في منتصف القرن التاسع عشر، وُضعت اللبنة الأولى للـ”الصليب الأحمر”، كانت هذه اللبنة هي، للمفارقة، المعاناة، بدأت رحلة هنري دونان، أول الحاصلين على نوبل في السلام، حينما وثق معركة “سولفيرينو” في كتابه “تذكار سوليفيرينو“.
بعد سرد فظائع الحرب التي رآها، تساءل دونان في كتابه: “أليس من الممكن، في زمن السلم والهدوء، تشكيل جمعيات إغاثة، بواسطة متطوعين متحمسين، مؤهلين تمامًا؟”.
بعدها بسنة واحدة، ولد الصليب الأحمر بجنيف، وتم توقيع اتفاقية جنيف الأولى التي تنص على تحسين حال الجرحى في الميدان، ولم تكن عملية ميلاد الصليب الأحمر – كنبتة خضراء وسط خراب سيشمل العالم في القرن العشرين، وفيما عاصرناه من القرن الحاليّ – بالشيء اليسير، فقد اعترضت الكثير من القوى العظمى آنذاك، كان اعتراضها بالأساس على وجود أشخاص غير مجندين في أرض المعركة، وكأن للتاريخ حيثيات مقدسة، وأن للحروب آيات إلهية، فلا يمكن وجود أحد على أرض الحرب، إلا أحد أطرافها.
رغم الاعتراضات، كان للشأن العالمي وقتها رأي إيجابي، وجاء ذلك بريادة جنيف العاصمة بسويسرا، وبالفعل تم إرساء القواعد الأولى للصليب الأحمر.
تتسم الأحداث التاريخية السابقة بالمثالية والالتزام الإنساني، اللذين لا يتناسبان بشكل كبير مع نظم الحوكمة العالمية المعاصرة، التي بدأ تفحشها عقب الحرب العالمية الثانية، والتاريخ ذاته واكب ظهور المنظمات الإغاثية وغير الربحية.
في ملف “تجار الكوارث”، نبحث حضور المؤسسات غير الربحية وشركات القطاع الخاص كأطراف حرب أو يتم إقصاؤها وتعجيزها، جاء ذِكر آليات عمل هذه المنظمات، المحايدة منها والمؤدلجة، في أرض المعركة وعلى حدود الكوارث، وكيف تؤثر القرارات العليا في تحيز بعضها وتعجيز المحايد منها.
وخلال هذا المقال نتتبع سياقات القرارات الداخلية والمناوشات التي بدأت، ولا تزال، مع المجالس الأممية الدولية، وكيف تؤثر القرارات والبيانات الداخلية في حياة آلاف البشر، تحيي بعضها، وتقتل الكثير منها.
من النازية إلى أفغانستان
لدى الصليب الأحمر امتيازات كبيرة، بحكم وجوده التاريخي وأسبقيته، إضافة إلى الصلاحيات التي منحتها له الأمم المتحدة، وتأتي عادة على مضض، لكن الأحداث التاريخية لم تخل من تعرضه للتعطيل، وبما أن الصليب الأحمر يتمتع بنفوذ حركي في ساحات الحرب، فإن القرار الناتج من الجهة العليا يمكن له أن يغير ذلك.
خلال الحرب العالمية الثانية، تعرّضت لجنة الصليب الأحمر إلى التأثير النازي، بحكم النفوذ الهتلري الحاصل في سويسرا، كان للصليب الأحمر، تحت الراية الألمانية، ممارسات مخزية في اعتقال اليهود، وتأسس ذلك من خلال قرارات داخلية من المكتب الرئيسي، بمنع زيارات المديرين الدوليين لألمانيا، وتقديم أي بيانات متابعة لمجريات الأمر هناك.

كذلك خلال حرب أفغانستان، احتدم الخلاف بين الصليب الأحمر ومكاتب الاستخبارات الأمريكية بأفغانستان، ولم تفلح توجيهات “المنع” البيانية، الصليب الأحمر، من استمراره في العمل بموجب القانون الدولي، لذا أكملت مكاتب الصليب الأحمر عملها في متابعة الجرحى ومعالجتهم، إلا أن التدخل الاستخباراتي من المكتب الرئيسي بالولايات المتحدة، استطاع من خلال الاستعانة بشركات “لم يعلن عن ماهيتها” أن يمنع وصول الصليب الأحمر إلى المحتجزين، إذ تدخلت شركات طيران لنقل المشتبه بهم والأسرى بعيدًا عن مناطق الصراع.
وصل ذلك الخلاف الداخلي، حد الذروة، حينما زار رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر واشنطن في 2004، ورافق حضوره تصريحات عن قلقه بشأن عدد كبير من المعتقلين، متهمًا الاستخبارات الأمريكية بالعمل “من قلب العاصمة” على قدمٍ وساق، لمنع الوصول إلى المعتقلين وإعطائهم الحق الإنساني في حدٍ أدنى من الرعاية.
جدلٌ داخلي
ننتقل إلى نوع آخر من التراشق بالبيانات، الذي جاء، للمفاجأة، من طرفين أمريكيين، ففي 2010، تصاعد الجدل بشأن سلاسل الإمداد الغذائية بالصومال، وتم تبادل بيانات داخلية بين مكتب الأمم المتحدة والوكالة الدولية للتنمية بالولايات المتحدة، بشأن وجود انحراف في توزيع الإمدادات.
كانت البيانات الصادرة من مكتب الأمم المتحدة كارثية، لأنها أثبتت سلبية الحضور الأمريكي في هذا الأمر، ما أدى إلى وصول الإمدادات إلى عدد قليل، ودون تقدير الخطط المعتمد عليها في التوزيع، إضافة إلى تجاهل تحذيرات الأمم المتحدة، التي أفادت بوجود “كمائن” من كتائب مسلحة، تتصيد طرق إيصال الإمدادات لمناطق صراع محتمدة، وتخير العابرين، إما دفع ضريبة ضخمة ماليًا وإما الاستيلاء على الإمدادات المرسلة.
عادة لا تأخذ البيانات التي تعمل عليها منظمة دولية صورة عامة، إلا بعد الدخول في حالة من عدم الفهم حسب ذكر بيتر غيل، لأن اللجوء إلى التسريبات الصحفية ليست فكرة مفيدة للتعبير عن استقرار الحوار الدولي بين المنظمات الدولية والوكالات، وبين الجهات الحكومية، لذلك فإن تسريب معلومات تدين طرف حكومي، وبصورة موثقة من حيث الأدلة، وأيضًا يأتي ذلك من مكاتب مركزية بالعواصم، كل هذه الحيثيات تشير إلى نشوء “حائط سد” في الحوار الداخلي بين هذه الأطراف.
يتجلّى ذلك بوضوح في طبيعة رد وزارة الخارجية الأمريكية في هذا السياق، إذ وكلت وزارة العدل، بتصريح منع إعطاء أي تصاريح لمنظمة غير حكومية، للمساعدة في توزيع الإمدادات، مع استثناء واحد، طبعًا، سيكون من نصيب وكالات المساعدة الرسمية التابعة للحكومة، وتابع تصريح وزارة العدل، وجود مخالفة قانونية ضد كل منظمة تساهم في المساعدة، حتى ولو بصورة “إيجابية”!
الدليل السياسي للتحقق من الشريك
لم تستطع المؤسسات الدولية المساعدة هضم التدخل الأمريكي في شؤونها، حتى التي لا تستفيد من المعونات الأمريكية كانت تتعرض لإزعاج القوات الأمريكية في مناطق الصراع، إذ أباحت مكاتب الاستخبارات الأمريكية، طلب قواعد بيانات المنظمات الإغاثية طبيًا وغذائيًا، جاء ذلك أولًا في سياق “تحديد المواطنين الآمنين لعدم استهدافهم”، غير أن القرار القادم من العاصمة كان له حبكة أكثر إقناعًا.
وضع مكتب مكافحة الإرهاب بواشنطن العاصمة دليل “التحقق من الشريك”، وهو باختصار، إعطاء أذون قانونية لفروع مكاتب الاستخبارات بمناطق الصراع في المناطق المصنفة إرهابيًا، حتى تحصل على نسخ من بيانات الأشخاص الحاصلين على مساعدات من المنظمات الإغاثية، أيًا كانت مدى استقلالية هذه المنظمات.
الباطن الاستخباري لهذا القرار، كان محاولة شرعنة التدخل الأمريكي الذي واجهته المنظمات بالرفض القاطع، واللجوء للشأن الدولي العام لتوثيق ذلك ومحاولة منعه، لكن صدور القرار من العاصمة، فعّله بشكل كبير.
في نفس سياق “الحرب على الإرهاب”، تعرضت الجمعيات الخيرية الإسلامية للرهاب الأمريكي المفتعل، الذي أدى إلى تعطيل جزء كبير من فاعليتها، قامت شبكة المنظمات الخيرية بعمل استثنائي عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ووثقت التعنت الحاصل من الوكالة الدولية بالولايات المتحدة تجاه الجمعيات الخيرية الإسلامية.
كانت مكاتب مراقبة الأصول الأجنبية، بالتعاون مع وزارة الخزانة، لديها استحقاق في تجميد ممتلكات وأصول أي شركة لا تخدم الطرف الأمريكي، أو حتى تتسم بالحياد، وكان حل “الطابع الإرهابي” سحريًا لاستحقاق قرار الإغلاق وتجميد العمل.
صوت آخر
لدى المكتب الرئيسي لمنظمة “أطباء بلا حدود” في باريس، مكتب عمل بحثي داخلي يسمى “كراش – مركز التفكير في الأعمال الإنسانية والمعرفة”، يحظى المركز باستقلالية تامة عن المنظمة، حتى وهو جزء منها، لأنه يعمل في الأساس كجهة بحثية تقدم التقارير والمتابعات الدورية والإحصائية، التي تقوم على مساءلة ونقد أي منظمة عاملة في القطاع الإغاثي، ويشمل ذلك منظمة أطباء بلا حدود.
آلية عمل المركز تعتمد على فكرة جوهرية، هي أن مسؤولية الحياد في تقديم العون للمحتاجين والمعرضين لكوارث الحرب وغيرها، لا تتوقف عند تقديم المساعدات بالصورة الأكثر إيجابية، وفي إطار الممكن، بل في محاولة تجاوز العقبات التي تحدث، حتى إن كانت من جهات سيادية، يمكن للحوار الدولي أن يخلق منافذ، وكذلك يمكن للإدانة والنقد الواضح، من خلال المتابعات البحثية، أن تضع الشأن الدولي أمام نمذجة واضحة ومفصلة لأي أزمة، وبالتالي يمكن النقاش والجدل بشأن نقطة داخلية بأزمة عمومية، تعطي حراكًا إيجابيًا لطالما كان مفقودًا بفعل البطء البيروقراطي.
لا يمكن التأكيد على فاعلية كامل النشاط والنقد القائم على تقديم أطروحات بحثية بديلة الذي يعتمد عليه مكتب كراش، فالمؤسسات غير الربحية والتابعة للحكومات خاصة الأمريكية، لها قاعدتها البحثية أيضًا، لكن آلية العمل التابعة لأطباء بلا حدود، تخلق ذاكرة للإدانة على الأقل، لإدانة تقاعس الحكومات وسلبياتها، وتوجهاتها المضمرة في إطار المساعدات التي عادة ما تذهب في دوائر إعادة الإنتاج والخصخصة لأجل مزيد من الربح.
في الأخير، فإن الحراك السياسي العالمي يمكن محورته في إطار “الالتباس”، غيمة من الرماد تسمح لكثير من الكيانات، التجارية الخاصة وحتى الإغاثية التطوعية، أن تطبق أجندات بعينها، في صيغ مساعدات، وفي الواقع فإن معاناة المتضررين من الحروب تتصاعد، والمبالغ المتدفقة لأجل مساعداتهم تطيح بها الأيادي الموجهة، والقرارات الدولية المعطلة، لكن محاولات المقاومة لا يمكنها أن تتقادم بفعل الزمن، لأنها البديل الوحيد، وإن كانت بديلًا أقرب للعجز منه إلى الفاعلية.
جدير بالذكر، وهو حدث مناسب لخاتمة المقال، أن الأزمة السورية حتى 2014، كانت تتعرض لتوجه سلبي كبير من حيث المساعدات، وكان للحوار الدولي والضغط من خلال الإحصائيات والبيانات دور فاعل في حل جزء منها.
في مطلع 2014، أصدر مجلس الأمن في نيويورك قرار 2139، أعرب فيه عن سلبية التدخل الدولي في الشأن السوري، وأن المنظمات العاملة بشكل فعال يتم سلب أحقيتها في المشاركة لتوصيل المعونات الطبية والغذائية للمناطق المستحقة، وطالب مجلس الأمن بضرورة التدخل السريع لمنع تفاقم الأزمة.
عجزت الأممم المتحدة، في بادئ الأمر، عن الرد بأي قرار إيجابي، لأن النظام السوري استعان بحق الفيتو من خلال روسيا والصين، لمنع المنظمات المحايدة من ممارسة عملها بأي منطقة تابعة للنظام السوري، لكن في نفس العام، وبعد ضغط متتابع من مجلس الأمن، تم إعطاء الشارة الخضراء لبعض المنظمات كي تتحرك من خلال منافذ جديدة: منفذ من الأردن وآخر من العراق واثنان من تركيا.