لا شك أن مصر إحدى أكثر الدول تأثرًا بموجة تضخم أسعار السلع الغذائية بعد الحرب الأوكرانية الروسية، إذ يشير تقرير صادر عن البنك الدولي إلى أن نسبة تضخم الأسعار في مصر وصلت إلى 37.3% على أساس سنوي خلال عام 2022، ما يجعلها سادس أعلى دولة في معدلات التضخم في أسعار السلع الغذائية.
وأمام تخفيض قيمة الجنيه باستمرار أمام الدولار وزيادة معدلات التضخم، أصبح الجنيه المصري منهكًا. وفي هذا التقرير نلقي نظرة فاحصة على أسعار السلع الأكثر شعبية في الشهر الكريم على موائد المصريين، ونقارنها بأسعارها قبل عام، ونستكشف الحلول الحكومية لهذا الغلاء.
أن يصبح “الخُشاف” ترفًا
يشكل “الياميش” (فواكه مجففة) أحد المظاهر الرمضانية التي يحرص المصريون على استقبال الشهر الكريم بها، ولا يُعد الياميش الذي يرمز إلى التمور والخروب والمكسرات ترفًا زائدًا للمصريين، فهو يدخل في تكوين أغلب المائدة الرمضانية، فالمصريون منذ القدم، حرصوا على تناول مشروب “الخُشاف” على الفطور، لما يحويه من قدر معقول من السكريات التي تمد الجسم بحاجاته بعد صوم نهار طويل، وأيضًا التمر الذي يُعد الإفطار عليه سنة عن الرسول الكريم، كما أن المكسرات تدخل في صلب إعداد الكثير من الحلويات الرمضانية مثل الكنافة والقطايف والبسبوسة.
ولا يستطيع السوق المصري أن يوفر احتياجاته من الياميش سنويًا، لذلك يلجأ إلى استيراد أصنافه من دول كأمريكا وإيران وسوريا وتركيا، وحركة الاستيراد تلك هي التي تأثرت بارتفاع سعر الدولار، ففي رمضان الماضي كان سعر الدولار 16 جنيهًا مصريًا، وفي الموسم الرمضاني الحاليّ، وصل سعر الدولار إلى 30 جنيهًا مصريًا، أي أننا نتحدث عن زيادة تكاد تصل إلى 100%.
هناك بعض الأصناف الفاخرة التي وصل ارتفاعها لنحو 80% مثل الفستق الذي وصل سعر الكيلو فيه إلى 700 و800 جنيه بعدما كان سعره 400 جنيه قبل الأزمة، وهناك أنواع أخرى مثل البندق واللوز اللذين ارتفع سعرهما إلى 260 جنيهًا، وسعر القراصية الذي وصل إلى 230 جنيهًا مقابل 140 جنيهًا قبل الأزمة، والمشمشية التي وصلت إلى 380 جنيهًا مقابل 220 جنيهًا.
وإذا ابتعدنا عن الأصناف المستوردة، نجد أن الأصناف الرخيصة مثل البلح “التمر” محلي الصنع، شهد أيضًا زيادة، فقد وصل سعر الكيلو فيه بين 12 إلى 15 جنيهًا، إلى 6 جنيهات في رمضان الماضي، أما المستورد منه فتعدى سعره 40 جنيهًا.
“يصوم يصوم ويفطر على بصلة”
اخترع المصريون ذلك المثل الشعبي الشهير للدلالة على سوء الحظ وشقاء الحال الذي لم يسعف الإنسان بعد صيامه إلا أن يفطر على مجرد “بصلة”، وفي الواقع لا ينطبق ذلك المثل الآن على شقي الحال الذي ربما يصبح الإفطار على بصلة بالنسبة له ترفًا لا يستطيع تحقيقه.
شهر رمضان استثنائي، فمهما كانت طبقتك الاجتماعية فأنت حريص على ملء مائدتك على الإفطار بكل الأصناف والبروتينات التي ربما لا تأكلها إلا في مرات محدودة في أيام السنة الطبيعية لو كنت فقيرًا، فستأكلها أكثر من يوم في رمضان، فالأهالي عمومًا، اعتادوا استقبال رمضان بالكثير من الحيل على فقرهم، فهناك من كان يدخل نظام “جمعيات” أهلية لتوفير النقود التي ستتولى الإنفاق على المائدة طوال الشهر الكريم، وهناك من يدخر ويقتطع جزءًا من راتبه على مدار السنة من أجل رمضان، لكن في الواقع، ظلت تلك الحيل تتراجع فعاليتها في السنوات الأخيرة، في ظل عدم ثبات الأسعار ومواصلة تخفيض قيمة الجنيه المصري والمعاناة من معدلات تضخم لم يعهدها الشارع المصري من قبل.
البصل في بداية العام الحاليّ ارتفعت أسعاره بنحو 17 مرة مقارنة بسعره في موسم الحصاد في مايو 2022
أثارت صورة لبطة مجمدة سخرية الكثير من رواد التواصل الإجتماعي في مصر خلال الأيام الأخيرة، إذ وصل سعرها إلى 680 جنيهًا في أحد المحلات التجارية الكبرى، والبط هو ضيف خاص على المائدة المصرية يتكرر وجوده في رمضان بالتحديد، ومن المعروف عنه غلاء سعره، لكن أن يصل إلى ذاك السعر؟ هذا شيء عجيب!
إن الزيادة التي يعرض لها سعر البط الذي يمكننا أن نعتبره ترفًا زائدًا على المائدة المصرية ويمكن استبداله، قد وصلت ما بين 65 و80% عن أسعاره في رمضان الماضي، فقد وصل سعر الكيلو إلى 115 جنيهًا مقارنة بـ65 جنيهًا للعام الماضي.
لكن إذا نظرنا لأسعار السلع الأساسية وابتعدنا عن البط مثلًا، لننتقي أسعار بعض السلع الرئيسية التي تدخل في صناعة الإفطار في رمضان، نجد أن البصل في بداية العام الحاليّ ارتفعت أسعاره بنحو 17 مرة مقارنة بسعره في موسم الحصاد في مايو/أيار 2022، فقد سجل طن كيلو البصل الأحمر سعر 7000 جنيه مقابل 500 جنيه، والبصل الأصفر سجل 12 ألف جنيه للطن مقارنة بنحو 700 جنيه في موسم الحصاد الماضي.
ولا نجد الحال أفضل، إذا نظرنا إلى الارتفاع الذي وصلت إليه أسعار المكرونة والأرز، فقد بلغ الارتفاع في المكرونة نسبة 144% و62% للأرز.
وقد حققت الدواجن واللحوم والأسماك الكثير من معدلات الارتفاع في الأسعار، التي سنعود إلى مناقشتها لاحقًا، تبعًا للعديد من الأزمات التي شهدها السوق المصري.
الفول يتخلى عنا
في رمضاننا هذا، لن تقوم أمي بـ”تدميس” الفول كما اعتادت في كل رمضان، فبينما كانت معتاده شراء الفول لتعدّه منزليًا بكميات تغطي السحور على مدار الشهر الكريم، ستلجأ إلى شرائه من الخارج، ليس لأنه أرخص، لكن لأن إعداده في المنزل لم يعد موفرًا واقتصاديًا كما كان.
الفول هو الضيف الحاضر دائمًا على مائدة المصريين في السحور، لأسباب اقتصادية منذ القدم لأنه صديق الطبقة الوسطى والدنيا – أو كان كذلك -، ومن هم خارج تلك الطبقة يحرصون أيضًا على تناول الفول في رمضان كجزء من الفولكلور ومظاهر الحياة الرمضانية في مصر، لكن في ظل الأزمة الاقتصادية الحاليّة، كان الفول أحد أكثر السلع التي تعرضت لرفع كبير للسعر بسبب الدولار، حيث تستورد مصر أكثر من 80% من حاجاتها من الفول.
في رمضان الماضي كان سعر الدولار 16 جنيهًا مصريًا، وفي الموسم الرمضاني الحاليّ، وصل سعر الدولار إلى 30 جنيهًا مصريًا
وقد ارتفعت أسعار الفول بأنواعه “المستورد والبلدي والمدشوش الذي تصنع منه الطعمية” بنهاية العام 2022 في أعقاب الأزمة بزيادة وصلت إلى 52%، فوصل سعر الكيلو مع بداية العام للفول المدمس إلى 35 جنيهًا بعدما كان 23 جنيهًا، والفول المدشوش ارتفع من 18 إلى 25 جنيهًا، وهي الأسعار التي تشهد ارتفاعًا مترددًا في السوق المصري، فقد وصل سعر الفول المستورد في نهاية فبراير/شباط الماضي إلى 38 جنيهًا.
تلك الأسعار تنعكس أيضًا على أسعار الفول عند شرائه جاهزًا من المحلات، فبعدما كان يمكن للمواطن أن يشتري كيس فول يزن نحو 400 جرام من “عربية الفول” بجنيه واثنين جنيه، لا يمُكن له أن يشتري نفس الكمية الآن بسعر يقل عن 8 إلى 10 جنيهات للكيس.
هناك أيضًا أنواع وأصناف أخرى تضاف في السحور إلى جانب الفول، مثل البيض والجبن واللانشون وخلافه من مشتقات الدواجن والأبقار، وهي التي ترتفع أسعارها كنتيجة طبيعية لارتفاع أسعار اللحوم والدواجن.
حلول حكومية مُذلة
الجمعة 17 مارس/آذار 2023، وقف السيسي مزهوًا في إستاد القاهرة الدولي الكبير، وتحدث قائلًا: “منظر جميل جدًا وأنا سعيد بيكم، ومتشرف بيكم جدًا والله، ومش عارف أشكركم كلكم إزاي. إن إحنا نبقى موجودين ونلف على البيوت كلها ونخفف على الناس غلاء الأسعار من خلال الـ5 مليون كرتونة، بالإضافة إن فيه ناس كتير بتعمل كده، والهدف من ده نخفف على الناس في مصر في الأيام الكريمة دي”.
إن ذلك الفخر يأتي مما يراه من نجاح هائل لمبادرة “كتف في كتف” التي تتشكل مما يُدعى “التحالف الوطني” لمجموعة الجمعيات الخيرية والشباب المتطوعين الذين هموا إلى توزيع “الكراتين الرمضانية” على المصريين، يبدو ذلك مثيرًا للسخرية بعض الشيء، فالسيسي ونظامه ومؤيدوه كانوا قد شنعوا في السابق على الإخوان المسلمين لنهجهم في كسب أصوات المصريين في الانتخاب بكراتين “الزيت والسكر”.
وتدعي نيفين الكاتب عضوة التحالف الوطني أن الكرتونة تلك يمكنها أن تغطي احتياجات الأسرة المصرية المكونة من خمسة أفراد لمدة تتراوح بين ثلاثة أسابيع وشهر، وهو الادعاء الذي يبدو غريبًا جدًا، لكن منطقيًا إذا افترضنا أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد ستستهلك عينات من محتويات الكرتونة فقط.
لم تترك الحكومة للمصريين إلا الحلول المُذلة لمواجهة غلاء الأسعار في الشهر الكريم
وبعيدًا عن سياسة توزيع الكراتين المجانية تلك، حاولت الحكومة أن تواجه الغلاء من خلال معارض أهلًا رمضان المنتشرة في أنحاء الجمهورية، لكنها واجهت مشاكل أظهرت المصريين في صورة مُذلة جدًا من أجل توفير لقمة العيش، من خلال الطوابير والزحام المفرط.
تبدو الأسعار في معرض أهلًا رمضان – رغم غلائها إذا قورنت بأسعار العام الماضي – مغرية في ظل الأزمة الحاليّة، فكيلو الأرز يتراوح بين 15 إلى 18 جنيهًا على حسب النوع، أما في المحلات التجارية فيصل إلى 22 و24 جنيهًا، وزجاجة الزيت تتوافر بسعر 35 جنيهًا مقارنة بسعرها الذي يصل إلى 60 جنيهًا في المحلات، وتتوافر أيضًا اللحوم بأسعار تتراوح بين 150 و170 جنيهًا في ظل توفرها في الأسواق بين 220 و250 جنيهًا، وتصل أسعار الدواجن المستوردة من البرازيل في ظل الأزمة الحالية إلى 65 جنيهًا، كما أن أسعار الأسماك بأنواعها تنخفض إلى 30 جنيهًا في الكيلو الواحد مقارنة بأسعارها في السوق.
لكن المشكلة الحقيقية أن الحكومة تعتقد أن المواطن عليه أن يأكل كميات أشبه بعينات في شهر رمضان، فقد حددت نصيب الفرد الواحد من الشراء اليومي بزجاجتين زيت وكيلوغرامين من السكر ومثلهما من الأرز.
لم تترك الحكومة للمصريين إلا الحلول المُذلة لمواجهة غلاء الأسعار في الشهر الكريم، فالمواطن الذي يسعى لتوفير احتياجاته من الخزين الرمضاني عليه زيارة معارض أهلًا رمضان يوميًا لمدة أسبوع مثلًا، متعطلًا عن عمله ومصارعًا في طوابير تلك المعارض أو ينتظر إحسان التحالف الوطني بكرتونة رمضانية.