يحتل شهر رمضان الفضيل مكانة خاصة عند المسلمين، إذ نزل فيه القرآن الكريم، وهو بمثابة العيد، وفيه يجتمع الناس للصلاة والعبادة والصيام والتنافس على الطاعات، دون أن ننسى اهتمامهم بإبراز مظاهر الاحتفال بالشهر.
هذا دأب المسلمين منذ فُرض الصيام عليهم زمن الرسول صلى لله عليه وسلم، فهم يُعظمون هذا الشهر ويمنحونه مكانة كبيرة لما فيه من أجر كثير – إن أحسن المسلم استغلاله -، لكن تفاوتت درجات الاهتمام بالشهر من حيث العبادات والاحتفالات.
لئن سار الأمويون على درب الخلفاء الراشدين والصحابة في كيفية الاحتفاء بالشهر الكريم، فإن العباسيين عُرفوا بإضافة بعض العادات الجديدة لإحياء أيام وليالي رمضان، كالمسحراتي، فضلًا عن اهتمامهم بتحرّي الهلال وإطعام الطعام وتزيين المساجد ورفع المظالم وإقامة العدل، وهو ما سنركز عليه في تقريرنا الجديد ضمن ملف “رمضان زمان”.
يوم الركبة: تحري شهر رمضان
يرتبط صوم رمضان الكريم برؤية الهلال لحديث النبي ﷺ الوارد في صحيحيْ البخاري ومسلم، “صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ”، لهذا كان المسلمون منذ زمن الرسول يتحرون رؤية هلال الشهر الكريم بصورة دقيقة حسب الإمكانات المتوافرة لهم.
خلال عهد الرسول والخلفاء الراشدين وبعدهم الأمويين، كان المسلمون يختارون العدول منهم من الذين لا يُتهمون بالكذب والتدليس، لتأكيد رؤية الهلال، فإن رآه أحدهم يخبر الآخرين، ويتم بذلك صوم شهر رمضان، ونفس الأمر بالنسبة للإفطار.
مع مجيء العصر العباسي، تطور الأمر، واختلفت طريقة تحري شهر رمضان، إذ أصبح الإشراف على مراسم رؤية الهلال موكولًا للقضاة وهم من يوثقون الشهادة على ثبوتها كما هو الشأن اليوم في عمل لجان رصد رؤية هلال رمضان وتوثيقها وإعلانها.
يقول قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان الشافعي في “وفيات الأعيان”، إن محدث مصر عبد الله بن لَهِيعة الحضرمي الذي عينه الخليفة العباسي المنصور سنة 155هجريًا الموافق لسنة 773 ميلاديًا قاضيًا بمصر، كان “أول قاضٍ حضر لنظر الهلال في شهر رمضان، واستمر القضاة عليه إلى الآن”، أي أواخر القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي.
حرص العباسيون على إظهار ابتهاجهم بقدوم الشهر الكريم واجتهدوا في ذلك بكل الوسائل المتاحة لديهم
سميت مراسم تحري هلال رمضان بـ”يوم الركبة”، وكان العادة أن “يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب مَن معه أجمعين، وتبِعهم جميع مَن بالمدينة من الرجال والنساء والعبيد والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مُرْتَقَب الهلال عندهم، وقد فُرش ذلك الموضع بالبُسط والفُرش”، وفق الرحالة المغربي ابن بطوطة.
يضيف ابن بطوطة “ينزل القاضي ومن معه في هذا الموضع فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشمعُ والمشاعل والفوانيس، ويُوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويَصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فِعلهم كل سنة”، وفق الرحالة المغربي ابن بطوطة.
لكن حدث أن اعتمد القضاة في العهد العباسي أيضًا على شهادة الشهود لرؤية هلال رمضان، فقد ذكر الذهبي في “تاريخ الإسلام”، أنه في سنة 624 هجريًا/1227ميلاديًا اعتمد قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق الجِيلي البغدادي على شهادة اثنين من أهل بغداد.
في هذه المرة حدث خطأ، إذ يقول الذهبي إنه في “ثاني ليلة رُقب الهلال فلم يُرَ، ولاح خطأ الشهود، وأفطر قومٌ من أصحاب أبي صالح القاضي، فأمسكوا ستّة من أعيانهم فاعترفوا، فعُزّروا بالدِّرة وحُبسوا، ثم أُخذ الذين شهدوا فحُبسوا وضُرب كل واحد خمسين”.
نتيجة هذا الخطأ ثارت الجماهير على القاضي – الذي اعتمد على الشهود عوض الاعتماد على نفسه – حتى “احتمى أبو صالح بالرُّصافة ببغداد في بيت حائكٍ، واجتمع عنده خلقٌ من باب الأزَج فمُنعوا من الدخول إليه، ثم أُطلق بعد انسلاخ شوّال”.
تزيين المساجد
تطورت الدولة الإسلامية خلال العهد العباسي، بحكم ضمها للعديد من الدول الجديدة تحت راية الإسلام، الأمر الذي انعكس على احتفالات شهر رمضان، إذ حرص العباسيون على إظهار ابتهاجهم بقدوم الشهر الكريم واجتهدوا في ذلك بكل الوسائل المتاحة لديهم.
حرص الخلفاء العباسيون وولاتهم، على تزيين المساجد وزيادة أنوارها وشموعها وطيبها في شهر رمضان الفضيل، لتسهيل العبادات على المسلمين وإظهار فرحهم بقدوم شهر الصيام الذي فيه ليلة خير من ألف شهر.
تظهر كتب التاريخ أن الناس بدأوا يتوسعون في أوائل الدولة العباسية في تعليق القناديل بالمساجد بمناسبة دخول رمضان، وبرعاية رسمية من كبار رجال الدولة، و”كان أولَ من أمر بقناديل في المساجد في شهر رمضان هو الفضل بن يحيى البرمكي” عندما كان واليًا للعباسيين على الجناح الشرقي من دولتهم، حسبما ذكر النرشخي في “تاريخ بخارى”.
والقنديل هو عبارة عن قنينة زجاجية شفافة، قد تصنع من الفخار أو المعادن، وتكون على شاكلة الجرة أو الزهرية، وذات مقابض صغيرة تعلق منها في السقف وتزين بنقوش مختلفة وتوقد بالزيت، ويُفضّل استعمال القناديل لكون النار تكون في داخلها وتحافظ عليها من الانتشار عما يجاورها، حتى لا تسبب الحرائق.
كان شهر رمضان شهرًا جميلاً احبه خلفاء الدولة العباسية المباركة وأعطوه مكانة عالية وكانت لهم طقوس مميزة فيه ومنها : تحري الهلال ، حيث قبل رمضان كان الخليفه العباسي يشرف عل تحري الهلال فيذهب بنفسه الي المرصد الفلكي لتحري هذا الامر العظيم ! pic.twitter.com/gk06XtRbc2
— ابو عبدالعزيز (@abwbdal41396783) March 13, 2023
ضمن اهتمام العباسيين بزينة المساجد في رمضان، أمر الخليفة المأمون – سابع خلفاء بني العباس – في بداية رمضان كاتبه أبا جعفر أحمد بن يوسف العجلي أن يكتب على لسانه رسالة إلى ولاته وعُماله في الأقاليم، ليهتموا بتزيين المساجد وإضاءتها طوال شهر رمضان.
يقول ابن يوسف فيما يحكيه عنه ابن طَيْفُور في “كتاب بغداد”: “أمرني المأمون أن أكتب لجميع العمال في أخذ الناس بالاستكثار من المصابيح في شهر رمضان، وتعريفهم ما في ذلك من الفضل، فما دريت ما أكتب ولا ما أقول في ذلك؛ إذ لم يسبقني إليه أحد فأسلكُ طريقه ومذهبه…، فأتاني آتٍ فقال: قل: فإن في ذلك أُنْسًا للسائلة، وإضاءة للمجتهدين، ونفيًا لمَظانّ الرِّيَب، وتنزيها لبيوت الله من وحْشة الظُّلْمة. فكتبت هذا الكلام وغيره مما هو في معناه”.
أضفت أنوار القناديل رونقًا جميلًا وخاصًا لا يمكن التماسه إلا في هذا الشهر الفضيل، فأصبحت عادة متوارثة منذ القديم إلى عصرنا الحاضر، إذ لا يمكن تخيل قدوم رمضان دون أن تملأ الأضواء لياليه، وقد تطورت وأصبح لها أشكال عديدة.
المسحراتي
يقول الرسول الكريم “تسحروا فإن في السحور بركة”، لذلك حرص المسلمون على طعام السحور، وفي عهد الرسول كان المسلمون يعرفون وقت السحور بأذان بلال بن رباح ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان عبد الله بن أم مكتوم.
تطور الأمر في عهد الخلافة العباسية وأخذ شكلًا جديدًا، وظهر للوجود المسحراتي، تحديدًا في عهد الخليفة المنتصر بالله، ويذكر المؤرخون أن مفهوم المسحراتي ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر عنبسة بن إسحق أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة.
حرص الخلفاء العباسيون على السير على درب من سبقوهم في الإنشاء والتعمير لمؤسسات البِرّ في هذا الشهر المبارك
كان عنبسة بن إسحق يخرج من بيته قبل الفجر آخذًا طريقه من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاصي في الفسطاط على قدميه، وفي طريقه كان ينادي على الناس مُذكرًا إياهم بالسحور – “عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة” – وذلك عام 238 هجريًا.
ومنذ ذلك الوقت، أصبح المسحراتي وظيفة تخرج إلى الحياة مرة واحدة كل عام مع حلول شهر رمضان، يطوف الشوارع لإيقاظ الناس لتناول وجبة السحور قبل أذان الفجر، عبر أساليب متعددة، لتصبح شخصية المسحراتي من أجمل الطقوس التي يشتهر بها شهر رمضان.
رفع المظالم
حرص النبيّ الكريم ﷺ ومن بعده الخلفاء الراشدين على رفع المظالم وإقامة العدل بين الناس، في عموم أيام السنة، وقد كان دأب الأمويين من بعدهم والعباسيين على ذلك أيضًا، لكن ارتبطت بعض الأحداث بشهر رمضان الكريم خلال العهد العباسي.
يذكر المؤرخ ابن طَيْفُور في “كتاب بغداد” أن الخليفة العباسي المأمون رُفعت إليه شكوى “في شهر رمضان أن التُّجار يعتدون على ضعفاء الناس في الكيل، فأمر بقفيزٍ (مكيال) يسعُ ثمان مَكَاكِيك (جمع مَكُّوكٍ: مكيال قديم لأهل العراق) مُرسل، وصيّر في وسطه عمودًا وسُمي الملجم، وأمر التّجار [أن] يُعيّروا (يضبطوا) مكاكيكهم عليها صغارها وكبارها، ففعلوا ذلك ورضي الناس”.
المسحراتي.. تقليد ظهر لأول مرة في العهد العباسي ولا يكتمل رمضان دونه
كيف يسمونه في باقي الدول العربية؟ وما أصله؟ ومن هو أول مسحراتي في التاريخ؟
شاهد الفيديو! pic.twitter.com/Ah7wG5v0xk
— راصد الاخبار (@rasedalakhbar) May 18, 2019
تبين هذه القصة، حرص الخليفة العباسي على السير على درب من سبقوه في الإنشاء والتعمير لمؤسسات البر في هذا الشهر المبارك، والتيسير على الناس في رمضان، فهناك من يستغل هذا الشهر الكريم للتحايل على الناس.
ويحكي تقي الدين المقريزي – وهو زعيم المؤرخين المصريين وعميد مدرسة التأريخ المصرية في العصور الوسطى – في “المواعظ” أن والي الدولة العباسية على مصر أحمد بن طولون رأى “الصنّاع يبنون في الجامع (جامعه الشهير بمصر) عند العشاء، وكان في شهر رمضان فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم، اصرفوهم العصر”.
يقول المقريزي إنها صارت سنّة إلى اليوم (عصر المقريزي في القرن التاسع الهجري/الـ15 الميلادي) بمصر، فلما فرغ شهر رمضان، قيل له: قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم، فقال: قد بلغني دعاؤهم، وقد تبرّكت به، وليس هذا مما يوفِّر العمل علينا. وفرغ منه (أي الجامع) في شهر رمضان سنة خمس وستين ومئتين (265هجريًا/879 ميلاديًا)”.
دور الضيافة
كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحض على طعام المسكين ويأمر المؤمنين بإطعام الطعام، وقد سار على نهجه الخلفاء الراشدين والصحابة ومن بعدهم بني أمية والعباسيون أيضًا، خاصة في شهر رمضان الكريم.
بناءً على ذلك، جاءت فكرة الاجتماع على الموائد في شهر رمضان وإفطار الصائمين، واهتم العباسيون بذلك، فأقاموا لها أماكن منفصلة خاصة بها سُميت “دُور الضيافة” فكانت تستضيف الصائمين ليطعموا فيها محفوفين بأجواء الاحترام والإكرام، ما منح هذه الظاهرة بعدًا احتفاليًا مؤسسيًا.
يظهر اهتمام العباسيين بهذه الظاهرة، في العديد من القصص التي تم تناقلها، منها ما نقله المؤرخ ابن الأثير – في كتابه “الكامل” – من أن الخليفة الناصر لدين الله العباسي أمر في رمضان سنة 604 هجريًا/1207ميلادي “ببناء دُور في المحالِّ (الأحياء) ببغداد ليُفطر فيها الفُقراء”.
“سُميت “دُور الضيافة”، يُطبخُ فيها اللحم الضأن، والخُبز الجيد، عمل ذلك في جانبيْ بغداد (الرُّصافة والكَرْخ)، وجعل في كلّ دارٍ من يُوثقُ بأمانته، وكان يُعطي كلّ إنسانٍ قدَحًا مملوءًا من الطبيخ واللحم، ومَنًّا (كيلٌ قديم يساوي 40 غرامًا تقريبًا) من الخُبز، فكان يُفطرُ كلَّ ليلةٍ على طعامه خلقٌ لا يُحصون كثرة”!
سار حفيده الخليفة المستنصر على نفس نهجه، فقد قال ابن شمائل البغدادي الحنبلي – في “مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع” – إنه كانت له أوقاف “على “آدُرِ المضيف” (دُور الضيافة) التي أنشأها في محال بغداد لفطور الفقراء في شهر رمضان”.
مظاهر البهجة فى رمضان
المسحراتى♦فى عصر الدولة العباسية يعتبر عتبة بن إسحاق أول الولاة وكان واليا على مصر أول من كانوا يسحرون الناس فكان يخرج لإيقاظهم مرددا “يا عباد الله تسحروا فإن فى السحور بركة”
♦وتطورت وابتكروا الطبلة ويدق عليها المسحراتي تسمى “بازة” طبلة كبيرة
?المسحراتي pic.twitter.com/EHZl5ANSNG
— faten yousri?☕️?? (@Unknown94603432) March 17, 2023
لكن يبقى أبرز أمراء الدولة العباسية من حيث الكرم خلال رمضان، هو هارون الرشيد الذي عرف بازدهار فترة حكمه ودهائه، بجانب كرمه وتدينه الشديد، فقد كان في رمضان يمد الموائد ببهو قصره لإفطار المسلمين، وقيل يتنكر ويتجول بين الحاضرين لسؤالهم عن رضاهم عن الطعام.
لم يكن إفطار الصائمين حكرًا على الخلفاء فقط، إنما وصلت ولاتهم أيضًا، إذ اتخذ بعض الولاة من الإنفاق في رمضان وإقامة موائده العامة وسيلة لتقوية صلاتهم برعاياهم، وترسيخ شرعيتهم السياسية بين جماهير الولاية التي يحكمون.
يذكر ابن عساكر في “تاريخ دمشق” أن أمير دمشق والأردن للعباسيين مالك بن طَوْق كان “من الأسخياء المشهورين”، فكان “إذا جاء شهر رمضان نادى منادي مالك بن طوق بدمشق كل يوم على باب الخضراء – بعد صلاة المغرب – وكانت دارُ الإمارة في الخضراء في ذلك الزمان: الإفطار رحمكم الله، الإفطار رحمكم الله، والأبواب مفتحة فكل من شاء دخل بلا إذن، وكان لا يمنع أحدًا من ذلك”.
فضلًا عن الخلفاء والولاة، ساهم أهل الخير واليسار وصغار الأمراء والوزراء في إطعام الصائمين في شهر رمضان الفضيل، طلبًا للأجر وتيسيرًا للصائمين، عملًا بهدي النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.