حل رمضان هذا العام ضيفًا على لبنان في ظل وضع اقتصادي صعب ومتردٍ حول ما يقارب 80% من اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر وفي ظل خسارة اللبناني لأكثر من 90% من قدرته الشرائية، حيث تخسر الليرة اللبنانية كل يوم المزيد من قيمتها أمام العملات الأجنبية الأخرى حتى إن سعر صرف الدولار الأمريكي في السوق الموازية وصل خلال الأيام القليلة التي سبقت دخول شهر رمضان إلى مئة وأربعين ألف ليرة ثم عاد واستقر حاليًا بجوار المئة وعشرة آلاف، وهذا ما فاقم من حجم الأزمة لدى اللبنانيين وراح يدفعهم إلى البحث عن موارد جديدة يستعينون بها لسد حاجات الشهر الفضيل من الأكل والشرب والملبس وما سواه.
لكن أبواب الرزق في لبنان باتت ضئيلة وقليلة نسبيًا مع الأزمة التي تعصف بالبلد، غير أن ذلك فتح أبوابًا أخرى جسدت في بعض معانيها التآخي والتراحم والتعاون التي يحملها الشهر الفضيل.
مظاهر استقبال رمضان
درجت العادة في لبنان أن يتم استقبال شهر رمضان المبارك بالزينة التي تحمل معاني الصوم وتحض عليه، وتُدخل البهجة والفرحة على قلوب المسلمين باعتبار أن الزائر الكريم ضيف يجب الاحتفاء به والاهتمام لقدومه، وقد كانت هذه الزينة كالفوانيس الرمضانية واليافطات المرحبة والأضواء المشعة وغيرها تترك أثرًا بالغًا في تفاعل الناس مع الصوم ومع عبادة قيام الليل، فتجد المساجد ممتلئة بالمصلين ومظاهر الصوم منتشرة في الأرجاء.
كانت المساجد تزدان بكل ما هو جميل مع قدوم رمضان، فترى المآذن مضاءة بكل الألوان التي تدعو الناس إلى حضور الجمعة والجماعات، كما ترى محيط المسجد وقد انتشرت فيه كل أنواع الزينة الطبيعية وغيرها استعدادًا لاستقبال المصلين، وغالبًا ما كان يتم ذلك في كل المساجد.
كما كانت مداخل القرى والبلدات المسلمة تزدان باليافطات المرحبة بشهر رمضان وعبادة الصوم، فضلًا عن اللوحات الجميلة التي كانت تنتشر على جانبي الطرق تحض على الصوم وتدعو إليه، وغالبًا ما كانت البلديات والجمعيات الأهلية تتولى ذلك.
ولم يكن الأمر في المدن مختلفًا عن القرى والبلدات، فقد كانت أحياء المدن تزدان أيضًا بكل ما هو جميل وما يدعو إلى الصوم وأخلاق القرآن، وكانت تتولى ذلك بلديات المدن بالتعاون مع الهيئات الأهلية والخيرية.
وحتى على مستوى الأفراد والعائلات والمؤسسات الخاصة، فتجد أن أرباب الأسر كانوا يحرصون على إضفاء نوع من البهجة والفرحة في قلوب أبنائهم من خلال الاحتفاء بقدوم رمضان من خلال الزينة المنزلية التي تُشعر أفراد الأسرة بالراحة والاطمئنان.
والحقيقة أن هذه المظاهر تراجعت بشكل ملحوظ هذا العام بالنظر إلى الضائقة المالية والمعيشية التي يعاني منها الناس في ظل الوضع الاقتصادي الصعب، بينما حول قسم من المؤسسات والأفراد جزءًا من الميزانيات التي كانت مخصصة لهذا الشيء لصرفها في مصارف أخرى.
شهر الخير والإفطارات الرمضانية
في رمضان اعتاد الأقرباء والأصدقاء وحتى الزملاء في المؤسسات المختلفة تنظيم إفطارات جامعة بدعوة من أحدهم ثم يتم تداول ذلك بينهم، غير أن هذه العادة تراجعت أيضًا كثيرًا في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، وبالتالي باتت هذه الإفطارات بهذا الشكل تنحصر في شريحة ميسورة فقط.
كما كانت الجمعيات الخيرية تجد فرصة لها لتنظيم إفطارات جامعة لأصحاب الأعمال بحيث يكون الإفطار لقاءً لهم من ناحية، وفرصة لجمع التبرعات للجمعيات من ناحية أخرى، غير أن هذا أيضًا تراجع لكلفة الإفطارات في الأماكن العامة كالفنادق والمطاعم التي تتجاوز في بعضها قيمة نصف راتب الموظف عن الشخص الواحد، واستعاضت الجمعيات عن ذلك بالتركيز على تأمين إفطارات للعائلات المحتاجة في بيوتها.
تنظم بعض المساجد حلقات علم وذكر يحضر فيها علماء ومشايخ المنطقة أو غيرهم مع المصلين ويتولى كل عالم أو شيخ إلقاء موعظة أو درس في اختصاصه وتجذب هذه الطريقة العديد من المصلين والمؤمنين
إلى ذلك لجأت بعض المؤسسات وحتى الأفراد الميسورين إلى فتح طاولات رمضانية في بعض الأحياء بحيث تُقدم وجبة إفطار للصائمين عبارة عن صحن من الأرز المطبوخ مع بعض الدجاج إضافة إلى كوب من “الشوربة” وصحن من “الفتوش”، ويستطيع كل من يحضر إلى هذه الطاولات أن يتناول إفطاره وينطلق إلى مسجده.
بينما ذهبت بعض المؤسسات الخيرية إلى استحداث مطابخ رمضانية خاصة في الأرياف، بحيث يتم تجهيز عدد من وجبات الإفطار يوميًا لعائلات محتاجة ويتم تزويدهم بها كل ليلة من رمضان أو كل ليلتين قبل الغروب بحسب العائلات.
وللتخفيف من أعباء مصاريف الشهر الكريم على العائلات عمدت بعض الهيئات والأفراد إلى اجتراح أفكار جديدة بحيث يتم الإعلان في بعض الأحياء في المدن أو البلدات والقرى عن تأمين بعض المواد الغذائية الخاصة برمضان بأقل من نصف ثمنها، بحيث يتبرع بعض الميسورين بتسديد النصف الآخر وهو ما يخفف من الأعباء عن كاهل العائلات ويؤمن إفطارًا كريمًا لهم.
دعوة الخير في رمضان
خلال العامين اللذين شهدا وباء كورونا تراجع بشكل كبير حضور المصلين في المساجد سواء للصلوات العادية أم صلاة التراويح، إلا أن هذا العام عادت المساجد تعج بالمصلين سواء في الصلوات الخمسة أم في صلاة التراويح التي يجتمع خلالها اللبنانيون واللاجئون السوريون في المساجد.
يترافق ذلك مع برامج دعوية واسعة في أغلب المساجد التي تلجأ إلى تنظيم دروس في الفقه والسيرة والعقيدة وغيرها عقب صلاة العصر أو الفجر من كل يوم، ويتناوب على إعطاء الدروس والعظات علماء ومشايخ وفق برامج مرعية من دوائر الأوقاف في معظم المناطق اللبنانية.
كما تتولى جمعيات وهيئات مهتمة بنشر الوعي والثقافة الإسلامية تنفيذ برامج دعوية تستهدف الأطفال أو النساء أو المصلين من مختلف الأعمار عبر استضافة علماء حتى من خارج مناطقهم، أو أحيانًا من خارج لبنان.
إلى ذلك تنظم بعض المساجد حلقات علم وذكر يحضر فيها علماء ومشايخ المنطقة أو غيرهم مع المصلين ويتولى كل عالم أو شيخ إلقاء موعظة أو درس في اختصاصه وتجذب هذه الطريقة العديد من المصلين والمؤمنين الذين يحضرون للاستماع إلى المشايخ والعلماء.
كما تنظم المسابقات الرمضانية والقرآنية في المدارس التي تتولى الإشراف عليها مؤسسات إسلامية، بحيث تُطلق مسابقات حفظ القرآن أو الأسئلة المتصلة بالسيرة أو الفقه أو غيره، وتُمنح الجوائز للفائزين.
رمضان يحمل الخير للناس ويعيد جمع شملهم في ظل الوضع الصعب الذي يعيشونه وفي ظل التحديات الجسام التي تنتظرهم، لكنه دائمًا يحمل الأمل بالفرج القريب من رب كريم
هذا وتتولى إذاعة القرآن الكريم التابعة لدار الفتوى وإذاعة الفجر الإسلامية، إذاعة برامج دعوية وتربوية وفقهية وغيرها في رمضان عبر أثيرهما فضلًا عن برامج للإجابة عن الأسئلة التي تُطرح عادة ومتعلقة بالصوم.
وتشكل هاتان الإذاعتان مصدر ثقة لكل المسلمين في لبنان، خاصة أن من ضمن البرامج التي تُقدم عبر أثيرهما استضافة علماء كبار من العالم الإسلامي.
كما أن إذاعة الفجر تطلق كل عام حملات دعم وإغاثة للعائلات المحتاجة سواء في لبنان أم حتى في الخارج وتتولى التنفيذ مؤسسات أهلية بالتنسيق بين المتبرعين والإذاعة، وقد لاقت هذه الحملات صدى طيبًا رغم الحالة الصعبة التي يعيشها لبنان.
وفي سياق الدعم العائلي تكثر المبادرات الفردية والجماعية التي يتولى فيها عدد من الأشخاص مسؤولية السعي لجمع تبرعات من أجل دعم بعض العائلات المحتاجة وغالبًا ما تكون هذه المبادرات في محيط الأشخاص الذين يكونون محل ثقة في محيطهم.
هو رمضان يحمل الخير للناس ويعيد جمع شملهم في ظل الوضع الصعب الذي يعيشونه وفي ظل التحديات الجسام التي تنتظرهم، لكنه دائمًا يحمل الأمل بالفرج القريب من رب كريم جعل خلف هذه الجموع في لبنان عمقًا عربيًا مسلمًا لا بد أن يكون له حظ في التخفيف عن كاهل هؤلاء أمام الأزمة التي يعانونها.