لا تزال عملية إخراج المقاتلين السودانيين “المرتزقة” من ليبيا تواجه تحديات عديدة يمكن أن تعرقلها، بعضها يتعلق بخشية الخرطوم من أن تسهم عودتهم في ارتفاع معدل ارتكاب الجرائم خاصة في إقليم دارفور الذي لا يزال يعاني من آثار الحرب، ومع ذلك تجري ترتيبات لعودتهم.
وتحدث اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أبرم في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020 بين حكومة الوفاق الوطني والجيش الوطني الليبي، عن مغادرة جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب الأراضي الليبية في غضون ثلاثة أشهر، من ضمن بنود أخرى عهد تنفيذها إلى لجنة عسكرية مشتركة تعرف بلجنة 5+5.
وأدى الصراع السياسي الداخلي والتدخلات الخارجية إلى عدم تنفيذ اتفاق إخراج 20 ألف من المرتزقة والمقاتلين الأجانب الذين يتمركزون في 10 قواعد عسكرية، لكن هذا العام كثفت لجنة 5+5 أعمالها لتنفيذ ولايتها، فيما أطلقت الأمم المتحدة مبادرة جديدة تتمحور حول الاتفاق على قاعدة دستورية لضمان إجراء انتخابات في ليبيا قبل 2023.
المرتزقة السودانيون في ليبيا
لا يُعرف بدقة عدد المقاتلين والمرتزقة السودانيين من جملة الـ20 ألف الموجودين في ليبيا، فبينما تقول تقارير صحفية إن عددهم يبلغ 3 آلاف، قدرت الحكومة السودانية في 29 يونيو/حزيران 2021، أعدادهم بـ9 آلاف مسلح، معظمهم يتبعون لحركات دارفور المسلحة التي كانت تقاتل نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
وشكّل توقيع اتفاق السلام بين حكومة السودان وبعض الحركات في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، حافزًا قويًا لعودة جزء من مقاتلي الأخيرة من ليبيا، من أجل تنفيذ الترتيبات الأمنية الخاصة بهم، لكن تعثر تنفيذها نظرًا للاضطراب السياسي والأزمة الاقتصادية، جعل قادة الحركات يحتفظون بكثير من قواتهم في ليبيا.
إن كان السودان لا يستطيع سحب مقاتلي الحركات الموقعة على اتفاق السلام من ليبيا، وقادتها الآن مسؤولون كبار في الحكومة، فكيف يعمل على سحب عناصر الجماعات غير الموقعة؟
يقول فريق تابع لمجلس الأمن الدولي، في تقرير نشر في 7 فبراير/شباط 2023، إن ثلاث حركات موقعة على اتفاق السلام تحتفظ بقوات في ليبيا، هي: حركة تحرير السودان بقيادة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي التي تمتلك 100 مركبة وتجمع قوى تحرير السودان بزعامة عضو مجلس السيادة الطاهر حجر وحركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي بزعامة عضو مجلس السيادة الهادي إدريس.
ويشير إلى أن هذه الجماعات استمرت في التنسيق مع الجيش الوطني الذي يقوده خليفة حفتر، وتتموضع في اللواء 128 بقيادة حسن معتوق الزادمة في قضاء الحفر.
وتحدث التقرير عن وجود حركات دارفورية غير موقعة على اتفاق السلام في ليبيا، أكبرها حركة تحرير السودان التي يتزعمها عبد الواحد محمد نور، التي تمتلك 300 مركبة وتعمل بين سبها وسرت والجفرة تحت قيادة رئيس أركان الحركة يوسف أحمد يوسف “كرجولا”.
كما توجد في ليبيا أيضًا قوات مجلس الصحوة الثوري – القيادة الجماعية ومجلس الصحوة الثوري – فصيل موسى هلال وحركة الوفاق الثورية وحركة العدل والمساواة السودانية الجديدة وحركة جيش تحرير السودان – القيادة المستقلة والحركة الثورية للعدل والمساواة التصحيحة والمجلس الثوري السوداني وقوات تجمع العدل والمساواة.
ماذا تفعل هذه الجماعات في ليبيا؟
يقول فريق من الخبراء إن ليبيا كانت المصدر الرئيسي لتمويل الحركات المسلحة الدارفورية خلال الخمس سنوات الأخيرة، حيث واصلت معظم هذه الجماعات العمل لصالح الجيش الوطني الليبي المدعوم من الإمارات لتأمين المناطق وحراسة نقاط التفتيش، كما انخرطت معه في أعمال هجومية خلال النزاع الفعلي والعمليات العسكرية.
وأشاروا إلى أن الجيش الوطني الليبي قدم مكافآت كبيرة على خدمات هذه الجماعات، فقد كانت الجماعات الأكبر تتلقى دعمًا شهريًا يمكن أن يصل إلى 1.2 مليون دولار.
ولفتوا إلى أنه ومنذ السلام النسبي في ليبيا وغياب النزاع حدث انخفاض حاد في مدفوعات الجيش الوطني إلى الجماعات المسلحة، واقتصر دعمه بشكل أساسي على الإمدادات الغذائية، وتمكنت الحركات الأكبر من تغطية تكاليفها في ليبيا من الموارد المتراكمة في السابق ومع ذلك تجد صعوبة في دفع رواتب عناصرها.
هذا الأمر، وفقًا لتقرير الخبراء، دفع الحركات المسلحة بما في ذلك الموقعة على اتفاق السلام، وبشكل متزايد، إلى ممارسة أنشطة إجرامية وتجارية مثل إدارة نقاط التفتيش لجباية الضرائب من الشاحنات وتهريب النفط، فتهريب شاحنة نفط من ليبيا إلى حدود السودان أو تشاد، يحقق أرباحًا بين 10 إلى 20 ألف دولار.
لم تستطع حكومات السودان إجبار الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام الذي أبرم في 3 أكتوبر 2020، على سحب مقاتليها من ليبيا، رغم أن الاتفاق تحدث عن تجميعهم داخل مراكز خلال 6 أشهر
ويقول التقرير إن بعض عناصر الحركات تشارك في تهريب الأسلحة والمخدرات والسلع التجارية، إضافة إلى توفير الحماية لمهربي المهاجرين بالتعاون مع الجماعات الإجرامية المحلية.
كلما تأخر السودان في توقيع اتفاق سلام مع الحركات المسلحة في ليبيا، ستزيد قدراتها العسكرية لوجود ارتباطات واتفاقيات مع جهات داخل وخارج ليبيا توفر لها السلاح والآليات.
ولا شك أن سنوات ارتزاق الجماعات المسلحة وممارستها للأنشطة التجارية والإجرامية في ليبيا، جعلتها تراكم موارد ضخمة، لكن فكرة الارتزاق نفسها تتنافى مع خطاب الحركات التي ظلت تقول إنها رفعت السلاح ضد الحكومة لتمهيشها إقليم دارفور في الخدمات وتقاسم السّلطة والثروة.
هذا الارتزاق جعل عناصر الجماعات لا تستطيع العيش إلا من خلال الإجرام والممارسات غير القانونية، وهو ما أكده تقرير خبراء مجلس الأمن الذي قال إن مستوى انعدام الأمن والجريمة ازداد مع عودة القوات الدارفورية من ليبيا وإعادة انتشارها من الخرطوم إلى إقليم دارفور، غرب السودان.
انسحاب جزئي، لكنه غير كافٍ
في 7 فبراير/شباط الماضي، شارك السودان والنيجر في أعمال اجتماع لجنة التواصل واللجنة العسكرية المشتركة 5+5، الذي عقد في العاصمة المصرية القاهرة، لبحث انسحاب المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا وإنشاء آليات التنسيق والمتابعة وتبادل المعلومات.
وجرى إنشاء لجنة التواصل بواسطة اللجنة العسكرية المشتركة في منتصف يناير/كانون الثاني المنصرم، لتعمل على تحسين التنسيق مع لجان التواصل في كل من السودان والنيجر وتشاد.
وأثنى رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عبد اللهِ باتيلي، في الاجتماع، على التزام اللجنة العسكرية المشتركة وممثلي لجان التواصل في دول جوار ليبيا بسحب المقاتلين الأجانب والمرتزقة.
وبعد هذا الاجتماع، غادرت قوات تابعة لتجمع قوى تحرير السودان مواقع كانت تؤمنها في غرب ليبيا، وذلك بعد وعود الحكومة الليبية بتوفير مبالغ مالية لمساعدة الحركات المسلحة على سحب جنودها.
ولم تستطع حكومات السودان الانتقالية والعسكرية إجبار الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام الذي أبرم في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، على سحب مقاتليها من ليبيا، رغم أن الاتفاق تحدث عن تجميعهم داخل مراكز تجميع خلال 6 أشهر، تمهيدًا لإنفاذ الترتيبات الأمنية.
وإن كان السودان لا يستطيع سحب مقاتلي الحركات الموقعة على اتفاق السلام من ليبيا، وقادتها الآن مسؤولون كبار في الحكومة، فكيف يعمل على سحب عناصر الجماعات غير الموقعة؟
ترتيبات أخرى
لم يجد المسؤولون السودانيون مناصًا من إجراء تفاوض غير رسمي في عاصمة النيجر نيامي مع 8 حركات دارفورية توجد في ليبيا، في الفترة من 13 إلى 17 مارس/آذار الحاليّ، خلص إلى تخصيص منبر تفاوض رسمي في العاصمة القطرية الدوحة خلال الفترة المقبلة، على أن يحدث ذلك بالتزامن مع انسحاب مقاتلي هذه الفصائل من ليبيا.
وقال رئيس حركة الوفاق الثورية مجدي شرفة، في تصريح لموقع سودان تربيون الإخباري، إن المباحثات هدفت إلى إيجاد إستراتيجية شاملة لمعالجة ترحيل المقاتلين السودانيين من ليبيا، بجانب تناولها خطط بناء السلام والترتيبات الأمنية والفهم المشترك للعملية السلمية في السودان.
ونقل الموقع عن مسؤول عسكري في حركة مسلحة تمتلك جنودًا في ليبيا قوله إن مباحثات نيامي “ستؤدي إلى تفتيت وحدة الحركات المسلحة ولن تقود إلى خروجهم من ليبيا”، مشيرًا إلى أن الحكومة السودانية ترغب في توقيع اتفاق أمني وعسكري مع الجماعات المقاتلة في ليبيا، مع تجاهل المطالب السياسية.
يرجح عدم تشجع الحركات الدارفورية في ليبيا لتوقيع اتفاق سلام مع حكومة السودان، لاستبدال مكاسب أعلى بأخرى أدنى، إلا إذا أعطتهم الخرطوم حوافز تشجيعية مغرية تعوضهم عن الأموال التي يكسبوها من الأنشطة الإجرامية
ويضيف “إذا استمرت الحكومة في التعنت وتمسكت بالاتفاق الأمني، فإن ذلك سيولد مزيدًا من الاحتقان، وكلما تأخر توقيع اتفاق السلام فإن الحركات المسلحة في ليبيا ستزيد من قدراتها العسكرية لوجود ارتباطات واتفاقيات مع جهات داخل وخارج ليبيا توفر لها السلاح والآليات”.
وغابت عن مشاورات نيامي قوات تجمع العدل والمساواة التي يقودها عبد الله بندا الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر توقيف بحقه، إذ تتهمه بارتكاب ثلاث جرائم حرب، تتعلق باستخدام العنف ضد الحياة والنهب وشن هجمات على قوة حفظ السلام في سبتمبر/أيلول 2007، وبالتالي فإن التفاوض معه سيضع السودان في موقف حرج أمام الدول الغربية باعتبار أن هذا الأمر يسهم في الإفلات من العقاب.
وإذا استطاع السودان تجاهل فصيل عبد الله بندا، فلن يكون بمقدوره غض الطرف عن حركة تحرير السودان التي تمتلك 300 مركبة وهي أكبر جماعة مسلحة في ليبيا، إذ يرفض رئيسها عبد الواحد محمد نور الانخراط في أي مباحثات سلام مع الحكومة، مقدمًا مبادرة منذ أواخر العام 2019 لتنظيم مؤتمر داخل البلاد دون أن يعلن تفاصيلها حتى الآن.
ويرجح عدم تشجع الحركات الدارفورية في ليبيا لتوقيع اتفاق سلام مع حكومة السودان، لاستبدال مكاسب أعلى بأخرى أدنى، إلا إذا أعطتهم الخرطوم حوافز تشجيعية مغرية تعوضهم عن الأموال التي يكسبوها من الأنشطة الإجرامية، وبما أن السودان يعاني من وضع اقتصادي حرج فلن يكن أمامه إلا دولة غنية لتمويل نفقات وبنود أي اتفاق.