في البداية كان السكون اللانهائي، وعند الانفراجة الأولى انفرط عقد الزمان، لينحبس الجسدي/المحسوس ضمن مساراته، محوي داخل امتدادات السكون وانحناءات الحركة، في نزوحٍ أبدي نحو المجهول، بمقاربة مسيحية يتمشى/يركض/يتحرك فوق قوام الزمن السائل، يسير فوق الماء، يتشكل كرحالة مشاء فيما هو ساكن مثقوب، بيد أنها ليست معجزة بل محاولة لمجاراة الواقع المجازي للزمن، من خلال التحايل في مواضع معينة تثمن المدد الزمنية بخلق إيقاعها الخاص أو تجذب الأقدام الميتافورية نحو الغرق: الألفة/الأنس، الملل/الألم، الحركة/الإبداع.
ثالوث جوهري يؤسس عليه المخرج مارتن ماكدونا سرديته السينمائية، ويوفر مدخلًا لفهم طبيعة الزمن وآثاره على الشخصيات، ومن خلال تضمين الموتيفات الثلاث داخل التيمة الأدبية لسيناريو مغلف بالخرافة كوعاء شامل للمفردات الإنسانية، ودمجها مع رؤية بصرية وواقع تاريخي مهم وحاضر، يمنح المنتج الإبداعي عمقًا كافيًا، ويبني طبقات تفتحه على التأويل.
يشف العنوان عن علاقة متداخلة بين الخرافة الشعبية والصفة المكانية، فالاسم يأسر روح صاحبه، صورته النمطية حال رؤيته، ذاكرته الخاصة وتاريخه، كليته، صفاته المكانية وسماته الديموغرافية والطبيعية، علاقة من الاختزال الرضائي المحبب، فيقدم ماكدونا عنصر الخرافة على الوسم المادي والهوية المكانية، كأنها تخلق هويتها الخاصة داخل العنوان “بانشي إينيشيرين” أو “جنيات إينيشيرين”، ليمنح الفيلم خاصية فلكلورية سحرية تؤسس لمدخل فوق طبيعاني يطوق السردية حتى لو بشكل ثانوي.
فالبانشي/المعددة/المرأة الجنية لم تظهر على الشاشة إلا على استيحاء، حتى فقدنا – بطريقةٍ ما – الوعي بوجودها مع تصاعد الأحداث، بيد أنها تقف راسخة داخل العنوان الرئيسي والمفتاح الأساسي لدخول العالم، وبناءً عليه لا يمكن إنكار حضورها كتيمة أكثر شمولية واتساعًا تحيط السردية وتغذيها حتى تخلق الذروة النهائية، الأمر أشبه بتحقيق النبوءة، فيجب إيجاد المنهجية المناسبة لتمرير النبوءة داخل العالم حتى يتسنى للسردية الامتداد والتفرع لبلوغ النقطة التي يمكننا خلالها اختبار النبوءة على البطل بشكل يمنطق نفسه قياسًا بقوانين العالم الداخلي المعروض على الشاشة.
في كتابه “الأسطورة والمعني”، يضع فراس السواح تعريفًا للأشياء فوق الطبيعية مثل الخرافة والأسطورة ويحاول تحديد علاقتها بالأشياء، ويضيف أن الأسطورة تهضم الواقع التاريخي والديني وتحيله لشيء آخر، فهي مرتبطة بأشكال تأملية مرنة.
وبالنظر إلى هذه النقطة، أي مرونة الإطار الفلكلوري، يمكننا رؤية مدى جدوى استخدام المخرج للخرافة في الفيلم، فالخرافة ليست نسقًا مقحمًا أو موتيفًا عبثيًا، بل إضافة مهمة للعمل الفني، فهي تعمل كوعاء يغلف الأقصوصة، تموضع نفسها في موقع ملتبس، حيث يشكك المشاهد في جواز وجودها في الأساس، فتأثيرها على سير الأحداث يمكن إرجاعه للطبيعة، إلا أن تمظهراتها ونبوءتها هي من تخلق تفردًا يتوحد مع الواقع المذري ويهيئ المشاهد للصدمة، ورجوعًا لفراس السواح:
“فالأسطورة تضع الإنسان بكليته في مواجهة العالم، وبجميع ملكاته العقلية والحدسية الشعورية واللاشعورية وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل تقديم رؤية متكاملة لهذا العالم، ذات طابع كلاني يعادل تجربة الإنسان الكلانية وغير المجتزئة معه”.
إذًا فالطبيعة الكلية والشمولية للأسطورة والخرافة تضيف بعدًا جديدًا للقصة، تجعل التجربة ذات طابع كلاني، ذا خصوصية، يعتمد في تكوينه على الآلهة والقوى الماورائية، بيد أنها في بقعةٍ ما، تنجح في أن تؤنسن الظواهر الماورائية، بحيث تتسق وتتآلف مع السياق الممتد للحكي، بل تضمن نفسها.
وعلى العكس تتضمن هي الأخرى القصة والحكاية الرئيسية بشكل أصيل، لأنها تعتمد بطريقة غير مباشرة على وسائل الترميز، فالمرأة العجوز ترمز لوجود القوى الكبرى مشخصنة داخل رمزية السحر والقوى الفوق طبيعية.
تغذي الخرافة وجودها بامتداد الزمن، تعيد خلق ذاتها لتأخذ أشكالًا وأنماطًا جديدة، وفقًا لطبيعة البنية الاجتماعية، فالأجناس الحكائية الماورائية تجد مساراتها الخاصة في أشد المجتمعات حداثةً وتعقيدًا، إلا أن طبيعة نموها التلقائي تميل للمجتمعات البدائية الأقل تحضرًا.
فالنمط الاجتماعي يحدد مدى تضخم وتأثير الخرافة والفلكلور، لذلك فتموضعها الأولي داخل الفيلم يشكل مساحة صغيرة، عتبة بدائية، لكن امتدادها يأخذ شكلًا مع تقدم السردية، فنموها العفوي واتساعها البديهي يساهم في الدهشة الأخيرة، فالإنسان بطبيعته لا يجد نفسه خارج العالم الذي يعمل على فهمه، إنما في نقطةٍ ما، لا يمكن فصل الخرافة والأقاصيص والأجناس الحكائية الأخرى عن الواقع والنسق الاجتماعي، مثل الديانات الأخرى تترسخ بطبيعة مجردة داخل أذهان البشر، حتى لو حاولوا رفضها بكل الطرق، ستظل بقاياها “معششة” في الدماغ كبنى فكرية مجردة.
يستهل ماكدونا فيلمه بلقطات بصرية بديعة، كادرات فوقية متسعة ترصد الغطاء الطبيعي وتناغمات المكان، ثم ينقلنا مباشرة إلى العقدة، في أول خمس دقائق من الفيلم تعرف – بطريقة واضحة ودون مقدمات – الإشكالية الكبرى التي تواجه أبطال الفيلم، صديقان يعيشان على متن جزيرة إينيشيرين الخيالية، خلال الحرب الأهلية الآيرلندية عام 1923، يقطع أحدهما صلته بالآخر فجأة.
والحقيقة أن الموضوع لا ينقل صدمة للمشاهد، رغم أنه يجد نفسه متورطًا في سردية مبتورة، لا نعرف لها ماضٍ أو دوافع محفزة، فالفيلم ينتقل إلى الأمام فقط، يجاري سهم الزمان، لا يلتمس الاستفهام أو الاستيضاح من خلال لقطات الفلاش باك، لذلك فبطن القصة مبني للمجهول، مخفي بين أكوام الذكريات في خزانة الماضي، ليبدأ ماكدونا من الفورة الأولى، لا يغذي المشاهد بالتصاعد الدرامي الذي ساهم في خلق المشكلة، بل يعرض لتأثير المشكلة ذاتها على الأشخاص، غير أن المشاهد لم يتحسس أذرع مقعده أو يتحرك إلى حافة الكرسي، بل ظل مرخيًا على ظهره، لأنه لا يشعر بالخطر، لا يتلمس جسامة المشكلة، فإذا قطع صديق علاقته بالآخر، بسيطة، سيجد صديقًا آخر، خصوصًا أننا نعيش في مجتمعات استهلاكية، البدائل متوافرة لكل شيء، إلا أن المجتمع ذاته مختلف، وهذا ما يمنح العقدة أهميتها، ويسمح لها بالتطور والتمدد.
يضع ماكدونا قيمة الصداقة في اختبار حقيقي أمام عين المشاهد في مجتمع يقدس مفهوم الألفة/الأنس، فمفهوم الصداقة يتجاوز التصور السائد للعلاقة الوثيقة بين فردين أو أكثر، وتكتسب قيمتها – خصوصًا في بيئة مثل إينيشيرين – كونها تؤسس لنمط حياة كامل، وتخلق مسارات وأساليب خاصة للتعايش والتكيف والراحة، أي أنها عنصر يمثل الأرضية الحقيقة للواقع الاجتماعي الذي يؤثر بدوره على الحالة النفسية، خصوصًا في المجتمعات الأقل تطورًا، حيث يتشابه جميع الأفراد في نمط الحياة ووسائل الترفيه والحالة المادية.
فلا تثمن تلك المجتمعات فردًا عن الآخر، وتتقلص الفروق الفردية وتتساوى الرؤوس، لذلك فهي تتحرك بفاعلية الألفة/ الأنس، أي تدفع عجلة الأيام، وتساهم في قضاء الوقت، لكن الفارق في حكاية ماكدونا، أن الألفة تسكن كل زوايا الجزيرة، الجميع يعرف بعضه، لكن لا توجد بدائل، فالصديق الأقرب إليك ليس له بديل، وعلى الرغم من قلة عدد أفراد الجزيرة، إذا بحثت ستجد صديقًا، إنما المعضلة هنا ليست في البحث عن صديق جديد، بل في البحث عن تبرير للقطيعة، لانعكاسها الواضح على نفسية الشخص.
فإذا استيقظت فجأة ووجدت صديقك يتحاشاك أو لا يود مقابلتك، ستتحول هذه الأفعال إلى إشارات لخطوبٍ وأسئلة توجهها لنفسك، هل أنا شخص سيئ؟ الشيء الآخر يكمن في اعتيادية اللطف والألفة بين أفراد الجزيرة، ومع القطيعة الأولى ستتحول مشاعر الألفة/الأنس إلى شيء سائد، ضروري لكنه غير كافٍ لرؤية العيوب أو الأخطاء، أو تحاشيها نهائيًا، يكمن عمق شخصية بادريك (الممثل كولين فاريل) في إدراكه لوجود خطبٍ يكمن داخله، لكنه لا يتعرف عليه، لا يقدر على استيعابه، ويظل يلف في دائرة مفرغة، لماذا تركني كولم (الممثل براندان جليسون).
وعلى الجانب الآخر، فأفعال كولم غير مبررة، يرمي بحجة الملل – موضوع شديد التعقيد – في وجه بادريك الذي لا يدرك أصلًا وجود الملل في الجزيرة المحاطة بالألفة من كل جانب، لقد قتلت الاحاديث الجانبية مفهوم الملل بالنسبة له، حتى إنه لا يفهم ما يروم إليه كولم بالانفصال والقطيعة.
الملل، سطح ناعم، أرض ملساء، تكرار لا نهائي لذاكرة بيضاء، رواق مجوف لا نهائي، جدرانه زائفة وبطنه فارغ، يفتقد للسمات الشكلية، بلا وجه أو هوية، لا يصنف كونه اغترابًا، إلا أنه يفقدنا بطريقةٍ ما اتصالنا بالعالم، يجردنا من الاهتمام والتعاطي المتبادل مع الواقع، نسير الهوينا مع الزمان، بلا إرادة، رقصة العرائس في مسرح خالٍ من كل شيء، الملل يسلب مهارات الإحساس، الحزن والفرح والحكمة كلها في حضرته بلا معنى حقيقي، يجرد المرء حساسيته تجاه الجمال، فهو أقل قدرة على جذب الجمال، وخلق الإبداع، جسم خامل يفتقد للدهشة، يصف الكاتب والفيلسوف النرويجي لارس سفيندسن الملل في كتابه (فلسفة الملل):
“الملل منفر مقارنة بالجمال، كما أنه يفتقر إلى جدية الاكتئاب، لذا فهو أقل إثارة للاهتمام بالنسبة لعلماء النفس والأطباء النفسيين مقارنة بالاكتئاب والحزن، يبدو الملل ببساطة تافهًا أو مبتذلًا ليخدم استقصاء وافٍ”.
لذا فالملل ذاته يسقط عن الدراسات الأكاديمية حسب كلام لارس، لأنه مصطلح مائع فاقد للهوية لا يمكن حصره أو الاستدلال بشكل يقيني على أسبابه، ما يجعله أقل جاذبية، لأنه لا يعكس حالة معينة، ولا يمكن ضبطه، يكمل الباحث في كتابه ويضيف أن الشخص المصاب بالملل لا يعرف بشكل قطعي إذا كان مصابًا بالملل، ولا يمكن تشخصيه، عكس الحالات الأخرى، إذًا فمهوم الملل ذاته وصوره ومدلولاته شديدة الالتباس، ما ينعكس على عمق شخصية كولم الذي يمرر الإشكالية كموضوع تافه: “لقد مللت منك يا بادريك”.
والحقيقة أن الملل يعني لدى الإنسان أكثر من كونه معبرًا عن الضجر، الملل يشير إلى قصور في إيجاد المعنى، وتغيب الدلالة الجوهرية التي تدفع شخصًا ما للتقدم في الحياة، فيدرك فجأة، فيما هو غارق في بركة الملل الراكدة، إنه يجب أن يسبح إلى الشاطئ، يشير سفيندسن لتلك النقطة:
“أدمن البشر على المعنى. لدينا جميعًا مشكلة جسيمة: يجب أن تشتمل حياتنا على موضوعٍ ما. لا يمكننا تحمل العيش دون نوع من المضمون الذي يمكنه بلورة معنى. اللا معنى مضجر. ويمكن وصف الملل مجازيًا على أنه انسحاب للمعنى، ويمكن فهمه كإزعاج يشير إلى أن الحاجة لوجود معنى غير مشبعة. لإزالة ذلك الإزعاج، نهاجم الأعراض بدلًا من المرض نفسه، ونبحث عن كل بدائل المعنى”.
إذا، فالنظرة السائدة للملل كشيء عرضي وتافه لا يؤثر على حياة الأشخاص أو سير الحياة هي نظرة ساذجة وسطحية، لأن الملل يحمل داخله معنى أعمق، ويشير بوضوح لخلل في منظومة الحياة ومسارته الاجتماعية، إلى جانب ذلك، فللملل آثاره التاريخية، وجوده يثير حوادث ووقائع مهمة، يفاقمها ويسمح لها بالتمدد، ويمحي بعضها أيضًا بشكل يبدو غريبًا، يثير سفيندسن تلك النقطة في كتابه:
“لا يمكننا القول إن الحروب تبدأ بسبب الملل، على الرغم من حقيقة اندلاع بعضها مصحوبًا ببهجة واضحة.. بيد أنها وضعت نهاية للعديد من الشرور، لسببٍ بسيط، أنها أضحت مملة للغاية تدريجيًا”.
يوضح الاقتباس أن تأثير الملل يتجاوز الفردي وينتقل للجماعي، أي أن تأثيره ممتد ومحرك لإشكاليات كبرى، ما يجعلنا نفكر في عقدة انفصال الصديقين بشكل أكثر جدية، بحيث لا نكتفي بإسقاطها على الحرب الأهلية التي تبدأ لأسباب تبدو تافهة أمام فداحة قتل أبناء الأمة الواحدة لبعضهم البعض، بل نحاول التغلغل داخل المروية البصرية ورؤية الامتداد الفلسفي والنفسي داخل السردية.
من خلال تجربة تفكيك الملل في سياقات مختلفة عن السائد، والتعرض لثنائية يوازي فيها الملل الألم المعنوي والوجودي، وفي ضوء تلك الثنائية الملل/الألم كوجهين لعملة واحدة سنخرج بمنظور مختلف عن القصة التي تبدو بسيطة، سنلاحظ طبقات أعمق وأكثر أهمية من الحضور التاريخي للحرب الأهلية.
فالحدث التاريخي بالنسبة لسكان إينيشيرين شيء بعيد، يعتمد في وجوده على المخيال، حتى يرقى إلى درجة من الوعي يفقد فيها – الفعل – وحشيته ووطأته على النفوس، لذلك فتهميش حدث تاريخي بهذه القيمة يسمح للأفراد بحرية الحركة، مستقلين عن عامل جذبٍ قوي، يدركونه بعيدًا فيثير التساؤل أكثر من الاضطراب الحسي.
يحاول كولم فجأة، بعد أن دارت عليه دوائر الزمان، أن يتلافى الوقوع في الخواء واللاجدوى، ويلجأ للحركة/الإبداع، يضع الرجل هدفًا واضحًا لنفسه، يخلق معنى ينتشله من الضياع، يقرنه بقدرة إبداعية تتماس مع خبرته في لعب الكمان، ويكرس وقته المتبقي ليؤلف قطعة موسيقية، لعلها تخال على الزمان، تراوغه، مثلما راوغه موزارت وغيره من المبدعين، وفي الإمساك المجرد بالمعنى/الهدف، تحدٍ صريح للزمان.
فالحركة/الإبداع يعملان كمثبطات لعنصر الملل/الألم المحمل بأطنان من البطء والثقل الزماني، لتشتبك السردية – في جزئيةٍ ما – مع فلسفة شوبنهاور، وتتعاطى مع الفن كمخلص لحظي، كمزيل للألم، لكنه بأي خال لا يصل إلى النشوة أو اللذة الكبرى، وهو ما يرصده الفيلم، فشخصية كولم معذبة، جسديًا ونفسيًا، خصوصًا مع انتقال العقدة من حديثٍ شفهي إلى مستوى جسدي يدفع بالسردية إلى مساحة جديدة كليًا.
فالمنطق تجاوز الإحساس الحر بالجسد ليصل إلى إيذاء الذات بطريقة وحشية، وإيذاء الذات يرتبط ضمنيًا بممارسات تطهيرية، ومن خلال تلك الممارسات – في بعض الديانات – يحاكي المصليين آلام حادثة معينة أو يكفرون عن خطايا سابقة، ومن خلال تلك الممارسات التي تصل إلى حد إدماء الجسد تتطهر الروح، لكن الوضع هنا مختلف، فالأمر لا يتعلق بجلد الذات أو جرح الرأس، بل بقطع الأصابع، ما يتنافى مع روح الدين، ويتعارض مع قدرة كولم الإبداعية التي تتعلق باللعب على آلة الكمان الوترية، بيد أنه كان عليه أن يضع شيئًا على المحك، شيئًا يساوي قيمة صديق عمره.
ومن خلال الألم الجسدي – حرفيًا – يتخلص كولم من الألم الروحي، يتجرد من مجاز الخيانة، وذنب التخلي المروع الذي يتجاوز في فداحته الحرب الأهلية بالنسبة لبارديك، فالتضحية بإصبعٍ تساوي خواء بادريك، وقطع الثاني يعادل وحدته، وقص الثالث يضاهي لطفه، وبتر الرابع يوازي محبته، أما الخامس لأجل دأبه اللانهائي وأفكاره الأكثر سذاجة، أصابع الكف الخمس تناظر صفات/مشاعر أتلفتها القطيعة بطريقة غير مباشرة وأبدلتها بأخرى، غير أنه على الناحية الأخرى، يكثف تلك المشاعر ويعززها لدى بادريك، فيأخذ الفعل أكثر من شكل خلال تفكيكه، يكتسب سيولة يتحرك من خلالها في أشكال وأنماط متعددة، فهو سلوك ناقم وعنيف يندرج تحت بند تدمير الذات Self Destructive Behavior، وفعل تطهيري بغرض التكفير، إلى جانب ذلك يمكن أن يتبدى كتدبير وحشي أبله، فالفعل يحمل عدة أوجه تجريدية ومجازية، لكنه يظهر بوجه بصري واحد.
وفيما يعتمد كولم على الحركة/الإبداع يعتمد بادريك على الألفة/الأنس في تسكين الألم الذي خلفه صديقه، يحاول وصل العلاقة مرة أخرى، لكن الأمور تواصل التعقيد، والمفارقة هنا أن الألفة/الأنس يطبعان حياة بادريك ويخلقان مساراتها ويشكلان وجاهتها الاجتماعية، فهو شخص شديد البساطة، متدني الذكاء، في جزيرة خيالية تشبهه كثيرًا، فهو يدافع ويهاجم بسلاح الألفة/الأنس، يحاول أن يحافظ على ما تبقى من حياته، طقوسٍ يومية أو إيقاع هابط وبطيء، فيرضى بمصادقة الفتى اليافع دومينيك كيرني (الممثل باري كيوغان) كبديل لكولم، ليحافظ على طقوس الألفة التي تجعل حياته قابلة للعيش بيد أنهما لا يتوافقان.
وفي نفس الوقت يصرخ في صديقه داخل الحانة: أنا بادريك سوليفان، وأنا لطيف، ليلمح من خلال الجملة كونه شخصًا مألوفًا ومستأنسًا يحبه الجميع، فهو لطيف، وكل ما يحتاجه الشخص للتعايش من وجهة نظر بادريك أن يكون لطيفًا.
يمكن تخيل جزيرة إينيشيرين كفردوسٍ لرجلٍ واحد، بيئة نموذجية لاستيعاب الأفراد من ذلك النمط، حياة مثالية عاشها بادريك في ظل مجتمع رعوي لا يتطلب إلا القليل من الذكاء الاجتماعي لخلق نوع من الألفة تجاه البشر، إلا أن كل شيء تهاوى بعد القطيعة.
تدريجيًا سيشعر بادريك أن مياه البطيخ التي غرق فيها، كانت فردوسًا ليومٍ واحد، يوم طويل توهم أنه لم ينته أبدًا، لكن في الحقيقة ليس ثمة فردوس على الأرض، وبدأت ممارسة كولم السادية تجاه نفسه تربي العنف في بادريك، والعنف ذاته يقطن الجزيرة في ذكورية مرضية ووحشية غير مبررة من رقيب الشرطة المنوط بحماية النظام تجاه ابنة دومينيك وتجاه بادريك وبدا كأنه عنف موجه تجاه أي شخص غير محبب للشرطي، لدرجة تلذذه بأنماط التعذيب والموت، فلا يعرف من سيشنق غدًا، فيما يحرص على الحضور لشهوة مشاهدة ممارسات تتجاوز درجته الرقابية والأبوية، ممارسات تدر لديه نشوة غير مبررة.
إذًا فالعنف طقس شبه يومي في إينيشيرين، وتمريره في أشكال وأنماط تبدو طفيفة مقارنة بوحشية الحرب الأهلية لا ينفي وجوده بشكل كامل، ويمكن رصد آثاره بشكل واضح في شخصية دومينيك، فتى مهزوم ووحيد، يحمل قلبًا طيبًا وقلقًا وجوديًا حيال كونه وحيدًا في مواجهة الأرض القديمة التي تتبدى في مساحات هائلة من البر والبحر، كدمية متروكة لتتلقى صدمات الهواء، كأن يتلقى أثاث المنزل على جسده وزجاج قناني البيرة على جلد وجهه الأبيض.
كانت قطيعة بادريك وكولم فرصته لخلق صديق حميم وإيجاد حبيبة تفوقه في مادة الأحلام، لكنه لم يحسن صنعًا، لم يعرف كيف يتلقى عبارات الرفض الأولى، وكسرة القلب التمهيدية، لم يعرف كيف يكذب أو يؤذي، كل ما عرفه دومينيك كيف يتلقى اللكمات والأدوات الحادة على جلده، كيف يتعافى من الألم المادي، إنما تراكمت عليه صيحات الإنكار والرفض، والده وبادريك وأخته شوبان، ولم يجد إلا النهر ليتلقاه جثة هامدة.
ترتفع ذروة الأحداث وتنتقل إلى الفصل الأخير عندما يختنق “جيني” حمار بادريك وصديقه الأقرب بأحد أصابع كولم المقطوعة، فيقرر الولوج بشكل كلي في دائرة العنف، ويحرق منزل صديقه ردًا على موت حماره، ورغم ذلك كان حريصًا ألا يؤذي كلب صديقه القديم.
والحقيقة أن علاقة بادريك بالحيوانات علاقة ملغزة، تسمو فوق العلاقات الاجتماعية البشرية، لدرجة أنك تحسبه واحدًا منهم، درجة تتماهى في جلالها مع قداسة العذراء الساكنة على ناصية الطريق الريفي الطويل، تراقب مرور الأفراد جيئة وذهابًا، في لقاءٍ وفراق، وعلى تلك الدرجة من الكرامة، قرر بادريك أن يكون عنيفًا، أن يتغير لما هو متحرك، ويكسر جموده لينفلت عن جنته المزيفة، عن عاديته المحببة، ويأخذ موقفًا له مبررات ودوافع تتجاوز في أهميتها تفاهة الحرب الأهلية، إشعال المنزل يقع في منزلة فصلٍ جديد، فصل الوداع لأخته ولصديقه ولحماره، فصل الموت وتحقق النبوءة، فصل لا نعرف أين ينتهي، لكننا نواصل التحديق في عالم خالٍ من العقول، إلا من امرأة تركته وخلفت وراءها ركام حمقى، وكومة من المشاعر المتأججة.