بعض الأفلام تعتمد في تكوينها الإبداعي على علاقتها الحميمية بالذاكرة الشخصية، تحرر مضامين ذاتية كالطفولة والعلاقات الأسرية بالتماهي معها كليًّا من خلال الصورة، وإعادة خلقها مجددًا بأبجدية أشد عمومية، وتشكيلها داخل أنماط فنية تنزع نحو عاطفة وتركّز على الشعوري أكثر من الحرفة الأدبية.
يتخفّف الفيلم من شكله الاعتيادي، يكتسب قيمة جديدة تتعلق بالانفعال اللحظي والإحساس بالمشهد، فيتحرك بانسيابية مفرطة ويمضي بين الأنماط الشكلانية المختلفة على المستوى البصري، ما يتيح إمكانية اختلاس خفقات زمنية تبدو في حياة بعض الأشخاص كانبعاثات عرضية، وحيازتها عاطفيًّا داخل صيغ بصرية معادلة للذكريات تعزز من قيمة الزمن وتحشد للحظات مهمة، تمددها وتكثفها، لتعيد تشكيلها وتمررها في ذروة تتعرض للداخلي.
يكسر الإطار التقليدي ويتعاطى أكثر مع المخيال والامتداد العاطفي للمشاهد اتجاه الحدث، وهذا ما يميز فيلم “بعد الشمس (Aftersun)”، ويميز أغلب الأفلام التي تخرج مباشرة من الذاكرة إلى الصورة السينمائية، كوسيط بصري للتعبير والمكاشفة والحكي.
الحميمية المفرطة والرقة البالغة في سرد شيء معتاد ويومي، مثل علاقة الأب وابنته في عطلة صيفية خارج البلاد، فالمنظور الاستثنائي يأتي من خاصيتَين مهمتَين، الأولى تتعلق بالمخرجة تشارلوت ويلز واتصالها بالذاكرة، والثانية ترتبط بمنهجية وطريقة العرض ذاتها، اختيارها للغة سينمائية تتآلف مع حجم وماهية المعطيات المنتقاة من الذاكرة، واختبارها مرة أخرى -وإلى ما لا نهاية- في المنتج السينمائي.
يكتسب الفيلم قيمته من كونه مراوغًا، يتحاشى وجودًا يقينيًّا على مستوى البنية، ويتماهى مع كونه عرضيًّا، فيميل إلى اختبار شعور جوهري يقع في تناوبات بين براءة الطفولة وثقل الأبوة المحمّل بالكآبة، ينشغل الفيلم بالمرور على لحظات وانقطاعات تبدو عرضية في سياقها، كمراقب يرصد لحظات عشوائية يجمعها سياق خارجي، لكنها في مجموعها لا تكون صورة إلا لخفقات عابرة.
تخرج عن حاجة ملحّة للبوح، بيد أنها لا تحاول الاشتباك بشكل مباشر مع المتفرج، تنشغل ببناء سردي مجازي يوازي في تركيبه استدعاء الذكريات في منحى أقرب للمخيال في خصوصيته، فالفيلم يتعرض لمساحة ملتبسة، سواء في علاقة الأفراد ذاتهم، أو على مستوى العلاقة ذاتها كمفهوم مستقل يمكن تفكيكه بشكل منفصل، فاستوجب التعاطي معه بنموذج سردي ينزع إلى الذاتية والشاعرية كمدخل لرؤية تتأرجح في لغتها السينمائية بين الواقعي والخيالي.
يقتحم الفيلم بسلاسة وخفة تلك المساحة الغامضة، الأبوة كتصوّر مبهم ومضطرب، وتستدعي -وهي الآن في عمر أبيها تقريبًا داخل الفيلم- ذكريات عطلة صيفية قضتها في تركيا مع والدها في عمر الـ 11 عامًا، ترتبط طفولتها آليًّا بتلك العطلة التي سجّلتها مع والدها على كاميرا فيديو، لتتحول صور الرحلة ومقاطع الفيديو إلى شهادة توثيق أو تأريخ لطفولة صوفي (الممثلة فرانكي كوريو)، التي تكبر وتشتبك بالضرورة مرة أخرى مع طفولتها من خلال الشرائط، لكن هذه المرة في موقف أبوة أو أمومة صريح، ومن نقطة الاشتباك الصريحة التي تعتمد في مجملها على النوستالجيا والاستدعاء.
لا يأخذ الفيلم موقفًا من الأب أو من الابنة، بل يزجّ بهما في عنفوان الصورة، ويغذّي نوعًا من الرؤى المحتجبة للطبيعة الأبوية التي تتسم بكبرياء يفرض لعبة الإخفاء الذاتي والغياب الشخصي للمعاناة، خصوصًا مع انفصال كولم (الممثل بول ميسكال) عن زوجته، وصغر سنّ ابنته صوفي الذي جعل من التخفي خاصية ديناميكية لإبقاء اللحظة الراهنة ومنعها من الانفلات داخل الكئيب والموحش.
بيد أن لحظات من التملُّص وخلع الكبرياء ترصدها الكاميرا برقة وثقل، لحظات خاطفة من التعري المؤقت تكشف هشاشة الفرد ومعاناته الداخلية، ومعاركه الأكثر خصوصية التي تبدو ثانوية داخل العلاقة الأبوية القائمة على منح مشاعر حب واهتمام لا نهائية، إنما العلاقة هنا مضطربة، كونها مبتورة وليست مبرَّرة في السياق.
فالفيلم زمانه وقيمته الحكائية يُكتسبان من الابنة صوفي وليس الأب، فالابنة تتعرض لنفسها في مواضع معينة، تعيد تفكيك التاريخ الذاتي لكن برؤية معاصرة لنضوجها وخبراتها الحياتية المكتسبة بالزمان، فالأمر هنا لا يتعلق بمدى أحقية فرد عن الآخر، بل يتأمل في ظاهرة مركّبة لا نهائية، مستنسخة في معظم نماذجها لأنها تخضع لقولبة الأنظمة الاجتماعية.
هذا بالإضافة إلى كونها غير مفهومة، تستعيدها بلمحة زمانية مدهشة، بحيث تتمكن من رؤية سلوك فردي في ضوء خبرات جديدة مكتسبة، تمنحه خواصًّا استثنائية، بحيث تفقد اللحظة استقلاليتها الزمانية، وتدمجها بسياقات جديدة على ضوئها يتجاوز الفيلم اللحظة التأريخية ويتحرر من زمانه، ليبرز في شكل إشكالية اجتماعية شائكة.
ومن خلال استدعاء سلوك معيّن في موقف يحمل خصائص مشابهة للموقف الشخصي في اللحظة الراهنة، يحدث نوع من المقاربة، ليس تبادلًا للأدوار بقدر الانخراط داخله أكثر، اكتساب انفعالات جديدة اتجاه السلوك أو الدور، الكراهية والنفور أو التعاطف والشعور بالذنب.
فقد كبرَ الصغار، وتورّطوا في الحياة، وطوّروا القدرة على رؤية بشكل أقرب للحقيقة من النموذج الرومانسي الخيالي للعلاقات الأسرية والحياة المثالية للشخص الناضج، طوّروا قدرة على الشعور بالذكريات، لأنهم يواجهوا صورًا واقعية منها الآن، بعيدًا عن الاختباء خلف النمط التقليدي للواجبات الأبوية أو الحياة الفردية.
سردية المخرجة شارلوت ولز مبتورة، منقوصة عمدًا، كل مسارتها وتكويناتها توحي بالضبابية والرؤية المشوّشة، كل شيء مترابط بطريقة ما، بيد أن الصورة الكاملة محجوبة عن أعيننا، علاقة الأب مضطربة بكل شيء، حتى لو بدا كل شيء هادئًا، علاقته بابنته ملغزة، يعلّمها الدفاع عن النفس ويمرح معها، ثم يرفض الغناء بصحبتها في حفلة كاريوكي على أنغام أغنية Losing My Religion التي تتحدث بالنيابة عن صوفي.
والحقيقة أن تطويع أغنيات أيقونية في سياق الحكي أضاف الكثير من العمق للسردية، في بعض الأحيان يترك المرء ذاته لكلمات الأغاني تنطق عنه، لتتحول الأغنية، بالأداء الحركي وعينَي الفتاة وخجلها المربك وصوتها الذي تمسّه طبقات من الحزن، إلى أداة عتاب.
“الحياة كبيرة، أكبر منك، ونحن لسنا متشابهَين… ها أنا في الزاوية، داخل بقعة الضوء، أفقد إيماني، محاولًا مجاراتك، ولا أعرف إذا كان بإمكاني ذلك”، كلمات الأغنية تُكسب المشهد ثقلًا ووطأة موسيقيَّين، تغلّظ من وقع الفعل على الفتاة، وتعمّق من الموقف ليأخذ منحى مختلفًا وأكثر جرأة وجدية.
يكثّف الفيلم سرديته في المتن، يعرض لفكرة مركزية، لا يحاول أن يحيد عن سرديته بأي طريقة، يرسم لنفسه حدودًا واضحة تتيح له كشف ذاته، بحيث يتحول مع الوقت إلى خلق بلا أذرع أو تفريعات، لا تسمح لنا المخرجة بالتعرُّف إلى أي شيء خارج عن إطار الفعل المضارع، فالفيلم في مجمله فيلم شخصيات.
شخصيتان تتناغمان وتتنافران في محيط ديناميكي، لا نفهم أي شيء خارجهما، غير مسموح بالاتصال بالعالم الخارجي عمومًا إلا عن طريق أدوات مجردة، سماعيًّا عن طريق الهاتف في الفندق، أو عن طريق كاميرا الفيديو، لذا عالم الفيلم ينحصر داخل الصورة المكانية المؤقتة لطبيعة الرحلة، ويفرض أنماطًا معيّنة، ويلغي أخرى يراها غير مفيدة في السرد.
لذلك شخصية الأب تبدو مبتورة، دون ماضٍ أو مستقبل، إنها شخصية متورطة في اللحظة الجارية، شخصية متناغمة على نحو ممتاز مع واقعها الخارجي، على علاقة جيدة مع زوجته السابقة وابنته، لكنه لا يتسق مع نفسه على المستوى الداخلي، ما يولّد نوعًا من التناقض.
تدير شارلوت ولز كاميراتها بخفة ونعومة، ترتفع بحساسية شديدة متناسبة مع النسق الهادئ للمكان وطبيعة الرحلة، تشغل سرديتها بلغة سينمائية تميل إلى التوثيق أو موازاة التاريخ بتوظيفها لكاميرا فيديو كأداة سردية، كإطار داخل الإطار، عالم داخل العالم، عملية رؤيا مضاعفة تتعلق بالمخيال وتتحرك بسهولة بين ما هو داخلي ذاتي وخارجي معهود.
أغنية “تحت الضغط (Under Pressure)” تمثل لحظة التنوير، الاشتباك الكلي مع الذاكرة في تمظهر مادي، بحيث تكثّف الذاكرة صورًا وبنى بصرية وتضغطها لخلق نتيجة مجسّدة، تسلسل بصري حالم وشاعري، لكنه ما زال يحتفظ بقدرته على المراوغة، ما زال ملتبسًا ومظلمًا وغير مرضي، ثائرًا وغير تقليدي، هيئة مجردة لامتداد مزيف ما ورائي وتجريدي، تطويعًا لقدرة السينما على تجميد الزمن، اختلاس لحظات مجردة ومحضة وصبّها في نموذج بصري، لإعادة تشكيلها بطريقة تنزع نحو حدوث واقعة صدامية.
وامتداد الذاكرة هنا يؤسّس لنموذج سائل، بحيث يلتقي زمانان مختلفان، نموذجان يقفان عند اللحظة نفسها تقريبًا، بيد أن الاثنين يختلفان في أدوارهما داخل التسلسل المشهدي، فالأب هنا يستدعى قسريًّا في متتالية تعبّر عنه بسلاسة دون اختباء أو تظاهر، أما الابنة فهي المحرك المركزي الذي يختبر الفعل وردّ الفعل، يتحقق وجوده بالكشف والمواجهة، يريد أن يعرف بوضوح ماهية اللحظة الزمانية التي تقف عندها الطفلة والفتاة الناضجة.
صوفي في كلا النموذجَين عندما تستحضر صورة الأب تغرق في ذاكرة منفصلة، ذاكرة مكثَّفة عند نقطة زمانية معيّنة، محصورة في تلك البقعة التي تتبدّى لا نهائية، تريد صوفي أن تفكك تلك النقطة الزمانية بشكل نهائي، لتحلَّ الإشكالية.
موقع الحدث: شريط صوت يصدح بالمجاز، ينحلّ في صوتَين، صوت للعالم وصوت للذاكرة، صوت للمادي وصوت محمّل بالمُدَد الزمنية، صوت للرقص وآخر للأصابع المخدرة والأضواء الخافقة والعيون المتسعة المحدقة، صوت سماعي والآخر بصري، صدامي، يضغط كبسولة الزمن ويفرغها في شحنات مفزعة.
فأغنية “تحت الضغط” لفرقة كوين وديفيد بوي تظهر وتكشف أكثر ممّا تخفي، فالوقع السماعي يشتبك مع المناوشات الداخلية، يحدث انفراجة شعورية وتخفُّفًا محبّبًا، والرقص كحركات جسدية يتماشى كليًّا مع الطاقة المفرغة، في موازاة مع الكلمات المنغومة والأيقونية:
“تحت ضغط يشعل المباني، يفرّق العائلة إلى اثنتَين، ويلقي بالناس في الشوارع… إنها رهبة إدراك ماهية العالم، مراقبة ثلّة من الأصدقاء الطيبين يصيحون: أخرجوني”.
تتسق الكلمات مع المزاج الحركي والإيقاع المشهدي، للرقص قيمة أكثر شاعرية من ضخّ الدم وإحماء الجسد، إمكانية التحرر ولو جزئيًّا من الضغط، الانفلات من ثقل الحركة وضبط الإيقاع الموسيقي يعني الانفراج اللحظي، وللأغنية إيقاعها الخاص، زمانها الذاتي، معادل لسهم الزمن الطبيعي.
ومع امتدادها إلى الأمام تبدأ المخرجة بتكثيف وبلورة اللحظات المشهدية، لتمرَّ الصور ببطء كونها ممزوجة بالظلام كأداة تعبيرية، خفقات من النور تزجّ بنا في مساحة ملتبسة، مظلمة، تشتبه فيها الأشياء، يتطلب الأمر الكثير من التركيز والوعي العاطفي والمرئي بالمتوالية البصرية لأخذ جرعة مكثفة من الانفعال والكآبة، وتبدأ الأغنية بالحركة هي أيضًا، في عالم موازٍ يتجاوز حدوده المنطقية.
مرقص ليلي ينتثر فيه الضوء في خطوط وخفقات، وعلى أرضيته تبحث صوفي الناضجة عن والدها، فيما يسافر صوت ديفيد بوي وكوين إلى بُعد آخر، يتناجيان في أمد مؤقت وكاشف، فيقول الاثنان: “أشيح وجهي عن كل شيء مثل الأعمى… أجلس على السياج بغير جدوى”، ويردُّ بوي: “أستمر في ضخّ الحب غير أنه ممزق ومشقوق”، فيصدح فريدي: “هلا نمنح أنفسنا فرصة أخرى؟ لم لا نغدق على تلك الفرصة حبنا؟ لم لا نمنح الحب، نمنح الحب، نمنح الحب؟” ليتصدى له ديفيد بوي، ويخلق لحظة التنوير: “لأن كلمة الحب دقة قديمة، لأنه يحثك على الاعتناء بالناس في شفا الليل… الحب يحثنا على تعديل أسلوبنا في رعاية أنفسنا… إنها رقصتنا الأخيرة… إنها رقصتنا الأخيرة… ها نحن ذا”.
الأمر أشبه بمناجاة سماعية تنعكس على الشاشة، اشتغلت الموسيقى بذكاء كجسر ممتدّ بين الذاكرة والصورة، فتجاوزت الذاكرة قدرتها على التجسد المادي، وأخذت من التناغمات الموسيقية جسدًا لها، لتشتبك مع المنتج الإبداعي في عملية تنوير راقصة، فالكلمات تستعطف الحب، وفي الوقت نفسه تكشف مدى قسوته.
هناك ثمن يجب أن يُدفع من أجل الحقيقة، من أجل التعرُّف إلى شخص ما، هناك ضريبة للتعري والمعرفة، أغنية فريدي وبوي كانت بمثابة تفريغ الضغط الخارجي وتكثيفه عند نقطة مكاشفة داخلية، تكثيف الضوء في البقعة التي لا نراها، ولا نودّ أن نراها أبدًا.
لقد أحب الأب ابنته صوفي بكل ما ملكت روحه، بطريقته الخاصة، وحركاته التأملية المضحكة، وقسوته المؤقتة، وفكاهته المجنونة، وأفعاله غير المبررة، لكنه لم يحب نفسه، فحياة الكبار، خصوصًا الآباء، لا تُعاش ببراءة ولا سهولة، لذا انحجب الأب داخل ممارسات ذاتية انفرادية، داهمه شعور بالذوبان داخل أنماط من البكاء ومحاولات الانتحار، التحديق في الهوة، الوقوف على سور الشرفة أو الركض نحو بحر هائج.
لقد دفنَ نفسه في محاولات إيذاء للذات، سعي يبدو مؤقتًا، يرجو الفرار من العالم رغم كونه يقضي وقتًا ممتعًا مع ابنته، شعور رغم أنه يتمظهر في أساليب مؤقتة وغير جدية، يجعل من السردية ذاتها منفتحة، كل شيء يبدو مرتبكًا، ليس في وضعه الطبيعي رغم الضحكات والعطلة الممتعة.
غير أنها لم تفهم ذلك، كانت مشغولة باكتشاف ذاتها، كما يفعل كل الصغار، وشعرت في وقت ما، في نضوجها كونها أمًّا، أنها بحاجة إلى إعادة الشريط، لتراقبه بعين أمّ ودّعت الطفولة، لترى أباها الحقيقي.
ولم يبقَ لنا -كمشاهدين- سوى ارتياب يتولد وفقًا للنظرة الأخيرة حول مصير الأب، كان على صوفي تتبُّع العلامات وتخيُّل سيناريو موازٍ لأحداث ربما بعضها لم يقع أصلًا، لتصل إلى لحظة المكاشفة، التي ترى فيها والدها وتدفعه عنها، كأنها تدفع عن نفسها حمّى كابوسية لا قدرة لها على احتمالها.