أقل من شهرَين يفصل الناخب التركي عن الذهاب إلى صندوق الاقتراع لاختيار ممثليه في مجلس الشعب ورئيس الجمهورية الـ 13، وسط حالة من الترقُّب والاستقطاب الحادَّين ما بين مختلف القوى السياسية، فهذه الانتخابات الأصعب التي تواجه حزب العدالة والتنمية منذ تفرُّده بقيادة تركيا قبل 20 عامًا، فيما ترى أحزاب المعارضة في الاستحقاق الانتخابي فرصتها الأهم للعودة إلى السلطة بعد سنوات طويلة في مقاعد المعارضة.
تشكّل عادةً استطلاعات الرأي المادة الأهم في التقدير والتنبؤ بنتائج وميول الناخبين، وعادة ما تكون المعطى الأول والأساسي في تقديرات ومقاربات المحللين والمتابعين، كما تساهم في التأثير على نفسية الناخبين الذين يميل جزء منهم إلى الاصطفاف مع الطرف المتوقع فوزه.
في الحالة التركية التي تشهد انتخابات دورية، تطوّرت على مدار السنوات الماضية صناعة استطلاعات الرأي من خلال مجموعة من الشركات والمراكز البحثية، ودائمًا ما كان سؤال الموضوعية والدقة مطروحًا أمام هذه المؤسسات، خاصة في ظل الاتهامات الموجّهة إلى عدد منها بإخضاع نتائجها للدوافع السياسية والحزبية على حساب المعايير الموضوعية.
كيف تطورت صناعة استطلاعات الرأي في تركيا؟
ساهم إقرار دستور 1961، والذي تضمّن مجموعة من المواد التي وسّعت من هامش الحريات العامة، في إعطاء صناعة استطلاعات الرأي العام في تركيا دفعة إلى الأمام، بعد محاولات عديدة شهدتها خمسينيات القرن الماضي من أكاديميين أتراك لتطوير دراسات مسحية.
وفي النصف الثاني من السبعينيات، بدأت الشركات الكبرى بالظهور في تركيا، وبدأت معها محاولات الاستفادة من الخبرات والأساليب الغربية في التعامل مع الأسواق والمستهلكين، فظهر عدد من الشركات والباحثين الذين عملوا على قياس الرأي العام التركي وتسخير نتائج أبحاثهم لخدمة هذه الشركات.
ومع تولّي رئيس الوزراء تورغوت أوزال السلطة، وتحول الاقتصاد التركي إلى الاقتصاد الحرّ، ودخول عدد من الشركات الأجنبية وخاصة الغربية إلى السوق التركي مع عمليات الخصخصة، بدأت صناعة استطلاعات الرأي العام بالازدهار والتحول إلى العمل المؤسساتي، وذلك لحاجة الشركات والمؤسسات الاقتصادية إلى المعطيات والبيانات حول توجهات المجتمع والاقتصاد التركي، فانتقلت الصناعة من الجوانب الأكاديمية والفردية إلى العمل المؤسساتي والشركاتي.
سرعان ما تحولت هذه البنية من الشركات والباحثين إلى العمل في المجال السياسي، فمنذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي بدأت الصحف ووسائل الإعلام التركية في استخدام ونشر الاستطلاعات السياسية.
ومنذ ذلك الوقت أخذت استطلاعات الرأي بالتسيُّس بعيدًا عن المعايير الموضوعية ووفقًا للأجندة السياسية، وظهر ذلك في عدد من الاستحقاقات الانتخابية التي أظهرت الفرق الواضح ما بين نتائج استطلاعات الرأي.
من الممكن التعرُّف إلى مدى موضوعية الاستطلاع أو ميول الشركة المستطلعة من خلال النتائج التي يجري مشاركتها على وسائل الإعلام.
وخلال سنوات الألفية بدأت بعض مؤسسات المجتمع المدني بدخول مجال دراسات الرأي العام، بإجراء الدراسات المسحية التي تناولت قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية، ما ساهم في تقديم معطيات رقمية تفيد في قراءة ودراسة المجتمع التركي، وهذه المؤسسات وإن كانت متأثرة بأجندة التمويل الخارجية وميول ومواقف العاملين فيها، إلا أنها تمكّنت من تقديم إضافة في مجال الدراسات المسحية، خاصة في الموضوعات البعيدة عن استطلاعات الانتخابات.
ومع تطور وسائل الاتصال خاصة خلال العقد الماضي، ازدادت مهنية عدد من شركات استطلاع الرأي العام التي بدأت بتقدم معطيات في أسوأ أحوالها، لا تبتعد بشكل كبير عن نتائج صناديق الاقتراع لاحقًا، خاصة في ظل ازدياد قدرة الناخب التركي على المقارنة وقياس موضوعية ومهنية نتائج الاستطلاعات، ما ينعكس على مصداقيتها لاحقًا.
ومع ذلك ما زالت ثقافة استطلاعات الرأي لدى المواطن التركي بحاجة إلى التعزيز، سواء في التعامل مع النتائج أو حتى التعاطي مع الدراسات نفسها، فنسبة معتبَرة من المستطلعين عادة ما ترفض التجاوب مع استطلاعات الرأي.
شركات استطلاعات الرأي والأحزاب: المشتري دائمًا على حقّ
تشكّل الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والشخصيات ومراكز الأبحاث المقرّبة منها الزبون الأهم لشركات استطلاعات الرأي، بالإضافة إلى مؤسسات الدولة.
هذا الأمر يجعلها مجبرة على مراعاة علاقاتها الحزبية في نتائج الاستطلاعات التي يجري الإعلان عنها، وفي هذا الإطار يقول مهمت علي تشلشكان، مدير مركز التحديث (Reform Enstitüsü)، إن شركات الاستطلاعات تموّل فعاليتها بطريقتَين، الأولى عبر التمويل الذي تتحصّل عليه من الأحزاب السياسية لقاء دراسات تقوم بها هذه المراكز لدعم عملية القرار، والثانية عبر مواردها الخاصة الناتجة عن اشتراكات العملاء.
وتتعامل الشركات مع الدراسات التي تجريها للأحزاب وفقًا لمستويين، الأول لا يجري نشره ويبقى خاصًّا لهذه الأحزاب، أما الثاني، وفي حالة رأت هذه الأحزاب ما يخدم سرديتها، تقوم بالسماح بنشر نتائج الاستطلاع في سبيل تحسين صورتها.
لكن بعض الأبحاث تتجاوز كافة المعايير والعمليات البحثية باتجاه إنتاج نتائج استطلاع رأي بعيدة عن الواقع، بالإضافة إلى العوامل المرتبطة بطبيعة العلاقة المادية ما بين الشركة والحزب، وتبرز كذلك الخلفيات السياسية والفكرية لأصحاب هذه الشركات والمراكز، خاصة العاملة في إطار منظمات المجتمع المدني.
توجهات بعض الشركات ومراكز استطلاعات الرأي تتغير وتتبدل وفقًا لعلاقة الشركة الحزبية
ومن الممكن التعرُّف إلى مدى موضوعية الاستطلاع أو ميول الشركة المستطلعة من خلال النتائج التي يجري مشاركتها على وسائل الإعلام، فعلى سبيل المثال تعطي بعض المراكز حزب العدالة والتنمية نسبة تتجاوز النسبة التي حصل عليها في انتخابات 2018، أو أن تقوم بعض المراكز بمنح حزب الشعب الجمهوري نسبة مرتفعة من الأصوات تفوق حزب العدالة والتنمية وكتلة الحزب التقليدية.
ومن المهم ملاحظة أن توجهات بعض الشركات ومراكز استطلاعات الرأي تتغير وتتبدل وفقًا لعلاقة الشركة الحزبية، ما يزيد من التشكيك في موضوعية ومهنية بعض الشركات، وفي هذا الإطار يشير مدير مركز ميتروبول (Metropoll)، أوزار سنجار، في مقابلة صحفية، إلى أن علاقات شركات استطلاعات الرأي مع المؤسسات الحزبية تلعب دورًا كبيرًا في تحويلها إلى أدوات ضغط سياسي وتلاعُب في الرأي العام.
ومع ذلك توجد بعض الشركات التي تظهر قربًا واضحًا من الأحزاب السياسية، كشركة Aksoy التي سبق لمؤسّسها ومديرها إرتان أكسوي أن ترشح للانتخابات البرلمانية عن حزب الشعب الجمهوري، ويعرَف بعلاقته الجيدة مع زعيم الحزب كمال كيليتشدار أوغلو، وتعرَف شركة Avrasya وصاحبها كمال أوزكيراز بقربهما الواضح من حزب الشعب الجمهوري، كما تُظهر شركة Alf التوجه نفسه.
على صعيد حزب العدالة والتنمية، تُظهر شركة GENAR -ساهم رئيس بلدية اسنلار، توفيق جوكسو، في تأسيسها- ورئيسها احسان أكتاش قربًا واضحًا من الحزب، عبر مشاركة استطلاعات تظهر تفوق الحزب، والأمر ذاته ينطبق على شركة Denge، فيما تظهر شركات قربًا من أحزاب أو تيارات سياسية لكنها تلتزم بقدر من الموضوعية والمهنية.
تجارب سابقة: انتخابات 2018
تشكّل الاستحقاقات الانتخابية الماضية فرصة للنظر في نتائج استطلاعات الرأي ومقارنتها مع نتائج الانتخابات، فخلال الانتخابات العامة التي أُجريت عام 2018، وانتخب الشعب التركي ممثليه في مجلس الشعب ورئيس الجمهورية، حصل حزب العدالة والتنمية على 42.7% من الأصوات، وحلَّ في المرتبة الثانية حزب الشعب الجمهوري بـ 22.6%، فيما جاء حزب الشعوب الديمقراطية ثالثًا بـ 11.7%، وتلاه حزب الحركة القومية بـ 11.1%، وخامسًا حزب الجيد بـ 10% من الأصوات.
وفي الانتخابات الرئاسية حصل الرئيس أردوغان على 52.6%، فيما حصل مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم اينجه على 30.6%، ومرشح حزب الشعوب الديمقراطية صلاح الدين دميرطاش على 8.4%، ومرشحة حزب الجيد ميرال أكشينار على 7.3%.
وبالنظر إلى استطلاعات الرأي، نجد أن معطيات شركة SONAR، فيما يخص النسبة التي سوف يحصل عليها حزب العدالة والتنمية في مجلس الشعب، هي الأقرب إلى النسبة التي حصل عليها الحزب بأكثر من 0.3%.
فيما كان توقُّع شركة KONDA لنتيجة حزب الشعوب الديمقراطية الأقرب إلى النسبة التي حصل عليها في مجلس الشعب بفارق 0.1%، فيما كان توقع شركة Mediar لنتيجة حزب الشعب الجمهوري هو الأقرب إلى نسبته في المجلس بفارق 0.01%.
ويلاحَظ أن شركة ORC من الشركات التي استطاعت تقديم معطيات اقتربت من النتائج الرسمية، فالفارق ما بين تقديرها ونسبة حزب العدالة والتنمية +1.64%، والحزب الشعب الجمهوري +1.85%، وحزب الحركة القومية -0.6%، وحزب الشعوب الديمقراطية +0.2%، وحزب الجيد +2.56%.
في انتخابات رئاسة الجمهورية، حصل الرئيس أرودغان على 52.6% من الأصوات، فيما حصل محرم اينجه مرشح حزب الشعب الجمهوري على 30.6%، وحصل صلاح الدين دميرطاش مرشح حزب الشعوب الديمقراطية على نسبة 8.4%، وأخيرًا مرشحة حزب الجيد ميرال إكشينار على نسبة 7.3%.
جاءت توقعات مركز ORC الأكثر قربًا من النتائج، فالفارق ما بين نتائج الرئيس أردوغان وتقدير الاستطلاع -0.1%، فيما جاء الفارق مع محرم اينجه -1.4%، أما صلاح الدين دميرطاش فكانت النسبة متطابقة، في حين وصلت في حالة إكشينار إلى +1.3%.
ختامًا، يرى مهمت علي تشلشكان، مدير مركز التحديث، أن الأهم في هذه الفترة دراسة توجهات المجموعات والشرائح الاجتماعية، حيث 75-80% من الناخبين الأتراك يصوتون بشكل جماعي وعلى شكل فئات (الأكراد، المحافظون، العلويون..)، فيما تصوت نسبة 20-25% وفقًا لتوجهاتهم الخاصة.
ويرى تشلشكان أن الفترة الأمثل للحصول على نتائج أكثر دقة حول توقعات التصويت قد تكون قبل أسبوعَين أو ثلاثة من العملية الانتخابية، حيث تصبح خيارات الناخب التركي أكثر وضوحًا سواء على المستوى الجمعي أو الفردي، خاصة أن جزءًا من المصوتين ما زال يواجه إشكالات واضحة في الاستقرار بعد زلزال كهرمان معراش الأخير.
تشهد تركيا حالة من الاستقطاب الحاد المتوقع له أن ينعكس على العملية الانتخابية وبالضرورة على صناعة استطلاعات الرأي، ورغم حالة عدم الثقة والتشكيك بشركات استطلاعات الرأي ونتائجها، إلا أن ذلك لا يمنع وجود شركات أظهرت قدرًا كبيرًا من المهنية والموضوعية.