حين تسير في شوارع مثل شارع السد بحي السيدة زينب، أو تحت الربع والخيامية بحي الدرب الأحمر في القاهرة، فأنك تعلم حقًّا معنى رمضان في مصر، فالفوانيس العملاقة تحيط بك عن يمينك ويسارك، وأينما تولي وجهك، وثمة قماش أحمر مزركش بزخارف الزينة الرمضانية ذات الشكل المألوف في القاهرة.
وقد لا تستطيع أن تضع قدمًا في الشارع بدءًا من الـ 20 من شهر شعبان، حيث تنشط ذروة حركة البيع والشراء، وتزدحم تلك الشوارع بالمصريين والسياح على حد سواء، الفارق هذه السنة أن “الناس كثيرة كالعادة، لكنهم يتفرجون ويسألون عن السعر ثم يمشون، وربما يلتقطون صورًا أمام البضاعة ثم يتكلون”، هكذا أخبرني سعيد، أحد البائعين في شارع تحت الربع.
بحديثي مع سعيد، ومع غيره من باعة الفوانيس والزينة، وجدت أن الأزمة الاقتصادية تلقي بظلالها على استعدادات المصريين لرمضان هذا العام، حركة البيع ليست نشيطة كالعادة، وتلك مشكلة يعاني منها الباعة في السنوات الماضية، لكنها أقل عن العام الماضي.
والسبب كما يراه سعيد: “أنا بائع ويهمني أن أكسب، لكن ماذا سيحتاج بيتك في رمضان أكثر؟ الطعام أم الزينة؟ أكيد الطعام، وطالما أن الناس غير قادرة إلا على شراء ما يسد رمقهم، لن يقدروا على شراء الزينة والكماليات، فلو زبون اشترى من عندي 5 أمتار زينة في هذه الأيام، أشعر وكأني حصّلت موسمي”.
ربما أختلف مع سعيد في وجهة النظر، فالزينة الرمضانية ليست مجرد كماليات كما يرى، إنها مسألة فولكلور، تساهم في الشعور بالهوية والذات في إطار جمعي، فمحددات الإنسان في النهاية لا تقتصر على ما يستطيع توفيره من لقمة العيش والشرب، لكن في تمسكه وإظهاره لثقافته أيضًا، إلا أن الأزمة الاقتصادية تضغط على حياة المصريين أكثر فأكثر، ومظاهر الفرحة لديهم.
كيف يواجه الباعة الأزمة؟
على المستوى الرسمي، قال بركات صفا، نائب رئيس شعبة الألعاب بغرفة القاهرة التجارية، أن أسعار زينة رمضان قد تأثرت هي الأخرى بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة وهبوط الجنيه أمام الدولار، فقد شهدت زيادة هذا العام تقدَّر بنحو 50% مقارنة بمستوياتها العام الماضي.
وسبب ارتباط الزينة بالدولار راجع إلى الاعتماد على استيراد مستلزمات إنتاج الزينة من الخارج، إذ تستورد مصر بعضًا من الخامات التي تدخل في صناعة الزينة الرمضانية، خاصة في الفوانيس.
هذا بالإضافة إلى أن إنتاج الفوانيس هذا العام قد انخفض عن العام الماضي، حيث كان إنتاج العام الماضي 5 ملايين فانوس، أما العام الحالي لم يصنع السوق المصري أكثر من 2 مليون فانوس، فالكثير من الورش والمصانع حقّقت مستوى منخفضًا من الإنتاج بسبب أسعار المواد الخام.
يتفق سعيد مع بركات صفا، رغم أنهما لم يلتقيا أو يتكلما بطبيعة الحال، ودون أن أخبره بالتصريحات الرسمية تلك، أخبرني أن الورش بحدّ ذاتها كانت متوجّسة ذلك العام من التصنيع: “لماذا تصنع منتجًا وأنت غير ضامن لبيعه. وغير ذلك أسعار المواد الخام ازدادت ما لا يساعد على كثرة الإنتاج، سواء كانت حديدًا أم خشبًا كله صار غاليًا بسبب الدولار، كما أن طبيعة عملنا حساسة حيث ذروة أرباحنا تكون في الموسم ولا نعتمد على بقية العام، إما نكسب في رمضان وإما لا”.
وحينما سألته عن الآلية التي اتبعوها لتعويض ذلك النقص في الإنتاج، أجاب: “بكل الحالات الموسم سينتهي وستفيض منه بضاعة، فما زال عندي بضاعة مخزّنة من العام الفائت، وليس من المعيب أن أعرضها للبيع، فهي ليست بطعام أو مياه، إنها حديد، والتي أصابها الصدأ سأعيد دهنها، وستعود جديدة”.
وأضاف: “قماش الخيامية مثلًا لو أردت بيعه اليوم، ستكون الزيادة بنسبة 100% عن سعر العام الماضي، إذ إنني أبيع البضاعة المخزّنة، وللأمانة زدت السعر قليلًا لكن ليس على سعر المادة الخام اليوم، سعر جهدي فقط”.
يستورد السوق المصري الفانوس الصيني بالفعل، لكنه يحقق اكتفاءً ذاتيًّا من صناعة الفانوس المحلي كذلك، لدرجة أن السوق المصري نشط جدًّا في تصدير الفوانيس إلى الدول العربية، كالإمارات مثلًا.
ويؤكد سعيد أن إنقاذ الموسم الرمضاني بالنسبة إليه ولقرنائه هذا العام يعتمد بشكل أساسي على التصدير، وعلى المشتري من الطبقة العليا، وأصحاب الفنادق والمطاعم التي تحرص على صناعة جو “الليالي الرمضانية” بديكورات الخيامية والفوانيس العملاقة كذلك.
معارك الفوانيس واللحوم
من منظور سعيد لن يخسر موسمه الرمضاني بشكل كبير، لكنه سيحقق هامش ربح أقل من الأعوام الماضية، إلا أنه لن يخسر بنهاية الموسم، ويتمنى أن يكون هذا العام مجرد موسم استثنائي، ويصبح الوضع أقل صعوبة في المواسم القادمة.
لكن إذا استطاع سعيد النجاة وتفادي الخسائر الفادحة هذا العام، بسبب اعتماده على شريحة معينة من الجماهير، فكيف الحال بالنسبة إلى الشاري من الشريحة الاعتيادية؟
أخذتُ جولة تفقدية للأسعار في شارع الخيامية وتحت الربع، وبحكم سكني هناك أحتكُّ بحركة البيع والشراء تلك بشكل سنوي، وبإمكاني أن أرى أن هناك غلاءً حدث بالنسبة إلى أسعار الفوانيس والزينة بالفعل، لكنه ليس بنفس فداحة الغلاء الذي تعرضت له منتجات أخرى كالسلع الغذائية أو الأدوات المدرسية أو الملابس مثلًا، لكن الغلاء يظل غلاءً بالنسبة إلى المواطن، الذي تزداد نفقاته ولا يزداد راتبه في المقابل.
سيدة في الخمسينات من عمرها جاءت من حي شبرا الذي يبعد نصف ساعة أو ساعة، حسب الطريق، بالسيارة عن شارع تحت الربع، لشراء ما تحتاجه من الزينة، لكن يبدو أن الأسعار لم تنَل إعجابها كثيرًا، تقول: “آخر مرة اشتريت زينة لرمضان كانت منذ سنتين أو 3، وبكل الحالات أغسلها لتعود نظيفة ونستخدمها في رمضان التالي، إلا أنني قلت لنفسي ربما أجدد هذا العام، ويا ريتني لم أقل”.
تضيف: “بالنسبة إليّ أنا موظفة في الحكومة، وزوجي أيضًا، هو يقبض حوالي 6 آلاف جنيه وأنا 3500 جنيه، يعني أن راتبَينا لا يصلان إلى 10 آلاف جنيه بالشهر، إلا أن وضعنا أفضل مقارنة بغيرنا، لكن حتى الـ 10 آلاف التي قد يراها البعض مبلغًا كبيرًا، لم تعد تكفي للأكل والشرب والكهرباء، يوجد الكثير من الأشياء التي أود الحصول عليها هنا، لكن سعرها لا يسمح”.
بينما تتمشى في الشارع ستوقفك لافتة مثيرة للسخرية كُتب عليها: “الصورة عند الفانوس بـ 5 جنيهات”.
أرتني السيدة حبلًا كهربائيًّا نحاسيًّا فيه مصابيح صغيرة الحجم يقوم بالإنارة اشترته بـ 80 جنيهًا، وكانت قد اشترت مثيله قبل سنتَين بـ 45 جنيهًا كما تدعي، ومفارش للطاولة قد بلغ سعرها 200 جنيه.
بينما تتمشى في الشارع، ستوقفك لافتة كُتب عليها: “الصورة عند الفانوس بـ 5 جنيهات”، تلك الصورة التي أثارت سخرية رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر مؤخرًا، فبالطبع صاحب المحل لن يجد أحدًا ليشتري منه ذاك الفانوس الصاج الضخم الذي يبلغ سعره 3 آلاف جنيه، أي ما يزيد عن رواتب بعض المصريين في الشهر، لذلك يبدو أنه وجد طريقة أخرى لتحصيل سعره.
تتراوح أسعار الفوانيس الصاج تلك بين 650 جنيهًا أصغرها و3 آلاف جنيه، وبالطبع لا تجد زحامًا من المصريين عليها، فمشتروها معروفون من أصحاب المقاهي والمحلات والفنادق، أما الفوانيس الصغيرة هي التي تثير الاستياء هذا العام، حيث الفانوس الصيني المستورد تبدأ أسعاره من 50 جنيهًا وقد تصل إلى 500 جنيه، حسب الإمكانات.
عصام، مواطن مصري في الأربعين من عمره، كان يفاصل إلى جواري في سعر أحد الفوانيس الذي يبدو أنه فشل في الحصول عليه بالسعر الذي يريد في النهاية، وقرر ألا يشتري، يقول: “كنت أنوي شراء فانوس للعائلة لنضعه وسط المنزل ونفرح به، لكن لو شراء فانوس يكلف 150 جنيهًا، فأعتقد أن شراء بعض اللحم أو الدجاج أولى، إن الوضع الذي نحن فيه جنوني”.