في مطلع السبعينيات، حذر كتاب “حدود النمو” من التصاعد السكاني الكبير في عالم محدود المصادر، مضيفًا ضرورة توجيه الحراك السيادي العالمي إلى خلق وسائل تنمية مستدامة وعدم النظر إلى طبيعة الكوارث الناتجة عن تداعي الطبيعة، بسبب احتباس حراري أو غيره، وأكد الكتاب أن نتائج ذلك التجهيل يمكن أن تستحيل إلى ما يشبه نقر جغرافيا الطبيعة بعصا، بينما هي وحش هائج، وقتما ينفعل، سيأكل الأخضر واليابس.
بعد سنوات، أشار نفس مؤلف الكتاب السابق، في مقال له عام 2004، إلى أن نبوءته لم تصدق فقط، بل تجاوزت حد رؤيته المتفائلة، وأن زعماء العالم لم يتجاهلوا آليات تفعيل تنمية مستدامة، بل باركوا الأزمات، واستعانوا بالطيور الجارحة ليقتات الجميع على ضحايا الكوارث والحروب.
تطور مفهوم الكارثة البشرية، خاصة عقب الحرب العالمية الثانية، وخلال الصراع السوفيتي والأمريكي كان على أحدهما أن يتسلم راية الريادة، بخطاب استعماري جديد، لكن هاجس التخوفات كان حاضرًا بشكل مبكر، غير أنه لم يكن بالحسبان أن ذلك العالم يمكن أن يؤول إلى التهام ما تبقى من أنسنة العالم، إلى تقديس آليات التربح، في كل وقت، خاصة أوقات الكوارث.
دماء مؤنسنة
يفتتح كتاب “اليوم نرمي القنابل وغدًا نبني القصور” بمشهدين فارقين: الأول في أثناء قصف مدينة كوباني السورية في 2014، حينما قال أحد الجنرالات المتقاعدين، إن ذلك ضرورة “لأجل أغراض إنسانية”، واليوم، وبينما تئن سوريا بفعل كارثة الزلزال، لم تصل ضرورة الأغراض الإنسانية إلى زعماء العالم في القطب الأمريكي والأوروبي.
المشهد الثاني، حوار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مؤتمر صحفي (مارس/آذار 2014)، حينما تورط مع أسئلة صحافية بشأن النزاع الروسي الأوكراني على القرم، توقف بوتين عند أحد الأسئلة وقال: “هذه مهمة إنسانية”.
بدأ مفهوم “أنسنة الحرب” في 1999، حينما أعلن حزب الناتو خلال ضربته الجوية على كوسوفو، أن الأمر ليس أكثر من ضرورة للتدخل، حفاظًا على “إنسانية العالم”، كانت هذه تحديدًا البداية لإلصاق الحرب بالأنسنة، حيث “القصف الإنساني” و”الاحتلال الإنساني” و”الاستعمار الإنساني” أيضًا.
تاريخ مختصر للطيور الجارحة
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تسلمت الولايات المتحدة راية التوجيه العالمي بآليات استعمارية جديدة، إذ لم يكن العالم وقتها جاهزًا لتلقي كوارث حربية متتالية، أو على الأقل، باتت فكرة الانتصار الحربي مستهلكة، لأنها ببساطة ليست كفاية للتربح، ولتغذية ذراع المساعدة التي تربط المصالح الدولية في القوى العظمى.
شركات القطاع الخاص أو “الشركات العابرة للقارات”، إضافة إلى قطاع معقول من منظمات المساعدات الدولية وغير الربحية، هما ذراعا الانتصار، اللذان بتفعيلهما، يمكن للتدخل الحربي أن يكون مادة فعالة لتربح الدول.
ظهرت الجمعيات الخيرية في المملكة المتحدة مبكرًا، تحديدًا عام 1942، نشأت شركة “أوكسفام” المعنية بالإغاثة والتنمية، وتطورت إلى 15 منظمة وزمالات عديدة مع دول كبرى، وتعمل الآن في 90 بلدًا، تتلقى أوكسفام أكثر من نصف دخلها السنوي من مصادر حكومية، والجانب الآخر من التمويل يعنون بأنه من “مصادر مؤسسية أخرى”، بينما منظمة “أنقذوا الأطفال” تتلقى ثلثي دخلها من جهات حكومية، والثلث الأخير لا يخضع لمصدر معلوم.
في العالم الملتبس الذي نعيشه، تجبرنا نسب التمويل هذه على مساءلة هذه الشركات، هل تعمل في سياق محايد فعلًا؟ وهل تتعرض لأي ضغوطات دولية خلال عملها، الذي ينص (من خلال قانون دولي)، على حيادها التام والتزامها الإنساني وتجاهلها أي حيثيات عرقية أو سياسية أو دينية، أي يكون المهم، هو العمل، ضمن سياقها التخصصي، على التنمية والإغاثة والإنقاذ خلال أوقات الحروب؟
بطبيعة الحال، يمكن لأي متابع عادي لأحداث العالم، أن ينتج انطباعه إجابة بنفي الحياد، لكن هذا ليس كافيًا لإيضاح آليات عمل مثل هذه المؤسسات، أو تحديدًا، آليات الضغط عليها والتضحية بأهل الكارثة لغرض ربحي.
منذ 11 سبتمبر/أيلول، تشكلت منظمات داعمة وغير ربحية ضخمة، نظرًا للتفحش الأمريكي ضد هواجس الإرهاب، إلا أن ظهور هذه المنظمات كان مصحوبًا بالدعم والتوجيه المباشر من الحكومة الأمريكية، فمثلًا “وكالة التنمية والإغاثة الدولية” تضاعف دخلها 600 مرة في 15 عامًا فقط، فعمرها محصور في الحرب على العراق وأفغانستان، رغم أن هذه الوكالة هي منظمة تعتمد على العمل الخيري، وبالفعل فتح تحقيق دولي للنظر في مدى ارتفاع ربحية وكالة التنمية، وتبين أنها “تكيل” لموظفيها مرتبات باهظة، إضافة إلى توثيق تكاليف ضخمة لحفلات طواقم العمل.
خلال الدخول الغربي/الأمريكي في الصومال، ظهرت وكالة “بانكروفت” التي تعمل على تحقيق الاستقلال في مناطق الحروب، وللمفاجأة، كانت وظيفة هذه الوكالة جمع جنود متقاعدين – في هذه الحالة، تعتمد القوات الأمريكية والبريطانية على جنودها المتقاعدين بشكل أساسي، وبمقابل مادي ضخم – وعدد من المرتزقة المجهولين، لتدريب قوات الاتحاد الإفريقي المنتشرة في البلاد. لماذا؟ لمواجهة الجهاديين. تدرج هذه الوكالة ضمن منظمات العمل غير الربحي، ويكيل لها من مصادر مختلفة مبالغ ضخمة سنويًا.
لا يتوقف العمل هنا على التطور السريع في إنشاء مؤسسات لها طابع “مؤنسن” لتدعيم آليات التربح والدخول في قلب مواطن الكوارث، فكتاب “الربح المفاجئ” يثبت أن شركات التنقيب عن النفط في القطب الشمالي وشركات إطفاء الحرائق والمشاريع الحرة، جميعها لها قدرة على إيجاد نموذج أعمال ربحي في المقام الأول، حتى لو سيحرك ذلك العالم تجاه كوارث بيئية.
دوافع امتصاص ما تبقى من دم للبقاء
بالعودة إلى المشهدين المذكورين في مطلع المقال، اللذين اجتمعا على “أنسنة الحرب”، نذكر مشهدًا ثالثًا يجعل الأمر أكثر وضوحًا وفجاجة.
في 2011، صرح وزير الدفاع البريطاني، أن على شركات الاستثمار وإعادة الإعمار “حزم حقائبها” للسباق بشأن عقود البناء، عندما تنتهي حملة حلف الناتو التي شنت على ليبيا أواخر حكم معمر القذافي.
يحيلنا الاختلاف بين واقعية التصريح بدخول شركات الإعمار عقب قصف لييبا، وتقنين ضرب سوريا وجدالات الحرب الروسية الأوكرانية بغطاء إنساني، إلى تطور النظرة الغربية لآليات العمل على شفط دماء دول العالم الثالث، أو عمومًا، أي بقعة جغرافية تقع فيها كارثة ويتبين أي فرص للتربح منها.
إن الفرق بين الخطاب الاستعماري الأوروبي، ومن ورائه الخطاب الأمريكي، الأكثر فجاجة، أنه قديمًا كان يعمل على خلق مراوغات حوارية، فالعراق حرب إنسانية لأجل الحفاظ على المنطقة، بينما أفغانستان، دفاع عن العالم من التفحش الجهادي الإرهابي، مرورًا بسوريا ومحاولة إعادة ضبط الأمور والحفاظ على المدنيين بين أطراف الحرب، لكن ما وراء ذلك الخطاب، ثمة وقاحة داخلية فجة.
يظل التاريخ – بسنواته الخمسين الأخيرة – شاهدًا على تداخلات القطاعات الخاصة مع التوجهات الدولية، والتجاور مع المؤسسات غير الربحية
يطالعنا كتاب “ادفع أي ثمن: الجشع، القوة، والحرب الأبدية” – الذي فاز بجائزة بوليتزر للصحافة في 2014 – على مستوى الربح من الحرب الأمريكية وحلفائها على العراق وأفغانستان، إذ وصلت إلى 4 تريليونات دولار، كان النصيب الأكبر من وسائل الربح هو تأمين عقود لشركات استثمارية وإعمارية، إضافة إلى تأمين عقود تبشيرية لمؤسسات دينية، تقع في مسماها الرسمي أنها منظمات محايدة وغير ربحية، وتعد هذه النسبة من الربح هي الأكبر في التاريخ الأمريكي الحديث.
غير أن الأمر، ليس بمحدودية حربين فقط، فالقائمة تطول وما زال قوس الإضافة مفتوحًا للمزيد مستقبلًا، لكن يظل التاريخ – بسنواته الخمسين الأخيرة – شاهدًا على تداخلات القطاعات الخاصة مع التوجهات الدولية، والتجاور مع المؤسسات غير الربحية، التي تقف ما بين الحياد، وفي هذه الحالة يتم تجهيلها وإيقاف تمويلها، أو تلتقم التوجهات الحكومية وتمرح في بحور الدعم التي لا تنتهي.
ما الذي يمكن أن يجمع مؤسسات استثمارية عابرة للقارات مع المهاجرين من العمق الإفريقي المفعم بالفقر والاستنزاف الاقتصادي الأوروبي؟ وكيف دفعت دول أرواحًا كثيرة منها للوقوف أمام ماكينات المؤسسات الخاصة كي لا تأخذ ثرواتها؟ وكيف عبأ العالم الغربي، بشركاته ومؤسساته الحكومية، اقتصاده بالموارد والعقود الربحية، خلال الرقص على جثث الكارثة في الصومال وأفغانستان والعراق؟ وكيف لم تسلم سوريا، خلال أزمتها، من كل هذا؟
نبحث معًا، في سلسلة تقارير هذا باكورتها، ضمن ملف “تجار الكوارث”، ونتتبع آليات عمل الحكومات التي لم تتوقف فقط عند استغلال الكوارث، بل باتت تعيد إنتاجها.