الاحتفاء الإعلامي بسلسلة الاتفاقيات الموقعة بين المغرب و”إسرائيل” في شتى المجالات، لا يعني بالضرورة أن العلاقات دافئة فعليًّا كما يروّج لها، بل هي في واقع الأمر موسومة بالحذر والغموض، لأن مسار التطبيع كان منذ البداية محكومًا بطابع المقايضة.
تطمح “إسرائيل” أن ترتقي بعلاقاتها الدبلوماسية مع المغرب من مكتب اتصال إلى سفارة، ذلك أن رئيس المكتب السابق والرئيسة الحالية، لم يتم إدراج اسمَيهما ضمن لائحة السفراء المعتمدين من طرف العاهل المغربي، الملك محمد السادس، على عكس ما تحدث به الإعلام العبري والساسة الإسرائيليون في أكثر من مناسبة باقتراب اعتماد السفارة الإسرائيلية في الرباط.
عدم اكتمال العلاقات الدبلوماسية
بعد توقيع الاتفاق الثلاثي في ديسمبر/ كانون الأول 2020، انتظرت الرباط من تل أبيب أن تحذو حذو واشنطن، وتعترف هي الأخرى بالسيادة المغربية على الصحراء، لكن الموقف الإسرائيلي انكشف حينما ظهر بنيامين نتنياهو سعيدًا في شريط فيديو، وهو يعلن إطلاق خط جوي مباشر لشركة إل عال من تل أبيب إلى الدار البيضاء، وظهرت خريطة المغرب مبتورة من صحرائه.
وعندما ثار غضب الرباط، اعتذر مسؤولون إسرائيليون عن هذه الواقعة، وزعموا أن خريطة المغرب المبتورة التي ظهرت في فيديو نتنياهو قديمة جدًّا، ولم تكن هناك خريطة جديدة متوفرة حينها لا تضم الخط الفاصل، فيما لم تدلِ الخارجية الإسرائيلية بأي توضيح.
والآن مضى ما يزيد عن عامَين على التطبيع، ولا تزال “إسرائيل” تتخذ موقفًا ضبابيًّا من الملف، بينما كان المدافعون عن العلاقات مع “إسرائيل” يروجون بأن التطبيع يضمن اعتراف “إسرائيل” بمغربية الصحراء وانخراطها في الدفاع عن مقترح الحكم الذاتي أمام المنتظم الدولي، علاوة على تحريك اللوبي الصهيوني لصالح قضايا المغرب.
لم يعمر غوفرين طويلًا في منصبه، فسرعان ما ستقوم “إسرائيل” بإقالته واستبداله وتعيين ألونا فيشر كام خليفة له.
غير أن الاتفاق الثلاثي لم يتضمن أي اعتراف إسرائيلي بسيادة المغرب على الصحراء، بل كانت واشنطن وحدها المعنية بهذا القرار، وترجمت ذلك بإقامة قنصلية أمريكية في مدينة الداخلة أقصى جنوب المغرب، في المقابل تعهّد الاتفاق بمفاوضات من أجل علاقات دبلوماسية كاملة، مع ربط رفع التمثيلية الدبلوماسية إلى مستوى سفارة بعودة “إسرائيل” إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين.
في الواقع، تتبنّى “إسرائيل” نفس موقف الأمم المتحدة من النزاع حول الصحراء، والذي يحثّ على الحوار بين أطراف النزاع لإيجاد حلّ سلمي ينهي الصراع، وهي الفكرة نفسها التي أعلنها الرئيس السابق ديفيد غوفرين، حينما اختار تصريفها إعلاميًّا عبر وكالة أنباء إسبانية رسمية، في نفس الفترة التي كانت فيها الرباط على خلاف مع مدريد على خلفية استقبالها لزعيم البوليساريو من أجل العلاج، قبل أن تعود العلاقات إلى طبيعتها بعدما أعلنت حكومة سانشيز عن دعمها مبادرة الحكم الذاتي.
للإشارة، لم يعمر غوفرين طويلًا في منصبه، فسرعان ما ستقوم “إسرائيل” بإقالته واستبداله وتعيين ألونا فيشر كام خليفة له، بعدما كان موضع اتهام بـ”التحرش واستغلال مغربيات”، وبينما هو يزعم أن هذه الاتهامات ملفّقة من طرف ضابط أمن كان معه في البعثة، لم يتم الإفراج للآن عن نتائج التحقيق الذي تجريه وزارة الخارجية الإسرائيلية في مزاعم التحرش.
مسار التطبيع لم يمضِ سريعًا
على هذا النحو، فإن الموقف الذي يتخذه شركاء المغرب بشأن الصحراء سينظَر إليه من قبل المملكة كمقياس رئيسي لصحّة تلك العلاقات الثنائية، وطبعًا لا يمكن اعتبار “إسرائيل” استثناءً، إذ إن موقفها من قضية الصحراء يشكّل اختبارًا مهمًّا لشراكتها الناشئة مع الرباط، ورائدًا لكيفية تطور العلاقات في المستقبل.
تبعًا لموقف “إسرائيل” من قضية الصحراء، لم يمضِ مسار التطبيع سريعًا من طرف الرباط، إذ إن تل أبيب كانت تترقب زيارة الملك محمد السادس إليها، أو على الأقل كانت تنتظر زيارات مكثفة للوزراء المغاربة، ويؤجّل ذلك عدم دعم “إسرائيل” لمقترح الحكم الذاتي المغربي من جهة، كما أن الملك يشترط من أجل الزيارة وقف مشاريع الاستيطان واستئناف المفاوضات بين الطرفَين الفلسطيني والإسرائيلي.
أما الظاهر في العلن فهو أن الاتصالات أصبحت أكثر شمولًا، حيث توسّعت المبادلات التجارية بشكل لا يمكن إنكاره، وأنشأ الطرفان مجموعات عمل حول قضايا تتراوح من الزراعة إلى الطاقة، وأصبحت المملكة زبونًا مهمًّا لصناعة الدفاع الإسرائيلية، وقريبًا ما سيتم إحداث مصنع للطائرات المسيَّرة الإسرائيلية في المغرب.
وفي الوقت نفسه، على المستوى المجتمعي، ازداد حجم السياحة بفضل إقامة رحلات جوية مباشرة، فضلًا عن تسهيل الإجراءات القنصلية لصالح المغاربة، في حين أن معظم اليهود من أصول مغربية في “إسرائيل” والعالم يحوزون الجواز المغربي، غير أن ما يثير القلق هو تنامي الخطاب المؤيّد للتطبيع مع الكيان الصهيوني تحت مسمّى “التسامح” عبر الشبكات الاجتماعية.
هل ينتهي مسار التطبيع؟
إن الحديث عن إنهاء مسار التطبيع سابق لأوانه، لكن الرباط قد تدخل برودًا في العلاقات إذا ما استمرت “إسرائيل” في منهجية الأخذ دون عطاء، وهو فعلًا ما تخشاه واشنطن وتل أبيب، غير أن الزيارة التي يجريها حاليًّا وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، في الولايات المتحدة، خصوصًا أنها تحمل ضمن أجنداتها ملف الصحراء، قد تدفع نوعًا ما الرباط إلى تسريع وتيرة التطبيع من طرفها.
الواضح أن “إسرائيل” لاحظت بطء المغرب في التطبيع الدبلوماسي، على عكس مسار الإمارات، فإذا كانت “إسرائيل” تريد أن تأخذ أولًا ما يكسبها الشرعية ويفكّ عنها عزلتها الإقليمية، ومن ثم تختار ما تعطي دون أن تربك مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، فإن المغرب يتخذ منهج الأخذ أولًا ومن ثم العطاء.
لكن استمرار “إسرائيل” في ارتكاب مجازر بحقّ الشعب الفلسطيني ربما يعيد سيناريو عام 2000 عندما قام المغرب بإغلاق مكتب الاتصالات بسبب العدوان على غزة، خصوصًا مع تصاعد ضغط الشارع المغربي الذي يطالب بإنهاء التطبيع في سياق الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي يتحالف فيها نتنياهو مع عناصر تتبنّى الفاشية في العلن، وتدعو صراحة إلى إبادة العرب وهدم المسجد الأقصى، وإلى تدمير أحياء ومدن فلسطينية.