في السنة الثانية من الهجرة النبوية المشرفة، فُرض صيام شهر رمضان الكريم على المسلمين، ويوافق هذا العام 624 ميلادي، وقد بيّن الله تعالى أحكام الصيام ومواقيته في آيات محكمات في القرآن الكريم، وقد أوضحها رسول الله ﷺ في الأحاديث النبوية الشريفة.
اهتمّ النبي محمد ﷺ وصحابته الكرام بالصوم والاجتهاد في الطاعات وفعل الخيرات، وغابت مظاهر الاحتفال عن هذا الشهر الكريم، واستمرّ الأمر نفسه في عصر الخلفاء الراشدين، إذ اقتصروا على إحياء ليالي الشهر بقراءة القرآن وأداء الفرائض والعبادات والإقبال على المساجد للصلاة والتعبُّد.
في بداية الخلافة الأموية، اتّبع بني أموية النهج نفسه، إذ غابت الاحتفالات وركّزوا على الصوم والصلاة والتضرُّع لله، دون أن يغفلوا عن إطعام الفقراء والمحتاجين عملًا بوصية النبيّ ﷺ.
على أنها برزت عادة جديدة في بداية العصر الأموي، أي بعهد معاوية بن أبي سفيان، أول خلفاء الدولة الأموية، إبّان ولايته على الشام، وهي تقديم “الكنافة” كطعام للسحور لتمنع عنه الجوع في نهار رمضان.
سنحاول في هذا التقرير ضمن ملف “رمضان زمان” الرجوع إلى الخلف وتسليط الضوء على رمضان أيام الخلافة الأموية، والحديث عن أبرز مظاهره وتجلياته، وفق ما بقيَ في الكتب التاريخية وتناقلته الأجيال.
غياب شبه كلّي للاحتفالات
كان العصر الأموي امتدادًا لفترة الخلفاء الراشدين، وهو عصر صغار الصحابة رضي الله عنهم الذي بدأ من ولاية معاوية بن أبي سفيان عام 41 هجري، إلى الوقت الذي عرضت فيه بوادر الضعف في الدولة الأموية، وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري.
تروي كتب التاريخ غياب الاحتفالات بقدوم شهر رمضان المعظّم في العصر الأموي، خاصة في بدايته، فلا فرق بينه وبين باقي الأشهر من حيث الاحتفال، فلا مظاهر زينة كالتي نعرفها الآن، ولا مظاهر احتفالية خاصة به.
هذا لا يعني أن الشهر كان يمرَّ مرور الكرام على بني أمية، فقد اقتدوا في بداية دولتهم بالخليفة عمر بن الخطاب في إنارة المساجد في ليالي رمضان، فهو أول من فكّر في إنارة المساجد في الشهر الكريم حتى يستطيع المسلمون أداء صلاة التراويح والتعبُّد في الليل.
يُذكر أن الخليفة عمر بن الخطاب هو أول من أعاد جمع المسلمين لأداء صلاة التراويح -قيام الليل- في جماعة داخل المساجد خلال شهر رمضان، وهي الصلاة التي بدأت في عهد النبي محمد ﷺ، لكنه لم يواظب عليها خشية أن يشق على أمته.
حرص المسلمون في ذلك العهد على إطعام الطعام وبعضهم قدّمه على الكثير من العبادات.
اهتمّ بنو أمية بإنارة المساجد وتزيينها بالقناديل بدءًا من أول أيام شهر رمضان الفضيل، حتى يتمكّن المسلمون من أداء صلاتهم وإحياء شعائرهم الدينية في أحسن حال، وحتى تستقبل المساجد الشهر الكريم وهي في أبهى حللها.
فضلًا عن إنارة المساجد، اهتمَّ بنو أمية بكسوة الكعبة المشرفة خلال الشهر الكريم، ذلك أن رمضان ارتبط منذ أيام الصحابة بالموعد السنوي لتغيير ثياب الكعبة، وكانت الكسوة في العهد الأموي ترسَل من دمشق، حيث تصنع من أحسن الأقمشة وأفضلها وترسَل إلى مكة من منطقة على أطراف دمشق سُمّيت الكسوة نسبة إلى ذلك.
يقول الأزرقي (أبو الوليد الأزرقي المكي) في “أخبار مكة” إن العادة كانت أن “تُكسى الكعبة القَباطي في آخر شهر رمضان”، منذ زمن معاوية بن أبي سفيان، و”القباطي” نوع من الثياب كان يُحاك في مصر منذ عصر الخليفة الفاروق.
كما اهتمّ الأمويون أيضًا بتطييب المسجد النبوي وتبخيره خلال شهر رمضان، إذ يقول محمد بن سعد البغدادي في كتاب “الطبقات الكبرى”: “إن الولاة قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يجرون على إجمار مسجد رسول الله ﷺ للجُمع وتطييبه في شهر رمضان من [أموال] العُشُر والصدقة (الزكاة)”، إلا أن عمر بن عبد العزيز قرّر قطع هذه العادة توفيرًا لأموال المسلمين.
كان ذلك هو الشكل الأولي لزينة رمضان، لكن ومع بساطته إلا أنه كان يدلّ على أهمية الشهر عند المسلمين الأوائل، وهكذا ارتبط الشهر الكريم في الحياة الإسلامية بمنظومة من الخصائص والظواهر التي أسّست باكرًا لفكرة اقتران الاحتفالات بالعبادات.
إحياء ليالي رمضان والتركيز على القرآن
لئن أغفل الأمويون، خاصة في بداية حكمهم، مظاهر الزينة والاحتفال بقدوم الشهر الكريم، فإنهم تنافسوا في فعل الخيرات وركّزوا على الطاعات والعبادات اتباعًا لهدي النبي ﷺ، وعلى رأس ذلك قراءة القرآن الكريم.
خلال رمضان، تنتشر حلقات العلم في المساجد ويتمّ التركيز على تلاوة القرآن، وقد كانت كلّ حلقة تدرّس نوعًا خاصًّا في علم التفسير، حتى أنهم “تركوا” دراسة الحديث واهتموا فقط بالقرآن الكريم في أيام الشهر الفضيل.
اجتهد الناس في العهد الأموي في قراءة القرآن، فالكثير منهم كان يترك كل شيء متفرغًا للقرآن، فكانوا إذا دخل رمضان أقبلوا على القرآن إقبالاً عجيبًا، وضاعفوا من تلاوته، واشتغلوا به عن غيره، إسوة بالصحابة والخلفاء الراشدين.
نقل أبو عثمان سعيد بن منصور الجُوزَجَاني في كتابه “التفسير من سنن سعيد بن منصور” عن التابعي الأسود بن يزيد النَّخَعي، أنه كان “يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتَين، وينام فيما بين المغرب والعشاء”، ثم يستكمل برنامجه اليومي الحافل بأعمال الخير والبر.
دأب المسلمون خلال العهد الأموي على إحياء ليالي رمضان، خاصة العشر الأخيرة من الشهر الفضيل بقراءة القرآن والصلاة والعبادة والاعتكاف داخل المساجد، علّهم يفوزون بالتعبُّد ليلة القدر، وهي ليلة خير من ألف شهر.
يذكر أن أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان والي مكة الأموي خالد بن عبد الله القَسْري، وكان الناس يقومون في “أعلى (بداية) المسجد؛ [فـ]ـأمر.. الأئمةَ أن يتقدموا ويصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة”، وفق ما رواه أبو عُبيد البكري الأندلسي في “المسالك والممالك” عن الإمام سفيان بن عيينة.
إطعام الصائمين
نظرًا إلى مقربتهم من الخلفاء الراشدين، فقد استمرَّ تعامل ولاة بني أمية والمسلمون في ذلك العهد في شهر رمضان أشبه بتعاملهم مع رمضان في عهد الخلفاء، إذ أقبلوا على الإنفاق في أوجه الخير طيلة الشهر الفضيل، وتنافسوا في ذلك.
حرص المسلمون في ذلك العهد على إطعام الطعام وبعضهم قدّمه على الكثير من العبادات، عملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “مَن فطَّر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء”. رواه الترمذي (807)، وابن ماجه (1746)، وصحّحه الألباني.
سار الأمويون على درب الخلفاء الراشدين والرسول الكريم في عادة إطعام الصائمين، إذ يفيدنا الأزرقي في “أخبار مكة” بأن مؤسّس الدولة الأموية، معاوية بن أبي سفيان، اشترى -من آل المؤمل العدويين- دارًا في مكة المكرمة وسمّاها “دار المراجل”، أي قدور الطعام، “لأنها كانت فيها قُدور من صُفْر (نُحاس) يُطبخُ فيها طعام الحاجّ (الحُجّاج) وطعام شهر رمضان”، الذي يفرَّق على الفقراء والمعتمرين وغيرهم من الصائمين.
عوض الاهتمام بمظاهر الاحتفالات والزينة خلال شهر رمضان الكريم، اهتمّ الأمويون بالعبادات والطاعات وتسابقوا للتقرّب إلى الله.
تشير كتب التاريخ إلى أن الخليفة الأموى معاوية بن أبي سفيان كان جوّادًا كريمًا، فكان يأمر بأن تعدّ الولائم والمآدب طوال شهر رمضان، وكانت تضرب في الشام ومصر مآدب كبيرة زاخرة بأصناف وألوان من الطعام والمشارب يدعى إليها الجميع.
ودأب الحكام الأمويون على الإكثار من الإنفاق والتصدق على الرعية في شهر رمضان، خاصة الخليفة الوليد بن عبد الملك، سادس خلفاء الدولة الأموية الذي ولد في المدينة المنورة وتولّى الخلافة بعد وفاة والده عبد الملك بن مروان عام 86 هجري، واستمرت خلافته 10 سنوات.
ويروي أبو الحسن البلاذُري، في كتابه “أنساب الأشراف”، أن الوالي الأموي على العراق الحَجّاج الثقفي كان “يُطْعِم -في شهر رمضان وغيره- كلَّ يوم ألف خِوَانٍ (طاولة المائدة)، على كل خوان: أربعون رغيفًا وجَفْنَة (قصعة) ثريدٍ وجنب شواء، وأرزة وسمكة، وخَلّ وبَقْل”.
وكان “الحَجّاج الثقفي يُحمَل في كرسي فيدور على الأخاوين (جمع خِوَانٍ)، فينظر إلى الطعام فيقول: هل تفقِدون شيئًا أو تَرَوْن تقصيرًا؟ فيقولون: لا”.
يُذكر أن الطعام شهد تحوّلًا كبيرًا في العصر الأموي، خاصة في أصناف المأكولات مقارنة بما كان سائدًا في صدر الإسلام أو إبّان العصر الجاهلي، فقد كانت تقام في هذا العصر الولائم والموائد العامرة، التي تتعدّد فيها الأطعمة وضروب الفاكهة والحلويات.
كنافة معاوية والقطايف
لم يبقَ الطعام على حاله زمن الخلافة الأموية، فقد ابتكر المسلمون أطعمة ومشروبات جديدة خاصة بشهر رمضان، وذلك بعد أن فتحوا مراكز الحضارات القديمة في اليمن والعراق ومصر، وفي الشام حيث استقرت عاصمة الدولة أكثر من 88 عامًا.
شهدت عاصمة الخلافة دمشق، والتي كانت منطلق الفتوحات من الصين إلى الأندلس، أول ما عرف العالم من أطعمة رمضانية، قبل أن تتولى فيما بعد بغداد ثم القاهرة مهمة ابتكار وتطوير ما ارتبط بشهر الصيام من فنون.
اهتمام الأمويين بابتكار نظم وعادات جديدة خاصة بالأكل، جاء من اهتمام الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان بالأكل، إذ يذكر المسعودي أن معاوية بن أبي سفيان كان يُكثر من الطعام حتى قيل إنه كان يأكل 5 مرّات في اليوم.
اشتهر معاوية بشهيته المفتوحة وإقباله على الطعام، وكانت تُقدّم له الأطعمة في السحور لكنها لا تفي حاجته عند الصيام، فشكا إلى طبيبه محمد بن أثال ما يلقاه من الجوع في صيامه، فوصف له الكنافة، وكان ذلك عام 35 هجري (641 ميلادي).
من “كنافة معاوية”
إلى انتشارها
في مختلف الأقطار..
هل أنت من عشاق الكنافة؟
هل كنت تعرف أنها من العهد الأموي؟#مشاهدة_ممتعة#toooti7 pic.twitter.com/NuEB1h7ih6
— #toooti7 (@toooti7) May 25, 2020
فضلًا عن الكنافة، اخترع الأمويون نوعًا آخر من الحلوى أطلقوا عليه اسم القطايف، وتقول إحدى الروايات أن الخليفة سليمان بن عبد الملك هو أول من تناول حلوى القطايف في شهر رمضان عام 98 هجرية.
وإلى الآن يحرص المسلمون في أغلب بقاع الأرض خلال شهر رمضان الكريم على تناول القطايف والكنافة، إذ أصبحت عادة تتداولها الأجيال الواحد تلو الآخر، حتى أنها أصبحت بمثابة أحد خصائص رمضان التي لا يمكن التنازل عنها.
يشير بعض الباحثين إلى أنه ليس هناك طعام ولا شراب اقترن اسمه بشهر رمضان أكثر من الكنافة والقطائف على مرّ مئات السنين، فتسابق الشعراء لتأليف قصائد “الغزل” حولها على مرّ العصور، وتنافست الدول على نسبها إليها.
أما المشروبات التي ارتبطت برمضان زمن الأمويين، فنجد أبرزها عصير “قمر الدين”، وتختلف الروايات حول تسميته، فمنهم من قال إنه نسبة إلى صانعه قمر الدين الذي كان يشبه القمر في جماله، وكان يملك بستانًا من المشمش في دمشق، فيما تقول أخرى إنه كان يطرح في الأسواق مع رؤية هلال رمضان فسُمّي قمر الدين، بينما تنسبها روايات أخرى إلى اسم مدينة في الشام اشتهرت ببساتين المشمش.
عوض الاهتمام بمظاهر الاحتفالات والزينة خلال شهر رمضان الكريم، اهتمّ الأمويون بالعبادات والطاعات وتسابقوا للتقرّب إلى الله إسوة بالخلفاء الراشدين والرسول الكريم وصحابته، مع ذلك ورثنا منهم العديد من العادات والمأكولات التي ما تزال سارية حتى اليوم.