في رواية “الخدعة-22” للكاتب جوزيف هيلر، ثمة اقتباس بها يمكن أن يشمل الصورة المعاصرة لآليات الاحتلال وسلب موارد الدول الفقيرة، يقول هيلر: “أودُّ رؤية الحكومة وقد انسحبت من الحرب تمامًا، على أن تترك العداوة برمّتها إلى الصناعة الخاصة”.
شغلت “الصناعة الخاصة” حضورًا محوريًّا في الحراك الحربي الأمريكي، منذ حرب العراق مرورًا بأفغانستان وباكستان بالتتابُع، وانتهاءً بالمبادرة الأمريكية والغربية الفورية تجاه أي كارثة حربية تحدث في دولة يحتمل وجود أي موارد بها، أو أي أرضية خصبة للتربُّح.
لم تعد الصورة الكلاسيكية للحرب حاضرة، فهناك تحرُّك مؤسّسي يجاور خطوات الجنود، يساوم المواطنين على حياتهم، على قُوْتهم اليومي، وفي الأخير ينتهي الأمر بسلبهم إياهما.
في أفغانستان، تحرّك القطاع الخاص سريعًا، أو ربما سبق التحرك الحربي الأمريكي وانتظره هناك، فبعد عام 2001 كان هناك 4 ملايين مواطن أمريكي بتصاريح أمنية سرّية، من بينهم نصف مليون مقاول، وفي عام 2010 صدر للمخابرات الأمريكية تقرير يشير إلى أن حوالي نصف العاملين بمركز مكافحة الإرهاب في أفغانستان هم مقاولون تابعون للقطاع الخاص.
انتشرت شركات إعادة الإعمار في العاصمة كابُل، إضافة إلى المدن المجاورة التي تعرّضت للقصف، وبدأت في سباق شره حول الحصول على عقود احتكارية تتضمّن إعادة إعمار خراب الحرب، غير أن كعكة التربُّح تداعت إلى مستوى أكثر قذارة، وهو المتجارة بالأمن الداخلي للمواطنين والمنشآت.
“أنا حكومتي”
في كتاب “رأسمالية الكوارث”، يتتبّع الباحث أنتوني لوينشتاين حضور نوع مختلف من مؤسسات القطاع الخاص في ساحة الحرب، فخلال رحلته إلى أفغانستان التقى بأحد جنرالات الجيش الأمريكي المتقاعدين يمتلك شركة تأمين خاصة بالعاصمة كابُل، نشأت الشركة عام 2002 أي بعد عام واحد من ضرب أفغانستان.
يشير ذلك إلى استغلال الوقت المثالي للدخول إلى العاصمة في ذروة تفكُّكها الأمني، إذ تقدم الشركة المذكورة مساعدات مدفوعة الأجر حتى تؤمّن الهيئات الدولية، مراكز الصحافة الأوروبية، الدبلوماسيين، البنوك والسفارات.
طبيعة الحوار الذي أجراه مؤلف “رأسمالية الكوارث” مع مالك الشركة، تشير إلى أن الحضور الاستثماري للقطاع الخاص في حالة الحرب لا يتوقف فقط عند دعم متطلبات القوات الأمريكية، بل يتصاعد إلى نقدها، والتحكُّم أحيانًا في طبيعة المعلومات شديدة الحساسية التي تستعصي على مكاتب المخابرات الأمريكية.
تستطيع شركات الأمن الخاصة أن تدخل في قلب جغرافيا المكان، مثلما وصلت في حالة أفغانستان إلى الجنوب المبطن بعناصر طالبان
يتحدث مالك الشركة، المدعو جاك، أن عمله يحمل وازعًا إنسانيًّا وتعاونيًّا في الأساس، فيشير مثلًا إلى أن شركته تؤمّن فرص عمالة لمواطنين أفغان، وتساعد في تأمين عمل السفارات والبنوك في خضمّ هرجلة أمنية داخلية، ويشدّد على ضرورة الاستعانة بشركات التأمين الخاصة، إذ لا حاجة للدول الكبرى أن تنهَك ماديًّا في إرسال جنودها، فربما شركات الأمن الخاصة هذه تتكفّل بالأمر لو أُتيحت لها الفرصة.
لدى هذا النوع من المؤسسات ورقة رابحة للضغط على الحكومات الغازية، حتى تساعدها في خلق ابتزاز ممتدّ يضمن لها مزيدًا من المؤسسات التي تطلب التأمين مقابل مبالغ باهظة، حيث تستطيع شركات الأمن الخاصة أن تدخل في قلب جغرافيا المكان، مثلما وصلت في حالة أفغانستان إلى الجنوب المبطن بعناصر طالبان، وهنا تستطيع هيئات استخبارات هذه الشركات أن تشارك مراكز استخبارات الدول المتواجدة بقواتها، إن كانت هناك أي معلومات هامة.
جمعت الشركة الصينية حوالي 75 ألف عامل أفغاني، بينما غير القادرين على العمل طُردوا من منازلهم القريبة من موقع الحفر. مَن يستطيع تأمين هذه العملية؟ شركة تأمين خاصة طبعًا
إن طبيعة الحوار الذي يجريه جاك، مالك شركته، تدلّ على مدى استقلالية القطاع الخاص عند نقطة ما، حيث يكون هو “حصار” مستقلّ بدوره، على المستوى الاقتصادي أولًا، إضافة إلى تحويل بديهية الأمن الداخلي، والتي تلتزم بها الحكومة المحلية، إلى مادة ربحية مدفوعة.
لذلك، نجدُ أنه من المنطقي أن يصرّح جاك في حواره أن شركته هي مؤسسة مستقلة هنا، لها اقتصادها الخاص وآلياتها في الربح وقدرتها على خلق حوار مع حكومات أخرى، لأنه يمثل بذاته حكومة ما، إذ يقول: “أنا حكومتي”.
حرب الموارد
فيما يتعلق بثروات الموارد المختبئة في باطن الأرض، دخلت شركات المعادن الخاصة حينما استقرت الأمور أمنيًّا عام 2008، إذ اشترت شركة معادن صينية في العام نفسه حقوق تنقيب في منجم تابع لمحافظة لوكر، وخلال 4 سنوات توقف العمل خلالها عدة مرات، باركت الحكومة الأفغانية خطوة التنقيب، وبادرت بتأمين المناطق المعنية، وقدّرت مكاسب التنقيب هذه بأرباح ربع مليار سنويًّا.
خلال عملية الحفر تمَّ طرد كبار السن من المنطقة، خرجوا من بيوتهم عنوة بحكم أنهم غير قادرين على العمل، إذ جمعت الشركة الصينية حوالي 75 ألف عامل أفغاني، بينما غير القادرين على العمل طُردوا من منازلهم القريبة من موقع الحفر. مَن يستطيع تأمين هذه العملية؟ شركة تأمين خاصة طبعًا.
بصورة غير قانونية، خرجت المعادن إضافة إلى النفط والغاز، وتمَّ توريدها إلى إيران وباكستان كمحطات للانتقال إلى دول أخرى معنية بالتربُّح.
دخلت شركات أخرى، خلال مساحات أكثر داخلية تشتبك مع حركة القوات الأمريكية، في دائرة التربُّح من أي شيء ممكن، على سبيل المثال تلقت شركة “ريندون غروب” عشرات ملايين الدولارات من الحكومة الأمريكية، مقابل “حملة دعائية للحرب في أفغانستان”.
إضافة إلى شركة KBR التي كانت مختصة بشؤون الجنود، وحصلت على عقد ضخم بملايين الدولارات، لأجل تولي حاجات الجنود اليومية من توفير وجبات أطعمة وغسيل ملابس، وحتى عمل صيانات للقواعد الحربية الجوية.
حتى يطبق القطاع الخاص قبضته على كل محيطه، حتى فيما يتعلق بالترويج للأفكار، حسب تقرير نشرته “واشنطن بوست”، حصلت شركة “ريليف آند ديفولبمنت” على 2 مليار دولار كدعم من الوكالة الأمريكية الدولية للتنمية، مع التشديد على التاريخ المشين لهذه المؤسسة المموّلة في الحرب، خاصة أن منهج عملها غير معلوم، إذ تعرَف، في سياق تعريفي مبهم، بأنها شركة “مسيحية روحيًّا”.
انتهى ذلك الأمر عام 2015 بوقف الدعم، وصرّحت الوكالة خلال بيان مقتضب أن سبب الامتناع عن الدعم جاء بسبب “سلوك خطير” للمؤسسة.
الانتقال إلى باكستان: لن نترك شيئًا
دخلت باكستان في سياق الحرب على أفغانستان بحكم مركزية زراعة المخدرات فيها، إضافة إلى نزوح الكثير من السكان المتضررين بسبب غياب الأمن الداخلي بأفغانستان، وبالتالي تبعهم الجيش الأمريكي، بينما يسحب القطاع الخاص من ياقته للبحث عن أي فرصة للسلب.
عملت شركات التأمين الخاصة، كغطاء للقوات الأمريكية، على مقايضة الحراك الاقتصادي الباكستاني، والذي كان يعاني آنذاك من ركود مخيف، لذلك نجحت رؤوس أموال شركات الأمن الخاصة في خلق “استثمار داخلي”، من خلال توفير عمالة داخلية وضخّ عملة صعبة داخلية، تساعد المؤسسات المالية على “تحريك” السوق الاستثماري الباكستاني ولو قليلًا.
كان حراك مؤسسات القطاع الخاص، الأمنية وغيرها، تجاه باكستان حراكًا إجباريًّا كخطوة أولى، لأن الحكومة الأفغانية المحلية حاولت اتخاذ خطوات مقاومة تجاه عمل هذه الشركات، وبسبب تضييق آليات العمل على هذه الشركات في أفغانستان، بدا التحرك تجاه باكستان، والمساومة حول إنقاذ الهيكل الاقتصادي من الانهيار، فكرة سديدة وبديلًا ربحيًّا جيدًا.
حضور القطاع الخاص، خاصة في حالة الحرب والكوارث التي نتناولها، هو أشبه برقصة مرحة على مشهد كارثي، يموت فيه الكثير جوعًا وضررًا من القصف والقتل، بينما يقوم ممثلو هذه الرقصات بتبرير مرحهم.
بآلية العمل نفسها في أفغانستان، تواطأت الشركات الخاصة مع الوكالة الدولية للتنمية، من خلال تقديم خرائط بيانية للأماكن الداخلية بباكستان، وتقديم ملفات مفصّلة عن المواطنين المحليين لتسهيل عمليات الاقتحام.
عند العام 2014، وخلال الخروج التدريجي للجيش الأمريكي من أفغانستان وباكستان، والذي تُوّج بخروج شبه كامل في العام السابق بعدما استعادت طالبان الحكم مرة أخرى، يظلّ السؤال حول الاستنزاف الاقتصادي لأفغانستان وباكستان قائمًا.
فمع تحرُّك هذه الشركات تجاه مساحات أخرى، لأن المدة الزمنية للتواجد قد انتهت، يحيلنا خلوّ السوق الاستثماري الأفغاني والباكستاني من هذه الشركات إلى النظر في الفجوة الاقتصادية الحاصلة، من بطالة في العمل، وافتقاد للعملة الدولية، وحدوث ركود في التدفُّق المالي الداخلي بالمؤسسات.
يظلُّ حضور القطاع الخاص، خاصة في حالة الحرب والكوارث التي نتناولها، هو أشبه برقصة مرحة على مشهد كارثي، يموت فيه الكثير جوعًا وضررًا من القصف والقتل، بينما يقوم ممثلو هذه الرقصات بتبرير مرحهم.
ربما يحتاج هؤلاء الأموات إلى دقيقة مرح قبل الموت، وربما يكون هناك وعد بمستقبل مختلف، لكن واقع الأمر -إحصائيًّا- يشير إلى بيانات مختلفة تمامًا، إذ تقوم هذه الشركات على فكرة وحيدة، وهي تحقيق “الربح” على حساب ما تبقّى من وجود إنساني في ساحة الحرب.