في أجواء تملؤها الحماسة ويسودها التفاؤل بسرعة القضاء على ميليشيات الحوثي وإعادة الشرعية إلى اليمن ومساعدة اليمنيين على النهوض من أزمتهم المعقدة، انطلقت عمليات التحالف العربي بقيادة السعودية تحت مسمى “عاصفة الحزم” في مثل هذا اليوم من عام 2015، مرت 8 سنوات، ولم تتحقق أي من تلك الأهداف، وما زال الحوثيون يسيطرون على صنعاء، وفرضوا أنفسهم على طاولة المفاوضات.
أمَّا الأزمة فلم تصبح أقل تعقيدًا، وباتت خيارات السعودية في التعامل معها من سيئ إلى أسوأ كما قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ويثير قوله الكثير من التساؤلات بشأن ما جنته بلاده من حربها ضمن التحالف الذي تقوده ضد الحوثيين، أو أنها جنت على نفسها بسبب خطأ في الحسابات بشأن العدو والحلفاء؟
من مهاجم إلى مدافع.. ماذا جنت الرياض؟
بناءً على طلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، شكَّلت السعودية تحالفًا من الدول العربية ذات الأغلبية السنية: البحرين ومصر والأردن والكويت والمغرب وقطر والسودان والإمارات، واتبعته بعملية “إعادة الأمل” في أبريل/نيسان 2015، وبحلول عام 2018، توسع التحالف ليشمل قوات من إريتريا وباكستان، ليصبح اليمن بعدهما ليس كما كان قبلهما.
مضت ضربات التحالف الجوية التي لم تسلم منها حتى قيادات المقاومة تحصد من أرواح المدنيين ما يفوق قتلاها من الحوثيين بكثير
يقول العديد من المحللين إن القتال الدائر خلال هذه السنوات تحوَّل إلى حرب بالوكالة، الحوثيون المدعومون من إيران، الذين أطاحوا بالحكومة اليمنية، يواجهون تحالفًا بقيادة السعودية، وقد أدَّى تورط مقاتلين آخرين، بما في ذلك الجماعات المسلحة والانفصاليين المدعومين من الإمارات، إلى تعقيد المشهد.
بعد 8 أعوام من حرب كان يُفترض أنها ستعيد الحكومة الشرعية إلى العاصمة صنعاء وتنهي الانقلاب، يبدو أن واقع الأمر انقلاب آخر وحدود غير آمنة، فعلى الأرض كل شيء تغير لكن ليس في صالح الأهداف التي أعلنها التحالف السعودي الإماراتي لعملياته العسكرية هناك.
جازان ونجران وعسير، كانت تلك المدن – ولأكثر من مرة – هدفًا لصواريخ ميليشيات الحوثي وقذائفها، وشهدت أكثر من محاولة لاقتحامها، ونقلت الرياض من دور المهاجم إلى المدافع عندما استهدفت الصورايخ الحوثية منشآت نفطية سعودية.
استهداف أرامكو جيزان ونجران بأعدادٍ كبيرةٍ من الطائرات المسيرة
استهداف أهدافٍ حيويةٍ وهامةٍ في مناطق جيزان وظهران الجنوب وأبها وخميس مشيط بإعدادٍ كبيرةٍ من الصواريخ الباليستية
إن القوات المسلحة ستنفذ المزيدَ من الضرباتِ النوعيةِ ضمنَ بنك أهدافِ كسرِ الحصار
— العميد يحيى سريع (@army21ye) March 25, 2022
وبعد عشرات آلاف الضربات الجوية للتحالف العربي ضد الحوثيين وقوات صالح، يبقى الخطر قائمًا على حدود السعودية التي أصبحت في مرمى صواريخ الحوثيين وقوات علي عبد الله صالح كلما أرادوا تمرير رسالة لتحالف تناثرت أجندة أطرافه.
في ظل تضارب الأنباء، لا يُعرف من يصدق القول، غير أن المؤكد هو وصول أكثر من صاروخ باليستي إلى سماء السعودية منذ بداية الحرب، ويُجهل ما إذا كانت هذه الصواريخ على اختلاف أنواعها من مخازن الجيش اليمني أم أن الحوثيين حصلوا على صواريخ إيرانية الصنع.
بالنسبة للرياض، فإن قبول سيطرة الحوثيين على اليمن يعني السماح لجارٍ معادٍ بالإقامة على حدودها الجنوبية، وسيمثل انتكاسة في منافستها الطويلة مع طهران، وهي الداعم الدولي الأساسي للحوثيين، وقد زودتهم بالدعم العسكري، بما في ذلك الأسلحة، كما اتهمت حكومة هادي، حزب الله، حليف إيران اللبناني، بمساعدة الحوثيين.
دفع تصور السعودية بأن الحوثيين وكلاء لإيران وليسوا حركة محلية، الرياض إلى التدخل العسكري، لكن العديد من المتخصصين الإقليميين يقولون إن نفوذ طهران محدود على الأرجح، خاصة أن الإيرانيين والحوثيين ينتمون إلى مذاهب مختلفة من الإسلام الشيعي، ومع ذلك، فإن إيران والحوثيين يتشاركون مصالح جيوسياسية: تسعى طهران إلى تحدي الهيمنة السعودية والأمريكية في المنطقة، ويعارض الحوثيون الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والسعودية.
رغم ذلك، مضت ضربات التحالف الجوية التي لم تسلم منها حتى قيادات المقاومة تحصد من أرواح المدنيين ما يفوق قتلاها من الحوثيين بكثير، فما أسوأها حصيلة تلك التي انتهت إليها 8 أعوام من حملة التحالف العربي في اليمن.
ترفض الرياض الكشف عن أرقام دقيقة لعدد القتلى في صفوف قواتها منذ بداية الحرب التي تستنزف جميع الأطراف، لكن إحصاءات سعودية رسمية تقول إن عدد قتلى الجيش السعودي في مواجهات الحد الجنوبي وصل إلى نحو 3 آلاف، في حين يقدر الحوثيون الخسائر البشرية للجيش السعودي بأكثر من 10 آلاف.
وتقدر الخسائر المادية بعشرات المليارات من الدولارات في العام، وبحسب تقارير، تتكبد السعودية في عملياتها العسكرية في اليمن خسائر تقدَّر بـ200 مليون دولار يوميًا على الأقل، وهذا يعني أن حسابات بداية الحرب لم تكن دقيقة، وتصطدم حماسة الرياض كل يوم بحقيقة أن هناك فرقًا بين ما خططت له وما هو على أرض الواقع.
كيف ضلت أهداف التحالف طريقها؟
بتوثيق تقارير دولية، تحول التحالف السعودي من داعم للشرعية في اليمن إلى مقوِّض لها، هذا الدور كشفته الكثير من الإجراءات التي اتخذها طرفا التحالف، السعودية والإمارات، بشكل أحادي، على رأسها إنشاء ودعم فصائل مسلحة لا تعترف بالحكومة الشرعية فحسب، بل تعمل ضدها.
تنوعت هذه الفصائل بين الحزام الأمني في عدن وقوات الدعم والإسناد وقوات النخبة الشبوانية والحضرمية وكتائب أبي العباس المدعومة إماراتيًا، فضلاً عن دعم المجلس الانتقالي الجنوبي المؤيد لفكرة انفصال الجنوب، وتتوزع بشكل رئيسي على محافظات الجنوب اليمني، وتعمل خارج سلطة الحكومة اليمنية لصالح الإمارات.
تركزت العمليات العسكرية الإماراتية في السواحل اليمنية، وبدت مهتمة بالممرات البحرية مثل مضيق باب المندب وميناء المخا وبعض الجزر الإستراتيجية مهما كان الثمن
وكشفت تقارير عدة لجهات دولية ومنظمات حقوقية انتهاكات كثيرة تقوم بها هذه الفصائل المسلحة من بينها اعتقالات غير قانونية وإخفاء قسري وتعذيب وإدارة معتقلات سرية وقتل خارج إطار القانون، حتى باتت هذه الكيانات الموازية للحكومة في اليمن تفرض سلطة مخالفة للشرعية التي هُمِّش دورها بشكل كبير.
ولم يكتف التحالف بذلك، فإلى جانب عرقلة عمل الحكومة الشرعية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، استهدفت هذه التشكيلات المسلحة الموازية كثيرًا من المعارضين لسياسة التحالف داخل الحكومة لا سيما في عدن، وهي التي تحولت من عاصمة مؤقتة إلى مدينة خاضعة لنفوذ التشكيلات المسلحة التابعة للإمارات ومحظورة في المقابل على مسؤولي الحكومة الشرعية التي لا ترغب أبو ظبي في وجودهم هناك.
كما فرض التحالف قيودًا واسعةً على المنافذ في اليمن، لا سيما المطارات والموانئ، فقد أجبر حكومة الرئيس هادي على إيقاف جميع المطارات اليمنية باستثناء مطاري عدن وسيئون في حين ما زال إغلاق مطار صنعاء يسبب معاناة إنسانية كبيرة لليمنيين، ومُنعت الحكومة اليمنية من إعادة تصدير النفط أو الغاز لتوفير إيرادات تعينها على دفع رواتب الموظفين، وتُحجب عن بنوكها السيولة النقدية الحيوية حتى تهتز صورتها لدى اليمنيين.
ومن المسائل التي تحير اليمنيين أكثر عدم تمكين شرعيتهم من إدارة الأماكن المستردة من قبضة الحوثيين، فالرئيس السابق منصور هادي لم يُسمح له بزيارة اليمن لسنوات عدة.
تشير هذه الدلائل إلى أن أهداف التحالف انحرفت عن مسارها لصالح أخرى ربما كان مخططًا لها منذ البداية برعاية سعودية كما يبدو، فالإمارات – ثاني أكبر عضو في التحالف – تقود أيضًا حربًا موازية للسيطرة على الموانئ والسواحل والجزر في اليمن الذي يتميز بوجود 6 موانئ دولية مجهزة لاستقبال البضائع والسفن وثلاثة أخرى نفطية.
لكن ذلك لم يشغل أبو ظبي عن محاولة استيلاد شرعيات بديلة للحكومة الشرعية في الجنوب، ولم يُقعدها عن إدارة سجون سرية أو دعم ميليشيات محلية بين أحزمة ونخب حتى تسيطر على المشهد الهش أمنيًا في الأساس، ولا بأس أيضًا بتشجيع قوى انفصالية للانقلاب على الأجهزة الشرعية في عاصمتها المؤقتة بموازاة تكريسها سلطة منفى لا أكثر.
وإن كان اليمن الملمح الأبرز للصراع الجيوسياسي بين الشريكين الأساسيين المستندين على الولايات المتحدة في لعب الأدوار الإقليمية، إلا أنهما يخوضان أكثر من صراع في الوقت ذاته، أبرزه التنافس الاقتصادي الذي دشنته رغبة السعودية في أن تصبح هي الأخرى مركزًا لوجيستيًا للتجارة الدولية تنافس دبي.
وهنا يحضر اليمن بموقعه الجغرافي كواحد من أهم طرق التجارة الدولية التي يعتمد عليها ميناء جبل علي في نشاطه، ومن أجل هذا الحضور تركزت العمليات العسكرية الإماراتية في السواحل اليمنية، وبدت مهتمة بالممرات البحرية مثل مضيق باب المندب وميناء المخا وبعض الجزر الإستراتيجية مهما كان الثمن، وأسندت السيطرة عليها إلى تشكيلات عسكرية تابعة لها.
كل هذه الأهداف التي حققها تحالف الحرب في اليمن حتى الآن تبدو بعيدة عن أهدافه التي أعلنها لتبرير تدخله العسكري الذي تجاوز أماكن وجود الحوثيين الذين ما زالوا – للمفارقة – يتمتعون بوجود قوي شمال البلاد تحديدًا، واتسع نطاق عملياتهم خارج الأراضي اليمنية، فأصبحوا يستهدفون السعودية عبر صواريخ باليستية والإمارات عبر الطائرات المسيَّرة، أمَّا الحكومة الشرعية فلا صوت مؤثر لها، في حين ينصب تركيز التحالف على تقاسم مناطق النفوذ والثروات في اليمن بين محوريه السعودية والإمارات.
هل تُركت المملكة وحيدة في مستنقع اليمن؟
هذا الخلاف المتصاعد بين الطرفين لا يخفي مهمة الإمارات التي لعبت الدور العسكري الأكثر أهمية في التحالف، حيث ساهمت بنحو عشرة آلاف جندي بري، معظمهم في جنوب اليمن، ومع ذلك، سحبت معظمهم بعد دخولها في صراع مع حلفائها عام 2019، عندما دعمت الحكومة الانتقالية الجنوبية الانفصالية التي استولت على عدن، تاركة التحالف مع وجود بري ضعيف وخيارات تكتيكية أقل.
صواريخ الحوثيين البالستية صارت تهدد عمق السعودية متجاوزة حدها الجنوبي، بل إنهم يهددون بضرب مطارات السعودية والإمارات وموانئهما ردًا على تشديد الحصار على اليمن.
أطماعها في اليمن خلال السنوات الماضية كانت ذائعة الصيت، وشكى منها اليمنيون حتى وصف وزراء بالحكومة اليمنية وجود الإماراتيين بـ”الاحتلال متكامل الأركان”، ولا يُعرف ما إذا كانت أبو ظبي قد قررت التنازل عن هذا كله فجأة أم أنها رضيت بما اصطنعته من قوى انفصال وميليشيات مسلحة موازية للقوات الحكومية في أنحاء اليمن.
قبل أشهر من الانسحاب الإماراتي، أوقف المغرب كل نشاطاته السياسية والعسكرية ضمن التحالف الذي تقوده السعودية، ولم يعد يشارك في أي من التدخلات العسكرية أو الاجتماعات الوزارية للتحالف، وكان قد خسر طيارًا وطائرة ضمن مشاركته في تحالف اليمن قبل أن يسحب طائراته من طراز “إف 16” المشاركة في الحرب عام 2018.
موقف المغرب من التحالف لم يكن مفاجئًا، لا سيما أنه سحب قواته البرية عام 2016، وعبَّر عن هذا الموقف وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطه بأنه “تغيير جوهري”، وقال إن بلاده شاركت منذ البداية في التحالف لكنها غيَّرت موقفها لاحقًا بناءً على تغيير تقييمها للوضع في ضوء التطورات الميدانية سياسيًا وإنسانيًا في اليمن.
سبق هؤلاء جميعًا، دولة قطر التي شاركت في التحالف باعتبارها عضوًا في مجلس التعاون الخليجي، بقوات برية تقدر بألف جندي وعشر طائرات مقاتلة، وبعد أقل من عامين من بدء العمليات العسكرية في اليمن، وفي يونيو/حزيران 2017، أعلن التحالف إنهاء مشاركة قطر عقب قطع دول الحصار (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) علاقاتها مع الدوحة، بدعوى ما أسمته “تعاملها مع الميليشيات”.
ومنذ بداية الهجمات الجوية التي شنها التحالف في اليمن، تكرر الحديث عن رغبة السودان – ثاني أبرز مشارك بقوات برية في التحالف بعد الإمارات – في الانسحاب بسبب ما يتكبده من خسائر، وانتهى الأمر بتقليص عدد القوات السودانية أكثر من مرة حتى وصل في يناير/كانون الثاني 2020 إلى 600 مقاتل، بعد أن قُدِّر عددهم بـ30 ألفًا في يونيو/حزيران 2019، مع بقاء رمزي لعدد محدود من دون تحديد المهام وأماكن التموضع لحفظ ماء وجه التحالف.
أمَّا مصر، التي تشارك منذ البداية في التحالف، لا تتعدى مشاركتها ضمان المصالح السياسية والاقتصادية بعيدًا عن أهداف استعادة الشرعية ومواجهة جماعة الحوثي الذين قيل إن القاهرة استقبلت قادتها سرًا أواخر عام 2021، وفي عام 2017 عرض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إرسال قوات برية تُقدَّر بـ40 ألف جندي، لكن عرضه قوبل بالنفي أو الرفض السعودي بدعوى رغبة الرياض في “بناء جيش يمني قادر على ضمان استقرار البلاد في المستقبل”.
تصريحات اللواء السابق أحمد عسيري عن عرض مصر إرسال 40 ألف جندي لليمن
فيما عدا التحركات السعودية والإماراتية المتنافرة، تبقى باقي الدول بلا تأثير يُذكر، ويبقى التحالف اسمًا على ورق، خاصة مع سحب بعض الدول على رأسها ماليزيا قواتها في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وحياد الأردن الذي لا يتعدى وجوده الطابع الرمزي للدرجة التي تجعله أقرب إلى رفض عمل التحالف من المشاركة فيه.
دوليًا، دفع الغضب من مقتل المدنيين في الحملات الجوية للتحالف، التي غالبًا ما تستخدم أسلحة أمريكية الصنع، ودور المملكة في مقتل الصحفي في “واشنطن بوست” جمال خاشقجي في 2018، الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى إلى الحد من بعض مبيعات الأسلحة وتزويد طائرات التحالف بالوقود.
كما أثار المشرعون مخاوف من وقوع أسلحة أمريكية الصنع في أيدي تنظيم القاعدة ومقاتلي الحوثيين، ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة أكبر مورد للأسلحة للسعودية، وقد استخدم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ثلاث مرات حق النقض ضد مشاريع القوانين التي كانت ستوقف مبيعات الأسلحة إلى السعودية.
ضريبة الحرب.. اليمن ليس كما كان
مع توالي خسارة السعودية حلفائها في اليمن، لم تردع حملة التحالف ميليشيات الانقلاب، ولم تحيِّد قدراتها العسكرية، ولم تحقق هدف منع أذاها عن دول الجوار، فصواريخ الحوثيين البالستية صارت تهدد عمق السعودية متجاوزة حدها الجنوبي، بل إنهم يهددون بضرب مطارات السعودية والإمارات وموانئهما ردًا على تشديد الحصار على اليمن.
ذاك الحصار يفاقم أزمة إنسانية كبرى تتسع رقعتها منذ دخل التحالف العربي على خط النزاع اليمني، فملايين ممن سلموا من القتل بأدوات الحرب يحاصرهم الجوع وأمراض نسيها العالم، هل لهذا كله جاء الحلفاء؟
هدف الرياض يبدو واضحًا، وهو الخروج مما أصبح يُسمى “مستنقعًا” يستنزف ويهين، بينما تبدو إستراتيجية الحوثي أكثر تعقيدًا وإن بدت بالغة الوضوح والبساطة
مع ما يقرب من ثلاثة أرباع سكانه الذين يعيشون في فقر، لطالما كان اليمن أفقر بلد في العالم العربي، وقد وصفت أزمته الإنسانية بأنها واحدة من أسوأ الأزمات في العالم، فقد أدى الصراع إلى نزوح أكثر من أربعة ملايين شخص، وتفشي الكوليرا ونقص الأدوية والتهديدات بالمجاعة.
تجاوزت حالات الكوليرا المشتبه بها مئتي ألف عام 2020، ومن الصعب تقييم تأثير جائحة كورونا، نظرًا لعدم وجود بيانات شاملة عن عدد الحالات، فقد تم الإبلاغ عن نحو 12 ألف حالة إلى منظمة الصحة العالمية، لكن مسؤولي الصحة يقولون إن العدد الفعلي من المرجح أن يكون أعلى من ذلك بكثير.
علاوة على ذلك، خفضت العديد من الدول المساعدات الحيوية لليمن وسط تفشي الوباء، ما دفع الأمم المتحدة إلى خفض الحصص الغذائية لنحو 8 ملايين يمني في يناير/كانون الثاني 2022، وثلاثة من كل أربعة يمنيين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية وحماية، و4 ملايين يمني نازحين داخليًا، وفقًا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين.
تفاقم الوضع في ظل الحصار الفعلي الذي فرضته قوات التحالف منذ سنوات، وأعاق وصول الإمدادات الحيوية والمساعدات الإنسانية من الغذاء والدواء، وتسبب في رفع أسعار السلع الغذائية الأساسية.
ويقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن الحرب أودت بحياة أكثر من 370 ألف لأسباب مباشرة وغير مباشرة، بالإضافة إلى مهاجمة الحوثيين وقوات التحالف عن قصد أهدافًا مدنية مثل مستشفى تديره منظمة أطباء بلا حدود، وكان التعذيب والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري من بين جرائم الحرب المزعومة الأخرى التي ارتكبها طرفا الصراع.
البحث عن مخرج.. هل يحل التقارب مع إيران الأزمة؟
يعيش تحالف الحرب في اليمن مرحلة الصراع على المكاسب أو هكذا تقول الأنباء المسربة عن خلاف بين الطرفين في اليمن، وتتحدث صحيفة “وال ستريت جورنال” عن عدم موافقة الإمارات على انجذاب الرياض نحو تفاهمات مع الحوثيين تضمن أمنها خوفًا من تقليص وجودها ونفوذها الذي نمَّته خلال سنوات الحرب، وترى الرياض في ذلك الموقف نوعًا من المؤامرة عليها والرغبة في إبقائها تحت التهديد المستمر للجماعات المدعومة إيرانيًا، لا سيما الحوثيين الذين باتوا يعرفون الطريق جيدًا إلى عمق المملكة.
ثمة من يأمل في أن يدفع الأمر بالرياض إلى إعداد جرد حساب لأعوامها الثماني في اليمن، التي كانت أعوامًا من الدم والدمار والبؤس
أيًا يكن الأمر بين الرياض وأبو ظبي، فإن هدف الأولى يبدو واضحًا، وهو الخروج مما أصبح يُسمى “مستنقعًا” يستنزف ويهين، بينما تبدو إستراتيجية الحوثي أكثر تعقيدًا وإن بدت بالغة الوضوح والبساطة، وهي ليس تحقيق النصر وحسب، بل وإلحاق الهزيمة المهينة بالطرف الآخر ودفعه لتوسل الحل السياسي بعد أن وعد وتوعد بتطهير اليمن من الحوثين وآثار سيطرتهم على صنعاء وجوارها.
سعت الرياض لتحقيق هدفها مبكرًا وحققت مفاوضات السلام التي تدعمها الأمم المتحدة تقدمًا محدودًا، وجنَّب اتفاق ستوكهولم عام 2018 وقوع معركة في مدينة الحديدة الساحلية، وهي مركز حيوي للمساعدات، لكن لم يكن هناك نجاح يذكر في تنفيذ بنود الاتفاقية، التي تشمل تبادل أكثر من 15 ألف أسير وتشكيل لجنة مشتركة لنزع فتيل العنف في مدينة تعز.
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2019، وقَّع هادي ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي اتفاق الرياض، الذي يؤكد أن الفصائل ستتقاسم السلطة بالتساوي في حكومة يمنية ما بعد الحرب، لكن الانفصاليين تراجعوا عن الاتفاق لعدة أشهر في عام 2020، وانضموا في نهاية المطاف إلى حكومة وحدة ذات تمثيل متساوٍ للشماليين والجنوبيين.
على الرغم من أن تشكيل الحكومة أشار إلى إحراز تقدم في سد الانقسامات الداخلية في اليمن، فإنها لم تفعل شيئًا يذكر لتسريع محادثات السلام، حيث يشعر المراقبون بالقلق من أن الاحتكاك بين الجهات الإقليمية، بما في ذلك إيران والسعودية والإمارات، يطيل الحرب.
اكتسبت جهود السلام زخمًا في أبريل/نيسان 2022، عندما تنازل هادي عن السلطة لمجلس قيادة رئاسي مكون من ثمانية أعضاء، وأقال نائبه علي محسن الأحمر من منصبه، ساعد مجلس الحكم الجديد في تعزيز القوات المناهضة للحوثيين، وهي خطوة يمكن أن تمهد الطريق لمفاوضات شاملة.
في وقت لاحق من ذلك الشهر، نسق الحوثيون وقوات التحالف أول وقف لإطلاق النار على مستوى البلاد منذ سنوات، مما سمح باستئناف الرحلات الجوية التجارية من صنعاء وبعض سفن الوقود بالرسو في ميناء الحديدة.
مدد الطرفان الهدنة عدة مرات، لكن بعد 6 أشهر من السلام النسبي، فشلوا في تجديدها مرة أخرى، وألقى كل من الحكومة اليمنية والحوثيين باللوم على بعضهما البعض في تفكك الاتفاق، الأمر الذي قد يؤدي إلى قتال عنيف ويغرق اليمن في أزمة واسعة النطاق.
بالتزامن مع انتهاء وقف إطلاق النار المدعوم من الأمم المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، كان السعوديون يجرون محادثات أحادية الجانب في عمان للوصول إلى اتفاق دائم مع الحوثيين، بمنأى عن الحكومة اليمنية الشرعية.
فالحوثيون ومن معهم يضغطون على المملكة باستهداف الحدود وإعلان ما يسمونها مرحلة ما بعد الرياض، والهدف من الضغط إرسال رسائل سياسية تنفع يوم يقرر الجميع التفاوض، وتلك مسألة حبلى بالمفاجآت.
آخر هذه المفاجآت، توقيع السعودية وإيران اتفاقًا لاستئناف العلاقات الدبلوماسية في غضون شهرين، ألقت تداعياته بظلالها القوية على المشهد العام في اليمن، ابتداءً بما سُرِّب عن الوقوف على أعتاب صفقة تبادل أسرى نادرة بين الحكومة والجماعة وانتهاءً بتحقيق سلام ممكن في البلد المحطم منذ سنوات.
ومع التقارب المفاجئ بين الدولتين الجارتين، كثر الحديث عن اقتراب إيجاد حل للأزمة في اليمن، وكشفت صحيفة “وال ستريت جورنال” أن إيران توافق على وقف تسليح الحوثيين في اليمن كجزء من اتفاق مع السعودية، معتبرة أن حرب اليمن بمثابة اختبار رئيسي للاتفاق بين هذين الخصمين الإقليميين.
غير أن تحليلًا نشره معهد دول الخليج العربي في واشنطن عكس كل تلك التوقعات، فقد أكد الكاتب جريجوري جونسون أن ملف اليمن لن يكون سهلًا للسعودية، وأن الانسحاب السعودي من غير المرجح أن ينهي الحرب الأهلية في اليمن، مبررًا ذلك بأن المملكة لا تدرك طبيعة الصراع القائم بشكل دقيق.
جونسون تحدث عن اختلاف كبير بين رؤية الرياض للمشهد وما يحصل بشكل فعلي، ففي حين ترى المملكة حربًا واحدة في اليمن، هناك في الواقع 3 حروب: الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة وداعش، وحرب المنافسة السعودية الإيرانية على أراضي اليمن، والحرب الأهلية بين اليمنيين، وكل من هذه الحروب لديها جذور ومسار مختلف للحل، فما يصلح لإنهاء إحداها لا يصلح لإنهاء الأخرى.
بغض النظر عن الصفقة التي توقعها الجماعة مع السعودية، من المرجح أن يستمر القتال بين الحوثيين وما تبقى من حكومة اليمن، وربما يتصاعد في أعقاب الانسحاب السعودي، في هذه الحالة، قد تجد المملكة نفسها منغمسة في الصراع من جديد، لا سيما إذا بدأ الحوثيون في الاستيلاء على المزيد من الأراضي.
الشاهد أن هذا التقارب يرغب يمنيون أن يأتي في صالحهم إلا أن الخشية أن يفاقم خلاف المصالح من أوضاع اليمنيين الذين لم يجنوا من الحرب إلا الجوع والفقر والكوليرا وبوادر التقسيم، وثمة من يأمل في أن يدفع الأمر بالرياض إلى إعداد جرد حساب لأعوامها الثماني في اليمن، التي كانت أعوامًا من الدم والدمار والبؤس.