يستقبل اليمنيون اليوم تاسع شهر رمضان في ظل الحرب، وسط صعوبات اقتصادية وأزمات معيشية وارتفاع متصاعد بالأسعار، فضلًا عن شحّ السيولة المالية وتوقف المرتبات عن نحو نصف مليون موظف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
عادة تتجه الأسر في اليمن قبيل شهر رمضان لشراء مختلف الأصناف من الأغذية والمشروبات لشهر الصيام، فضلًا عن تنظيف المنازل وشراء الأثاث المنزلي الجديد، لما لشهر رمضان من مكانة في قلوبهم، لكن هذا العام باتت أغلب الأسر اليمنية غير قادرة على توفير هذه الاحتياجات، في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي لا يمكن من خلالها توفير الحد الأدنى من الطعام والشراب.
الحرب المستمرة منذ عام 2014 ألقت بظلالها القاتمة على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، والتي أنهكت اليمنيين وضيّقت عليهم الخناق شمالًا وجنوبًا، بل زادتهم فقرًا فوق فقرهم.
ولليمنيين طقوس وعادات وتقاليد لاستقبال رمضان وفي صيامه أيضًا، لكنهم مجبرون على التخلي عنها هذا العام نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية.
تنظيف المنازل وتزيينها فضلًا عن تزيين الشوارع والحارات، واقتناء الأثاث الجديد وتوفير مختلف المواد الغذائية وغيرها، ناهيك عن الخروج الجماعي وترديد الأناشيد الترحيبية وحمل الفوانيس الرمضانية، هذه أبرز العادات والطقوس الرمضانية المهددة بالاندثار، إضافة الى “يا نفس ما تشتهي” التي تسبق قدوم رمضان بأيام، حيث يخرج الناس لشراء الأطعمة والمشروبات التي يحبونها وأكلها قبل دخول الشهر الكريم.
وضع صعب
المعلم فيصل القباطي (45 عامًا) يستقبل رمضان هذا العام وقد أنهكته الظروف الاقتصادية المتردية في البلاد، فهو غير قادر على تأمين إيجار منزله وتوفير الغاز المنزلي، أما مستلزمات شهر رمضان لم تعد على القائمة التي اقتصرت على توفير الوجبات الضرورية فقط.
كان فيصل الذي يسكن العاصمة صنعاء يستقبل رمضان منذ منتصف شعبان، حيث يحتفي في الـ 15 من شعبان بالصيام مع أفراد أسرته، فضلًا عن الخروج إلى المطاعم وشراء أصناف مختلفة من الطعام، مثل غيره من السكان تحت عادة “يا نفس ما تشتهي”، لكن بعد اندلاع الحرب في البلاد وتوقف مرتبه منذ العام 2016، طمس من حياته الاحتفاء بالمناسبات والعادات والتقاليد، وحتى المستلزمات المنزلية، واكتفى بتوفير الحد الأدنى من الغذاء والدواء.
يقول فيصل: “كان لرمضان نكهة أخرى نفرح ونستبشر ونحتفي بقدومه، لكن الحرب سرقت منا هذه الفرحة، وكافة الأفراح الأخرى بعد أن سرقت مرتباتنا ولقمة عيشنا”.
ويضيف فيصل: “كنتُ قبل رمضان أذهب السوق لتوفير مستلزمات الشهر الكريم من الأغذية والمشروبات وشراء الأواني الجديدة، بالإضافة إلى أننا كل يوم في رمضان نخرج قبل الغروب لشراء المقبلات والحلويات، لكن الآن سيكون رمضان ضيفًا ثقيلًا عليّ وعلى أسرتي، فحتى التمر الذي يفطر به الصائم لن أستطيع توفيره”.
اتجه فيصل إلى العمل في مهنة هندسة الكهرباء عقب توقف مرتبه، حتى يتمكن من إعالة أسرته، وأيضًا حتى هذه المهنة تراجع العمل فيها، بسبب توقف عملية البناء بسبب الحرب، ما يضطره للعمل يومًا والنوم أيامًا طويلة.
وضع اقتصادي صعب يعيشه فيصل ومثله نحو نصف مليون موظف في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، الذين لم يستلموا مرتباتهم منذ 7 أعوام عقب إصدار الرئيس اليمني السابق، عبد ربه منصور هادي، قرارًا بنقل البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن جنوب اليمن.
كان من المقرر أن تصرف حكومة صنعاء نصف مرتب قبل شهر رمضان، حتى يتمكن الموظفون من تدبير مستلزمات الشهر الكريم، لكن لم يتم صرفه حتى الآن، ولذلك يقول فيصل: “كنت أنتظر صرف نصف مرتب والذي يصرَف كل 4 أشهر، وهو مبلغ لا يتجاوز 50 دولارًا، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، فعادة يصرف نصف مرتب قبيل قدوم الشهر ونصف آخر قبل عيد الفطر، رغم أن النصف لا يكفي لتوفير أسطوانة الغاز المنزلي و10 كيلو من الأرز والسكّر، في ظل الارتفاع المهول في أسعار المواد الغذائية”.
ومع دخول شهر رمضان لن يجد فيصل عملًا في الكهرباء، إذ إن أغلب الأعمال في اليمن تتوقف في شهر الصيام، إذ يتفرغ الكثير من السكان للعبادة والراحة، لذلك سيواجه ظروفًا صعبة ولن يستطيع أيضًا توفير إيجار منزله.
مائدة باهظة
يعدّ شهر رمضان موسمًا استثنائيًّا عند اليمنيين، وبالحديث عن المائدة الرمضانية في اليمن فإنها تزدهر بأكلات لا تحضرها طوال السنة، لذلك نجد أن كلفة المائدة الرمضانية تكون باهظة ويحتاج اليمنيون إلى ما يزيد عن 60% ممّا يحتاجونه في الأشهر الأخرى، بحسب الصحفي الاقتصادي نجيب العدوفي.
واستدرك العدوفي في حديثه لـ”نون بوست” أنه في ظل الحرب وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية اختفت كل تلك المظاهر والطقوس الرمضانية، فنحو 80% من اليمنيين لا يملكون القدرة الشرائية ويحتاجون إلى العون الإنساني للوصول إلى الغذاء الضروري.
وأضاف العدوفي: “في صنعاء ثمة تحديات كبيرة خاصة في ظل غياب الدولة وتوقف الخدمات الأساسية التي بات المواطن يبحث عنها وبكلفة مضاعفة جدًّا، وهنا بات أمام تحديات الحصول على الغذاء والدواء، إلى جانب البحث عن الخدمات الضرورية كالمياه والكهرباء وغيرها”.
وحول الحلول المطلوبة، قال نجيب: “يتطلب الأمر وجود الدولة وإنهاء الحرب وتجفيف منابع الفساد، وفرض النظام والقانون، خاصة أن موارد البلاد لا تجد طريقها إلى الخزينة العامة للدولة لتنعكس على شكل خدمات ورواتب لموظفي الدولة، الذين باتوا داخل دائرة الفقر بفعل إيقاف صرف رواتبهم”.
ولجأت بعض الأسواق والمحال التجارية في اليمن إلى تقديم عروض التخفيضات في بعض المنتجات مع قدوم شهر رمضان، ليستفيد منها الناس من جهة ومواجهة الركود الاقتصادي من جهة أخرى.
لكن الحرب أكلت أخضر البلاد ويابسها، فبات ثلث السكان، أي أكثر من 21 مليون نسمة، بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة خلال العام 2023، بحسب الأمم المتحدة.
وفشل مؤتمر المانحين الذي عقدته الأمم المتحدة في جنيف نهاية فبراير/ شباط الماضي في جمع 4.3 مليارات دولار لدعم 17.3 مليون شخص من أكثر السكان ضعفًا في اليمن، حيث لم يُجمع أكثر من 1.2 مليار دولار، وهو مبلغ غير كافٍ لتمويل العمليات الإنسانية في اليمن، ما يعني أن شهر رمضان سيكون قاسيًا على غالبية اليمنيين، وخاصة 4 ملايين نازح جُلّهم من النساء والأطفال.
فرحة
حتى في المناطق الريفية اليمنية أَفَلَت كل الاحتفالات التي كانت تسبق قدوم شهر رمضان، أو تلك التي ترافق أيامه ولياليه، ويعود ذلك في الدرجة الأولى إلى الحرب وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي، والتقدم التكنولوجي بدرجة ثانية.
يقول الخمسيني محمد محسن لـ”نون بوست”: “الحرب أطفأت النيران التي كانت تشتعل على أسطح المنازل وفي الجبال فرحًا بقدوم رمضان، وأطفأت أيضًا المواويل التي كانت ترددها ألسنة الفلاحين في كل سهل وجبل: “مرحب مرحب يا رمضان يا شهر التوبة والغفران”، “صلوات الله عليك يا نبي، يا مجلي الهم والكربى”، وتلك الاحتفالات والضرب على الطبول التي ترددها فرق شعبية تنتقل من قرية الى أخرى، ليعطيها الناس ما تيسّر من الحبوب والمال والثياب المستخدمة”.
يضيف محمد محسن الذي ينحدر من قرية قابع بمحافظة إب متنهّدًا بحسرة: “كان الأطفال يحلّقون حول الفرقة الشعبية عند المساء وهي تردد: “يا مساء الخير يا مساء، ألا جئنا نمسي عندكم، وبارك الله صومكم”، فضلًا عن الفوانيس التي تدور في أرجاء القرية”.
ويتمنى محمد أن تعود تلك الأيام، مرددًا بيأس: “الحرب أكلت أفراحنا وعاداتنا وتقاليدنا”.
الثمانيني سعيد قايد من محافظة تعز راح يسرد ذكرياته مع شهر رمضان، والمواويل التي كان يرددها أطفال القرية: “الصائم يحمد ربه والفاطر فطر قلبه” و”يا رمضان يا رميضه خليت بطني حميضه”، أي شديد الحموضة من كثرة الأكل.
وأطلق سعيد تنهيدة ملتهبة وهو يقول: “حتى الناس لم تعد تجتمع كما كانت في أحد منازل القرية، لتدارس القرآن الكريم والأحاديث والسير النبوية، فضلًا عن الجلسات الصوفية التي كانت تترنّم بكل الأشعار التي تمجّد شهر رمضان، ومنهم الشاعر اليمني الراحل عبد الرحيم البرعي، الحرب دمّرت كل شيء، حتى فرحة شهر رمضان التي كانت تعدّ الفرحة الكبرى خلال العام، وفي ختام الشهر كنا نردد بحزن “مودع مودع يا رمضان””.