جاءت زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الجنرال علي شمخاني، إلى بغداد خلال اليومَين الماضيَين، التي ترافقت مع الذكرى الـ 20 للاحتلال الأمريكي للعراق، لتشكّل تحولًا جديدًا في الدبلوماسية الإيرانية، بعد أن كان الحرس الثوري الإيراني هو المتحكم الرئيسي بها، وتحديدًا في مناطق النفوذ الإيراني القريب، ومنها العراق، فبعد أن نجح شمخاني في إنجاز مهمة بكين مع السعودية، جاء ليكمل المهمة الثانية في العراق.
لم تكن زيارة شمخاني إلى بغداد مفاجئة، إذ إن نظرة بسيطة إلى طبيعة الاتفاق الذي تمَّ التوصل إليه مع السعودية، والذي أشار إلى أنه اتفاق ذو طبيعة أمنية بامتياز، حظيَ العراق بمكانة مهمة في هذا الاتفاق، عبر تعهُّد كل من طهران والرياض بعدم استخدام أراضي العراق في شنّ هجمات عدائية ضد الآخر، والحديث هنا عن جماعات المعارضة الكردية المدعومة من الرياض، والفصائل المسلحة التابعة لإيران.
قاآني.. خطوة للوراء
تُحسَب للنظام الإيراني قدرته على توزيع الأدوار على الشخصيات الرئيسية في النظام، رغم بيروقراطيته المعقّدة، وهو أمر فرض نفسه نظرًا إلى الوضع المعقد الذي تعيشه إيران اليوم، فالتحول من العسكري إلى الأمني قد يشكّل مدخلًا مهمًّا لإعادة تشكيل الدور الإيراني في العراق والمنطقة.
ولعلّ هذا ما دفع بالمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إلى المراهنة على شمخاني ذي الأصول العربية، في مقابل إعادة قائد قوة القدس إسماعيل قاآني خطوة إلى الوراء، فالوضع بنظره لم يعد يحتمل الاستمرار بسياسة حافة الهاوية، في ظل رغبة أمريكية إسرائيلية متباينة لشنّ هجمات في الداخل الإيراني.
فإلى جانب رغبة شمخاني في مناقشة بنود اتفاق بكين مع حلفاء إيران في العراق، إلا أنه على ما يبدو لم يكتفِ بذلك، بل سعى أيضًا إلى تعزيز هذا الاتفاق، عبر توقيع مذكرة تفاهم أمني مع الحكومة العراقية من أجل ضبط الحدود، وإلزام الجانب العراقي بمنع أي هجمات عبر الطائرات المسيّرة تستهدف إيران.
تجدر الإشارة إلى أن هذه المذكرة جاءت بعد مذكرة تفاهم أمني وقّعتها السعودية مع الحكومة العراقية في مطلع شهر فبراير/ شباط الماضي، من أجل إبعاد تهديدات الفصائل المسلحة التابعة لإيران عن الحدود العراقية السعودية.
أجرى شمخاني، الذي وصل إلى بغداد في ساعة مبكرة من فجر الأحد، لقاءً مع مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي، دام نحو ساعتَين، قبل أن يعقد لقاءً مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
وقال بيان حكومي عراقي، صدر عقب اللقاء الذي جرى بين السوداني وشمخاني بالمنطقة الخضراء وسط بغداد، إنّ “اللقاء شهد التباحث في العلاقات بين البلدَين، والأوضاع الأمنية والسياسية في عموم المنطقة، وسبل تعزيز أمنها واستقرارها”.
ونقل البيان عن رئيس الوزراء العراقي تأكيده خلال اللقاء “موقف العراق الثابت الرافض لأن تكون الأراضي العراقية منطلقًا للاعتداء على أيّ من دول الجوار”، مشددًا على “رفضه القاطع لأن تكون أرض العراق مسرحًا لتواجد الجماعات المسلحة، أو أن تكون منطلقًا لاستهدافها، أو أيّ مساس بالسيادة العراقية”، في إشارة إلى الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة الموجودة بإقليم كردستان، والتي تصنّفها طهران على أنها جماعات إرهابية.
الدور الجديد الذي يؤديه شمخاني اليوم، لا يعكس أفضلية شخص أو مؤسسة، بل يمثل هامش حركة إيرانية واسعة عبر استخدام التكتيكات والأوراق حسب تغيرات الظروف والأوضاع
وفي هذا السياق أيضًا، مثلت زيارة شمخاني إلى بغداد تحديًا واضحًا للإدارة الأمريكية، خصوصًا أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قد صنّفت شمخاني إلى جانب مسؤولين آخرين في النظام الإيراني على لائحة العقوبات الأمريكية في أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
كما أنها مثلت تحديًا للإجراءات التي اعتمدها البنك الفيدرالي الأمريكي مؤخرًا ضد عمليات تهريب الدولار في العراق، حيث نجح شمخاني في التوصُّل إلى آلية لسداد الديون الإيرانية المترتبة على العراق مع البنك المركزي العراقي، نتيجة استمرار عمليات استيراد الطاقة من إيران.
ممّا لا شك فيه أن شمخاني يمثّل رهانًا قويًّا لخامنئي في تجاوز العديد من العقبات التي لا يستطيع قاآني تجاوزها، فهو أحد أبرز الشخصيات الإيرانية التي تتبنّى موقفًا أقل تشددًا في موضوعة الانفتاح على الخارج، وتحديدًا الدول العربية، فبعد التوافق مع السعودية زار شمخاني الإمارات، وهناك زيارات مرتقبة لدول خليجية أخرى في مقدمتها عُمان.
وبهذا المعنى، لا يعكس الدور الجديد الذي يؤديه شمخاني اليوم أفضلية شخص/ مؤسسة على شخص/ مؤسسة إيرانية أخرى، بل على العكس من ذلك، إذ إنه يمثل هامش حركة إيرانية واسعة عبر استخدام التكتيكات والأوراق حسب تغيرات الظروف والأوضاع، وهذا ما يميز النظام الإيراني عن غيره من الأنظمة.
يمكن القول إن التحدي الكبير الذي يواجهه شمخاني في العراق في أنه لا يملك تأثيرًا كييرًا على الفصائل المسلحة، ورغم أن الحرس الثوري قد يساعده في امتلاك هامش تأثير، إلا أن التنافسية المعتادة داخل مؤسسات النظام الإيراني قد تجعل قيادات الحرس الثوري لا تذهب بعيدًا في تسهيل مهمة شمخاني في العراق، خصوصًا إذا أدّى ذلك إلى زيادة مكانة شمخاني لدى المرشد الأعلى على حساب مكانة وتأثير قيادات الحرس الثوري، عندها قد يعود قاآني إلى أداء لعبته المفضلة في العراق، عبر العودة إلى سياسة التصعيد مرة أخرى.