السنوات الدموية الماضية، مما يدل على أنه لم يخلع معطفه الراديكالي، حتى وإن ارتدى ملابس براغماتية جديدة.