ما أن تنتهي أزمة -أو يتمّ تطويقها- حتى يَفتح أخرى، إذ يبدو أن هوايته خلق الأزمات والوقوف على الأطلال، سواء تعلّق الأمر بالداخل أم الخارج، وهذا دأبه منذ وصوله قصر قرطاج وتقلُّده حكم تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
بعد المغرب والجزائر ودول جنوب الصحراء الأفريقية، وصل الأمر إلى ليبيا، التي قدّمت حكومتها في طرابلس مساعدات اقتصادية مهمة لتونس في الأشهر الأخيرة، لمساعدتها على الخروج من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية الخانقة.
عوض تقريب المسافات ومحاولة اكتساب صداقات جديدة لتفادي العزلة الخارجية وإنقاذ اقتصاد البلاد، عمل الرئيس قيس سعيّد على إحياء نزاعات حدودية قديمة مع الجارة ليبيا، سبق أن أصدرت المحاكم الدولية قراراتها بحقّها، وهو ما أثار حفيظة الليبيين.
فما هي حكاية نزاع “الجرف القاري” الذي نبشه قيس سعيّد؟ وما الذي دفعه إلى الحديث عن هذا النزاع القديم في الوقت الحالي؟ وما الذي يمكن أن تستفيد منه تونس في إحياء نزاعات قديمة تمّ الفصل فيها قانونيًّا وفق إرادة السلطات التونسية؟
النبش في نزاع قديم
خلال زيارته لمقرّ المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، الخميس الماضي، قال الرئيس قيس سعيّد إن “تونس لم تحصل إلا على الفتات القليل من حقل البوري” الذي تستغله ليبيا حاليًّا، وأضاف أن “النية كانت تتجه عام 1975 إلى قسمة هذا الحقل إلى نصفَين بين تونس وليبيا، ما من شأنه أن يؤمن كل حاجيات تونس وأكثر”.
مشيرًا إلى أن قسمة الحقل كانت مقترحًا من وزير الخارجية الليبي، مستدركًا أنه “بعد 12 يناير/ كانون الثاني 1974، وهو تاريخ إعلان الوحدة بين تونس وليبيا التي لم تدم طويلًا، تمَّ رفض مقترح تقاسم الحقل وساءت العلاقات بين البلدَين”، على حدّ قوله.
وأشار سعيّد إلى أن أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك، محمود رياض، تدخّل للقيام بوساطة بين تونس وليبيا، وتمَّ الاتفاق على عرض القضية على محكمة العدل الدولية، مستدركًا أن المحكمة لم تعتمد المقاييس التي كانت تعتمدها بالنسبة إلى تحديد الجرف القاري، إنما اعتمدت على مقياس يتعلق بنوع من الاتفاق الضمني بين تونس وليبيا، لكن لم تحصل تونس إلا على الفتات بعد صدور الحكم عام 1982، حسب تعبيره.
من المتوقع أن تؤثر هذا التصريحات على العلاقات بين البلدَين، خاصة أن الأزمة انتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي.
بالعودة إلى حقل البوري، فإنه يقع في البحر المتوسط على بُعد 120 كيلومترًا شمالي الساحل الليبي، وينتج نحو 23 ألف برميل نفط يوميًّا، وتديره شركة “مليتة” للنفط والغاز بالمشاركة مع شركة “إيني” الإيطالية، واُكتشف عام 1976 وبدأ إنتاجه عام 1988.
ويأتي هذا الحقل في إطار ما يُعرَف بالجرف القاري، الذي تعرّفه المادة الأولى من اتفاقية جنيف لعام 1958 بأنه “مناطق قاع البحر وما تحته من طبقات متصلة بالشاطئ تمتدّ خارج البحر الإقليمي إلى عمق 200 متر، أو إلى ما يتعدى هذا الحد إلى حيث يسمح عمق المياه باستغلال الموارد الطبيعية لهذه المنطقة”.
في سبعينيات القرن الماضي طالبت تونس بأحقيتها في هذا الحقل، لكن الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي اقترح على تونس اقتسام ثروات الجرف القاري، الأمر الذي رفضه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، حيث اقترحت عليه مجموعة من أساتذة القانون رفع قضية أمام المحكمة الدولية في لاهاي، وهو ما تمَّ بالفعل عام 1978.
عام 1982 أصدرت محكمة لاهاي قرارًا يؤكد على السيادة الكاملة لليبيا على الجرف القاري، دون إعطاء أي نصيب لتونس، وقررت المحكمة أن الحدود البحرية بين البلدَين يجب أن تتبع خطًّا يبدأ من النقطة التي تلتقي فيها الحدود البرية في الساحل، وتمتد إلى البحر لمسافة 12 ميلًا بحريًّا، وبعد هذه النقطة يجب تحديد الحدود بخطّ متساوٍ في البُعد عن أقرب نقطتَين على الساحل الليبي وتونس.
لم تقبل تونس القرار، وتقدّمت لمحكمة العدل الدولية بطلب إعادة النظر في الحكم قصد تعديله، لكن وبتاريخ 10 ديسمبر/ كانون الأول 1985، صدر حكم يقضي برفض الدعوى القضائية، وتقبّلت تونس الحكم للمرة الثانية.
أزمة جديدة مع ليبيا
كغيرها من تصريحاته الجدالية السابقة “غير الموزونة”، لم تمرّ كلمات الرئيس التونسي الأخيرة مرور الكرام، فسرعان ما جاء الردّ من ليبيا، إذ قال وزير النفط والغاز بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، محمد عون، إن “القضية تمَّ الفصل فيها بحكم من محكمة العدل الدولية، وقد قَبِل الطرفان بالحكم، والحدود البحرية بين ليبيا وتونس محدّدة”.
بدوره، قال رئيس لجنة الطاقة بمجلس النواب الليبي، عيسى العريبي، إنه “لا يمكن القبول أو السماح بالمساس بثروات ليبيا التي هي ملك للشعب الليبي تحت أية ظروف أو أية مبررات”، مؤكدًا تشكيل لجنة لدراسة تصريحات سعيّد للردّ عليها بشكل رسمي.
يعلم سعيّد أن أغلب الشعب التونسي تحكمه العاطفة، فما دام لا يوجد أي إنجاز يفتخر به، فها هو يصنع الأزمات والمشاكل تحت بند “السيادة الوطنية”.
من جهته، قال عضو مجلس النواب الليبي، عبد المنعم العرفي، في تصريحات إعلامية، إن “تونس ليس لها الحق في المطالبة بما يدّعيه رئيسها بحصة بلاده في حقل البوري، وهناك حدود مرسّمة بين ليبيا وتونس”.
ولئن كانت الردود الرسمية الليبية فيما يخص تصريحات سعيّد متزنة ولم تختر التصعيد اللفظي، فإنه من المتوقع أن تؤثر هذا التصريحات على العلاقات بين البلدَين، خاصة أن الأزمة انتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي.
قيس سعيد الرئيس التونسي في لقاء صحفي حاملا خريطة قائلا إن حقل البوري يجب ان نتقاسمه مع ليبيا لان تونس لها الاخقة بالنصف الاخر..!!
ننتظر حكومة الدبيبة والمؤسسة الوطنية للنفط ان ترد على كلب الصهاينة قيس سعيد.
— احمد الغنودي ~ (@Tripolitania_01) March 17, 2023
ويرى عديد الليبيين أن الرئيس التونسي يسعى لاستغلال ضعف بلادهم والأزمة السياسية التي تعيش على وقعها منذ سنوات، لإحياء نزاعات حدودية قديمة، ومحاولة وضع يده على ثروات بلادهم الباطنية، أسوة بباقي الدول المتدخلة في ليبيا.
خلق أزمات خارجية للتغطية على الضعف الداخلي
يقول بعض أنصار قيس سعيّد إن الرئيس محقّ في كلامه، وأنه لا بدَّ للدولة أن تطالب بحقها في حقل البوري النفطي، وحقّها أيضًا في الحقول النفطية الموجودة في الأراضي الجزائرية، والتي خسرتها تونس بناءً على التقسيم الفرنسي للحدود.
يقول هؤلاء إن الدولة بعد الاستقلال سكتت على “حقّها”، وأن سعيّد سيُعيد للتونسيين “حقوقهم المنهوبة”، فكيف تمتلك البلاد مثل هذه الثروات الباطنية وتلجأ إلى صندوق النقد لطلب مساعدته؟ هذا بعض ما تمَّ رصده في مواقع التواصل الاجتماعي.
الرئيس التونسي ?? قيس سعيد : حقل البوري ?? لم تحصل منه تونس سوى على الفتات ، وتونس أحق به من غيرها ..
ليبيا أصبحت مابين المطرقة والسندان .. السيسى من جهة الشرق وقيس من الغرب حتى العرب طامعين فيك ياوطن .. pic.twitter.com/4wGESWdvkm
— قلم حر (@58YJxw3UnFiNE0M) March 17, 2023
قد يظنّ هؤلاء أن هدف قيس سعيّد “الانتصار لحقوقهم”، لكن المتتبّع لتحركات الرئيس التونسي منذ وصوله السلطة، خاصة منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية، يرى أنه دائمًا ما يعمد إلى خلق “عدو افتراضي” للتغطية على فشله.
دائمًا ما يسعى سعيّد لإحداث مشاكل جانبية مع الخارج، كما حصل مع المغرب ودول جنوب الصحراء الأفريقية، وقبلها مع دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات النقابية العالمية، لمحاولة إيهام التونسيين أنه المتحكم في الوضع في البلاد، وأن السيادة الوطنية خط أحمر.
بوادر أزمة بين #تونس و#ليبيا بسبب تصريحات الرئيس #قيس_سعيد حول “حقل #البوري” النفطي.. pic.twitter.com/FVGBBOK5pD
— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) March 19, 2023
يبتغي سعيّد من وراء ذلك التغطية على فشل حكمه واللعب على عواطف التونسيين، فهو يعلم أن أغلب الشعب التونسي تحكمه العاطفة، فما دام لا يوجد أي إنجاز يفتخر به، فها هو يصنع الأزمات والمشاكل تحت بند “السيادة الوطنية”.