“”إسرائيل” قد تنجرّ إلى حرب أهلية وهو أمر غير مستبعد، ومن يظن أننا لن نصل إلى ذلك فليس لديه فكرة عمّا نعيشه”، بهذه العبارات عبّر رئيس الاحتلال الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، عن تخوفه من ولوج مجتمع المستوطنين في حرب أهلية غير مسبوقة، على خلفية “التعديلات القضائية” التي يسعى الائتلاف الحاكم برئاسة بنيامين نتنياهو إلى تمريره.
ويعيش الاحتلال الإسرائيلي منذ أسابيع حالة من الاستقطاب، بعد أن تمَّ تمرير قانون “الإصلاح القضائي” أو ما تطلق عليه المعارضة “الانقلاب القضائي” بالقراءة الأولى، فيما يتم التحضير لإقراره بالقراءتين الثانية والثالثة خلال الفترة المقبلة.
وفشلت كل المبادرات التي تمَّ تقديمها خلال الفترة الأخيرة في الوصول إلى حلول وسط بين الائتلاف والمعارضة، رغم تدخل الرئيس الإسرائيلي في المشهد السياسي في حالة نادرة لا تتكرر كثيرًا، نظرًا إلى النظام السياسي القائم الذي يجعل منصبه شرفيًّا.
ومع فشل تدخل هرتسوغ حضر الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى واجهة المشهد في الاحتلال، من خلال مكالمة هاتفية جمعته بنتنياهو للمرة الأولى منذ صعود الأول إلى سدّة الحكم قبل قرابة 5 أشهر، وتركزت على ضرورة وقف “الإصلاحات القضائية”.
وتعتمد الحكومة الحالية على أغلبيتها البرلمانية في محاولة لتمرير تعديل قانون السلطة القضائية، لكن المعارضة ترى في هذه التشريعات محاولة لإضعاف القدرة الرقابية للسلطة القضائية على السلطتَين التنفيذية والتشريعية.
ماهية هذه الإصلاحات وتفاصيلها كاملة
تشمل التشريعات التي تدفع بها الحكومة 4 بنود، تقول المعارضة إنها ستؤدي في نهاية الأمر إلى تركيز السلطة القضائية في يد السلطة التنفيذية، التي تسيطر بدورها أيضًا على السلطة التشريعية بحكم الأغلبية البرلمانية.
والبنود الأربعة هي الحد من المراجعة القضائية لتشريعات الكنيست، وسيطرة الحكومة على تعيينات القضاة، وإلغاء تدخل المحكمة العليا في الأوامر التنفيذية (فقرة التغلب)، وتحويل المستشارين القانونيين بالوزارات إلى معيّنين سياسيين.
وقال الكنيست الإسرائيلي إنه “بموجب مشروع القانون، فإن لجنة انتخاب القضاة ستتكون من 9 أعضاء، وهم رئيس المحكمة العليا واثنان من القضاة المتقاعدين الذين سيقوم وزير العدل بتعيينهم بموافقة رئيس المحكمة العليا”.
وتشمل اللجنة “وزير العدل ووزيرَين ستحدد الحكومة هويتهما، و3 من أعضاء الكنيست بينهم رئيس لجنة الدستور وعضو عن الائتلاف (الحاكم) وعضو من المعارضة، كما أنه ولأول مرة ستدعو لجنة الدستور المرشحين للتعيين في المحكمة العليا للمثول أمامها قبل مثولهم أمام لجنة تعيين القضاة التي ستبتّ نهائيًّا بالتعيينات، ثم تمرر بيانًا إلى لجنة الدستور بخصوص المرشحين”.
لا يوجد دستور رسمي مكتوب في دولة الاحتلال، غير أن ما يتم هو مجموعة “قوانين أساس” تنظّم تقسيم السلطات والحقوق المدنية، وعند تناقض قانون يقرّه الكنيست مع قانون أساس يتم الاحتكام للمحكمة العليا التي تنظر في مدى دستوريته.
وعن “فقرة التغلب”، ينص مشروع القانون، وفق تصريح الكنيست، على “عدم إمكانية التقاضي بشأن القوانين الأساسية، وأن المحكمة، بما في ذلك المحكمة العليا، لن تتناول بشكل مباشر أو غير مباشر مسألة تتعلق بصحة قانون أساسي”.
ولا يوجد دستور رسمي مكتوب في دولة الاحتلال، غير أن ما يتمَّ هو مجموعة “قوانين أساس” تنظّم تقسيم السلطات والحقوق المدنية، وعند تناقض قانون يقرّه الكنيست مع قانون أساس، يتم الاحتكام للمحكمة العليا التي تنظر في مدى دستوريته.
أما عن تعيين المستشارين القانونيين في الوزارات، يتضمّن مشروع القانون تعيينهم مباشرة من قبل الحكومة، وأن يكونوا خاضعين للوزراء بدلًا من تبعيتهم للمستشارة القضائية للحكومة، في الوقت الذي ترأس المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية الجهاز القانوني للسلطة التنفيذية والخدمة القانونية العامة، وتتولى عدة مهام بينها رئاسة النيابة العام، وتمثيل الدولة في المحاكم، وتقديم الاستشارات القانونية للحكومة والجهات التابعة لها.
وبند تعيين المستشارين جزء من اتفاقية تشكيل الحكومة بين حزبَي “الليكود” و”الصهيونية الدينية”، الذي نصَّ على أن المديرين العامين للوزارات سيعيّنون أو يعزلون المستشارين القانونيين وفقًا لتقدير المدير العام المعيّن سياسيًّا للوزير.
جوهر الصراع.. لماذا يريدها اليمين ويرفضها اليسار والمعارضة؟
يمكن القول إن الإصلاحات القضائية بمفهومها العام تعني سيطرة الحكومة واليمين على كافة مفاصل “الدولة”، كون الائتلاف الحاكم أكثر طرف يستطيع اختيار القضاة في تشكيلة المحكمة العليا، وهو ما يعني أن قراراتها ستكون متوافقة مع الائتلاف.
وبالتالي إن ما يعرَف بالإصلاحات القضائية ستجعل من هذه المحكمة صورية أو منصاعة للنظام السياسي كونه هو من اختار معظم قضاتها، إضافة إلى قدرة المحكمة على إبطال قوانين يسنّها الكنيست إذ كان في السابق الائتلاف والحكومة يمرران قوانين بالأغلبية في الجسم القضائي، ثم تأتي المحكمة وترفض ذلك باعتبارها مخالفة للقانون وتوقفه.
أما اليوم ففي إطار هذه الخطة لن يكون بمقدور المحكمة إبطال أي قانون ينجح الكنيست في تمريره حال كان قانونًا أساسيًّا، أما القوانين العادية فتستطيع المحكمة إبطالها شريطة وجود أغلبية غير عادية، بمعنى أن يكون هناك موافقة من قبل 13 قاضيًا من قضاة المحكمة العليا من أصل 15 قاضيًا.
المحكمة العليا ستصبح بلا دور في المشهد السياسي في دولة الاحتلال، وتصبح المؤسسة التنفيذية المستندة على أغلبية في المؤسسة التشريعية هي صاحبة الدور النهائي في “إسرائيل”
وبالتالي يعمل جوهر هذه التعديلات القانونية على تفكيك دور المحكمة العليا الإسرائيلية، ما سيخلق مشكلة بالنسبة إلى الديمقراطية الإسرائيلية، كما ترى المعارضة التي تواصل الاحتجاجات منذ أكثر من 11 أسبوعًا في المدن المحتلة عام 1948.
وتعتقد المعارضة أن تمرير هذه التعديلات يعني تركُّز السلطات في يد جهة معينة، وبالتالي هو يتنافى بشكل واقعي ومنطقي مع الأنظمة الديمقراطية الرسمية، التي عادة ما يكون هناك فصل بين المؤسسة التنفيذية والقضائية والتشريعية.
وعادة ما تكون السلطة التنفيذية مختلفة عن القضائية والتشريعية وأكثر تنظيمًا في النظام السياسي للاحتلال الإسرائيلي، بحيث لا تكون جميع هذه السلطات على رأي واحد فقط، وتكون متعددة الأفكار والأطروحات السياسية والفكرية.
وما يحدث اليوم هو أن المحكمة العليا ستصبح بلا دور في المشهد السياسي في دولة الاحتلال، وتصبح المؤسسة التنفيذية المستندة على أغلبية في المؤسسة التشريعية هي صاحبة الدور النهائي في “إسرائيل”، ما يؤدي إلى اختلال مبدأ التوازن بين السلطات، وتتحول طبيعة الدولة بالنسبة إلى المستوطنين من دولة ذات طابع ديمقراطي إلى دولة غير ديمقراطية، ما سيحوّل بقية المؤسسات في الاحتلال إلى شكلية وصورية فقط.
السيناريوهات والكواليس.. أمريكا على خط الأزمة
هناك تعمُّق حدة الاستقطاب داخل مجتمع المستوطنين الإسرائيليين نتيجة لسياسات حكومة نتنياهو، ومواصلتها السعي لإضفاء الطابع الديني على الفضاء العام في “إسرائيل”، بالإضافة إلى التوسُّع في بناء المستوطنات وشرعنة القائم منها، والتوجُّه إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى.
ويمكن القول إن ثمة عدة سيناريوهات وكواليس تعصف بالمشهد السياسي الإسرائيلي، غير أن غالبيتها لن يؤدي إلى فكفكة الائتلاف الحكومي، رغم التباين الواضح في الكثير من المواقف الخارجية والسياسية، إلا أن ثمة اتفاقًا على ضرورة مواصلة العمل لأطول وقت ممكن.
السيناريو المرجّح هو أن يتراجع الائتلاف الحكومي برئاسة نتنياهو عن إقرار هذه التعديلات، مقابل انتزاع مكتسبات سياسية
ويشكّل الدخول الأمريكي على خط الأزمة السياسية الحالية أولى المحاولات الرامية لإنزال الجميع عن الشجرة، ومحاولة الدخول في حوارات تنتهي بحلول وسط وتضمن استقرار المشهد السياسي الإسرائيلي خلال الفترة المقبلة، في ضوء التغييرات الإقليمية الحاصلة.
ولا يجب إغفال دور الحركة اليهودية في الولايات المتحدة، والتي لم تتدخل بصفة رسمية وكاملة حتى اللحظة في المشهد، وبالتالي قد تحضر بشكلٍ كبير خلال الفترة المقبلة إذا ما تصادم الإسرائيليون أكثر وارتفعت حدة الأزمة بشكل كبير.
ويبدو السيناريو المرجّح هو أن يتراجع الائتلاف الحكومي برئاسة نتنياهو عن إقرار هذه التعديلات، مقابل انتزاع مكتسبات سياسية وتعديلات تلبّي الحد الأدنى من مطالب اليمين الإسرائيلي الحاكم، وتلبّي في الوقت ذاته مطالب المعارضة الإسرائيلية.
التأثيرات والتداعيات.. من الاقتصاد إلى الأمن
لا يمكن اقتصار ما يجري حاليًّا من إشكالات داخلية في الاحتلال على المشهد السياسي والاجتماعي، بل أن الأمر تطوّر بشكل لافت ومفاجئ لبعض المراقبين نتيجة وصول حدة الأزمة إلى مؤسسات لم يتوقع أن تدخل على خطها.
ويشكّل امتناع عشرات الجنود والضباط عن أداء الخدمة العسكرية في الاحتلال أحد جواهر التداعيات الخطيرة بالنسبة إلى الإسرائيليين لهذه التعديلات أو “الانقلاب القضائي” كما يصفها معارضوها، إذ من شأن ذلك أن ينعكس بالسلب على المؤسسة الأمنية والعسكرية.
ويشكّل تحذير نداف أرغمان، رئيس جهاز الأمن العام “الشاباك” السابق، إشارة واضحة إلى عمق الأزمة، إذ حذّر من تفكُّك الأجهزة الأمنية والجهاز الذي وقف على رأسه لسنوات، نتيجة معارضة عشرات الضباط فيه لهذه التعديلات، وتلويح البعض منهم بالتوقف عن أداء الخدمة.
في المقابل، فإن ضباط كبار من الاحتياط ووحدات استخباراتية مثل “السايبر” و8200 وغيرها، لوحوا هم أيضًا بالامتناع عن أداء الخدمة العسكرية، إلى جانب طيارين في سلاح الجو الإسرائيلي الذي يعتبَر الأقوى في الشرق الأوسط.
ما يجري حاليًّا يضع جميع عناصر ومكونات مجتمع المستوطنين الإسرائيليين أمام تحديات جمّة خلال الفترة المقبلة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والعسكري
وتضع هذه التحديات العسكرية الائتلاف الحكومي أمام ضغط كبير قد يدفعها لاحقًا للقبول بحلول وسط، تمنع انهيار الائتلاف وتحافظ على الحكومة وتسمح بتمرير جملة من التعديلات القانونية خلال الفترة المقبلة، بما يضمن احتواء المشهد.
أما عند الحديث عن التأثيرات الاقتصادية، فإن ذلك يتضح من خلال سحب عشرات الشركات الخارجية استثماراتها من مجالات “الهاي تيك” والتكنولوجيا الرقمية، ونقل أعمالها إلى خارج فلسطين المحتلة خشية من التأثيرات المترتبة عن إقرار هذه التعديلات.
وسحبت هذه الشركات مئات الملايين من الدولارات في فترة وجيزة، فيما يستعد البعض الآخر لنقل أمواله خلال الفترة المقبلة بحلول نهاية العام، وهو ما سينعكس بالسلب على واقع الاقتصاد الإسرائيلي وقوة عملته أمام العملات الأجنبية.
بمحاذاة هذا الأمر، فقدت العملة الإسرائيلية جزءًا كبيرًا من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، فقفزت من حاجز 3.3 شيكلات إسرائيلية لكل 1 دولار أمريكي، لتصل إلى 3.7 شيكلات إسرائيلية لكل 1 دولار، وسط توقعات بارتفاعات قياسية إذ تمَّ إقرار التعديلات القضائية.
وبالتالي إن ما يجري حاليًّا يضع جميع عناصر ومكونات مجتمع المستوطنين الإسرائيليين أمام تحديات جمّة خلال الفترة المقبلة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والعسكري، ويبقى الحوار وتنازل الأطراف السياسية المختلفة هما المخرج لهذه الأزمة.