لم تختلف الأزمة السورية عن مثيلاتها من الحروب التي تدخلت بها قوى خارجية لضبط حالة الصراع، وبطبيعة الحال، لم تكن سوريا منفذًا ربحيًا كبيرًا، لكن أزمتها التي بدأت بالثورة على نظام بشار في مارس/آذار 2011، وامتدت إلى مساحات أكثر خطورة من بقية ثورات الربيع العربي، وشهدت تدخلات إقليمية ودولية، ليستعرض كل طرف قدراته وإمكاناته في الحرب والدبلوماسية، في أثناء لحظات الصراع الفارقة، وكذلك قدرته على إعادة إنتاج مصير البشر، وإن كان نحو الكارثة.
شغلت الأزمة السورية وجدان المجتمعات العربية طوال السنوات الفائتة، ويعود ذلك إلى نفس الآليات التي يتم من خلالها تصدير معاناة الشعوب خلال كارثة ما: صور الأطفال، عائلات مهجرة، لجوء في مختلف بقاع الأرض، مع الحفاظ على استقطاع حيثيات الأزمة من داخلها وإزاحة إمكانية مساءلة القوى المتدخلة، من خلال تتبع قراراتها، حتى القرارات المعنية بالمساعدات ومعونات الإغاثة والرعاية والتنمية.
في سوريا، تحديدًا منذ بدء مظاهرات المطالبة بإسقاط نظام بشار وحتى عام 2014، خاضت المؤسسات غير الربحية الموجودة لأجل التزام إنساني محايد، حربًا كبيرةً حتى تؤدي وظائفها، فقد وقعت في حصار بين تعنت نظام الأسد والسلبية الشديدة التي مارستها الجهات الممولة، التي تمثلت بشكل كبير في الوكالات الأمريكية والبريطانية الداعمة.
جوارًا إلى الصور الجديرة بالتعاطف، ثمة صورة أخرى جديرة بالنظر، لأنها تنطلق من النقد والوضوح الذي يبين مدى “ميوعة” قرارات الدول الكبرى في مساعداتها، وتثبت أن الصورة الخارجية للقرار تختلف كثيرًا عن توجهاته السياسية، ففي الفيلم التسجيلي “إنقاذ أطفال سوريا”- أنتجته bbc – تظهر طبيبتان مسلمتان من أصل بريطاني، تتحدثان عن مدى تدخل بيروقراطية قرارات الدول العظمى وأثر ذلك على حركة المنظمات غير الربحية بشكل فاعل ومؤثر، وأن المعونات القادمة، تعطل إنقاذ الضحايا المدنيين أكثر من مساعدتهم.
نفس الفيلم، يوثق ضرب مدينة حلب بالنابالم عام 2013، بينما يذهب الأطفال المحترقون الذين يتنفسون بصعوبة بالغة إلى مستشفى يبدو أنه غير مكتمل!
خلال رحلة أحد ممثلي منظمة “سوريا ريليف” المعنية بالإغاثات الطبية، وهو نصف بريطاني ونصف عربي، ينتقل عادة بين المملكة المتحدة والحدود السورية، ويحكي في كتاب “اليوم نرمي القنابل وغدًا نبني القصور” عن التعنت الشديد الذي يلقاه في الحركة من مطار إلى آخر، خاصة في بريطانيا، فالحركة خارج البلاد أو داخلها أو حتى في المنزل، حسب قوله، محاطة بنظرات الشك والرغبة في التعطيل.
حتى يصفق لنا العالم
كي تظهر أنماط عمل المعونات والتمويلات التي قدمت للشعب السوري، فمن الأفضل النظر لها من جهة مختلفة عن نِسب الأرقام وحجم ما تم تقديمه، ويتم استعادة المشهد السوري الداخلي، من خلال المنظمات المحايدة التي تم تقييد مساحات عملها وجعلها مجرد “صورة” للمساعدات، حتى يمكن للشأن العالمي أن يصفق لأبوية الولايات المتحدة ورفاقها.
اعتمدت منظمة “يدًا بيد من أجل سوريا” على دعم مستقل، تبرعات من مختلف أنحاء العالم، ومن منظمات خيرية كبرى لا تعتبر ضمن أي طرف حربي أو حتى له حضور سياسي في الأزمة، تتسم المنظمة بالاستقلال الذي يتيح لها الحركة في الداخل السوري والمجازفة بإنقاذ المدنيين في مناطق الصراع القلقة.
على جهة أخرى، كان للحكومة البريطانية يد عليا في نسب تمويل مؤسسات أخرى، وصلت إلى 100 مليون جنيه إسترليني سنويًا، وللمفارقة، لم تكشف الحكومة البريطانية هوية متسلمي تمويلها، وقيل إنها “وكالات إنسانية، لم يكشف عنها لأسباب أمنية”.
انحسر عمل المنظمات “الإنسانية” غير المعلومة، في المساحات التي تسمح بها الحكومة السورية، مع الاتفاق غير المعلن بالنزوح بعيدًا عن أي منطقة صراع، أو أي حيز جغرافي لا توافق عليه الحكومة، وبالتالي كان للمنظمات “المحايدة” تحدٍ كبير أمامهم، وهو محاولة الدخول إلى مناطق حربية مشتعلة لإنقاذ المدنيين.
في نفس السياق، كانت المعونات البريطانية والأمريكية تمطر مختلف المنظمات، التي لم يعلن حتى عن ماهيتها، ولم يكن لها أي حضور يذكر في ساحات حرب فعلية يقتل ويقصف بها المدنيون
حصلت منظمة “يدًا بيد من أجل سوريا” على دعم من جمعية “ميرلين” البريطانية، وفي 2014، أصبحت ميرلين تابعة للمنظمة العالمية “أنقذوا الأطفال”، وبشكل مفاجئ، نتج قرار بوقف الدعم عن منظمة من أجل سوريا، وجاء السبب واهيًا، إذ قالت منظمة “أنقذوا الأطفال” إن لها أولويات، وهي الرعاية الصحية، بدلًا من العمليات الجراحية في الخطوط الأمامية للحرب!
جاء ذلك القرار في الواقع لسبب مختلف، وسياسي بالأساس، فقد اعتمدت منظمة من أجل سوريا على الالتزام بموجب القانون الإنساني الدولي، وهو ضرورة علاج أي مصاب، دون الالتفات لعرقه أو أيديولوجيته أو حتى موقفه القانوني، فالمسؤولية الإنسانية بإبقاء المصاب حيًا هي الأولوية، ومن ثم بعد ذلك يمكن للإجراءات القانونية أن تأخذ مجراها.
بلغت نسب المعالجين من الجيش السوري الحر عند منظمة “من أجل سوريا”، نحو 30%، ولم يلق ذلك رضى جهات كثيرة، سواء الخارجية أم نظام الأسد، وبالتالي جاء قرار منع التمويل عن “من أجل سوريا” في صيغة مهترئة، وهو أسبقية الإسعاف الأولي على العمليات الجراحية، في بلد يخوض حالة حرب مهلكة!
حاول المستشفى التابع لمنظمة “من أجل سوريا”، الصمود لبعض الوقت، حتى وصل إلى تقليل تكاليف الموظفين، تقليل مرتباتهم التي كانت شحيحة بالأساس، إضافة إلى التوفير قدر الإمكان في المعدات، حتى انتهى الأمر بإعلان المنظمة إفلاسها، وأغلق المشفى.
في نفس السياق، كانت المعونات البريطانية والأمريكية تمطر مختلف المنظمات، التي لم يعلن حتى عن ماهيتها، ولم يكن لها أي حضور يذكر في ساحات حرب فعلية يُقتل ويُقصف بها المدنيون.
معونات معطلة
قام “معهد التنمية لما وراء البحر” بنشر تقرير وضح به نقطة مهمة، فيما يتعلق بطبيعة المعونات التي تقدمها الوكالات الدولية المانحة، فبسبب حالات اختطاف بعض ممثلي ومتطوعي منظمات غير ربحية، خاصة في الجنوب السوري، عطلت الوكالات المانحة المساعدات المالية واستبدلتها بأخرى عينية “مواد غذائية مثلًا”، بينما قدم تقرير معهد التنمية حيثيات فشل هذا النوع من المساعدات، إذ يحتاج المجتمع السوري المتهالك إلى تدخل طبي أكثر منه غذائي، فعلي الأقل ننقذ حياة المدنيين، ثم نجد لهم مأوى وطعامًا.
أشار تقرير المعهد إلى أن المساعدات العينية غير عملية أو شحيحة التأثير بشكل كبير، إضافةً إلى “الكسل المتعمد” من الجهات المانحة في إرسال مساعداتها العينية إلى مكان مناسب، لأنها لم ترغب في الدخول إلى مناطق الصراع السوري، وبالتالي اكتفت بإرسال المساعدات لمناطق أكثر أمانًا، بينما المناطق الأخرى، الأكثر احتياجًا، تم تجهيلها طبيًا وغذائيًا.
الإصرار على إرسال المساعدات عينيًا، يعني أنها تصل إلى حيث يمكنها أن تصل، وليس إلى الشخص المستحق.
في كتاب “اليوم نرمي القنابل” يوضح أحد مسؤولي منظمة “يدًا بيد من أجل سوريا”، أن هذه المنهجية في تقديم المساعدات، أتت نتائجها السلبية سريعًا، حينما تعرضت “معرة مصرين” للهجوم، وتوافد المصابون إلى مستشفى المنطقة، الذي لم يكن يتحمل إلا وجود طبيب واحد، وجد فجأة أمامه طفلًا في سنة الثالثة عشر بشظايا نارية اقتحمت حوضه، وآخر في سن السابعة تأثر بشظايا وتم إزالة طحاله على إثرها، إضافة إلى ثالث تعرض لحروق أثرت على طبقاته الجلدية، حتى انتهى بعظام مكشوفة.
تواطؤ سياسي
لم يتوقف النشاط السلبي للوكالات المانحة التي تأخذ قرارها من الدول المتدخلة على “محدودية” التفكير في طبيعة المساعدات وكيفية تفعيلها، وكان ذلك في سياق متعمد، حتى يتم التوفيق بين الصورة “الأبوية” العالمية لهذه الأنظمة وإرضاء كل الأطراف السياسية داخل الصراع السوري.
ففي أغسطس/آب 2013، نشرت منظمة “أطباء بلا حدود” تقريرًا به أدلة على استخدام نظام الأسد أسلحة كيماوية، وطبعًا، هذا خط أحمر رسمه الغرب لبشار الأسد مبكرًا، منذ أن بدأت الأزمة في الاحتدام، ورغم ذلك، تم عبور الخط الأحمر وتجاهل الأدلة، وحتى التقرير الذي قدمته المنظمة لم يلتفت له على أي مستوى.
لدينا أيضًا، منظمة “ميرسي كور” التي كانت واحدة من المنظمات القليلة التي عملت في الأراضي المتنازع عليها، أي أنها دخلت إلى قلب مناطق مثقلة بالضحايا، كان للمنظمة مكتب إداري بدمشق، أخذت حكومة بشار رأيًا مخالفًا بشأن وجوده، ورأت أن المساعدات عبر حدودها تدعم الأعداء وتنتهك سيادتها، وبالتالي فإن نشاط هذه المنظمة ومثيلاتها غير قانوني، وطلبت من المجتمع الدولي وقف عمل هذه المنظمة.
رغم الاستجابة لمطالب نظام الأسد، حاولت “ميرسي كور” تعطيل القرار قدر الإمكان، وبدأت في عمل حوار دولي يدخل فيه وسطاء لأجل النظر في كارثية الاستجابة لقرار “على مستوى مخيف من القمع للدور الإنساني المحايد في مثل هذه الحالات”.
عمل طاقم “ميرسي كور” دون علامات تجارية على الملابس، أو المساعدات المقدمة طبيًا أو عينيًا، وحاولت بقدر الإمكان، تفعيل التمويل المقدم لها، حتى توقفت في 2014، حينما تدخلت الجهات البريطانية التي تقدم الدعم الأساسي للمنظمة، وأمرت، بقرار قانوني، أن يتم وقف عمل المنظمة.
كانت منظمة “ميرسي كور”، تساعد 350 ألف سوري داخل دمشق وفي محيطها، إضافةً إلى دعم وتسهيل صعوبات الراغبين في النزوح إلى تركيا، بحثًا عن المأوى والاستقرار والمعيشة.