يواصل عشرات آلاف الإسرائيليين تظاهراتهم الاحتجاجية في تل أبيب وبعض المدن الأخرى ضد الإصلاحات القضائية التي تنتوي حكومة بنيامين نتنياهو تمريرها، بينما زادت درجة غليانها بعد إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت على خلفية رفضه لتلك التعديلات التي وصفها البعض بأنها ستكون المسمار الأكبر في نعش تماسك الدولة العبرية ووحدة جبهتها الداخلية.
الاحتجاجات تجاوزت في كثير من مساراتها الخطوط الحمراء في الوقت الذي أعلنت فيه الشرطة الإسرائيلية فشلها في احتواء الموقف بعد زيادة الأعداد وغلق الطرق الرئيسية، والتجمهر أمام منزل نتنياهو الذي شهد صدامات قوية بين المحتجين وقوات الأمن، الأمر الذي دفع لتدخل جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) الذي نقل نتنياهو وعائلته إلى مكان آمن.
أسفرت تلك التظاهرات على مدار الـ12 أسبوعًا الماضيين عن تضييق حلقة الخناق على الحكومة الجديدة التي تواجه أشرس حملة استهداف في تاريخ الدولة العبرية، وسط إصرار مثير للجدل من وزراء اليمين المتطرف على تمرير تلك التعديلات بدعوى عدم الرضوخ لما أسموه “الفوضويين”.
الضغوط الداخلية والخارجية الممارسة على نتنياهو للتراجع عن تلك التعديلات القضائية أو “الانقلاب القضائي” كما تسميها وسائل الإعلام العبرية، وضعته في مأزق ربما يهدد مستقبله السياسي ويضعه على المحك، فلم يعد أمامه سوى خيارين، أحلاهما مر، إما تمرير تلك الإصلاحات وإما تجميدها مؤقتًا.
انشقاقات واستقالات وإضرابات.. فوضى عارمة
بات من الواضح أن نتنياهو ما عاد يتحمل أي أصوات تعارض خطته في تمرير تلك التعديلات، حتى لو كانت من داخل الائتلاف الحكومي ذاته، وهو ما فعله مع صديقه وزير الدفاع يوآف غالانت الذي أقاله من منصبه لمجرد أنه تجرأ وطالب الحكومة بوقف قانون الإصلاحات المثير للجدل.
غالانت في بيان له أذاعه التليفزيون العبري أعرب عن قلقه من أن الخلاف المحتدم بسبب هذا القانون سيمثل خطرًا على أمن البلاد، وأضاف “يتسرب الانقسام الداخلي المتفاقم إلى مؤسسات الجيش والدفاع، هذا خطر واضح ومباشر وملموس على أمن إسرائيل”، وأضاف “انتصار أحد الطرفين في شوارع المدينة أو في أروقة الكنيست (البرلمان) هو خسارة لإسرائيل”، البيان لم يجد قبولًا لدى نتنياهو الذي أعرب عن فقدان الثقة في غالانت.
إقالة وزير الدفاع أحدثت زلزالًا مدويًا في الوسط السياسي والجماهيري الإسرائيلي، في الداخل والخارج، دفعت القنصل الإسرائيلي العام في نيويورك إلى تقديم استقالته، مبررًا ذلك وفق تغريدته على تويتر: “لم يعد بإمكاني الاستمرار في تمثيل هذه الحكومة”، وأضاف “أعتقد أن من واجبي ضمان بقاء “إسرائيل” منارة للديمقراطية والحرية في العالم”.
وأججت الخطوة ذاتها مشاعر المحتجين، ما تسبب في زيادة الأعداد وتعميق الإصرار على مطالبهم المرفوعة، الأمر الذي حمل معه فوضى أمنية في المقابل، دفعت في النهاية رؤساء الجامعات ومديري المدارس إلى تأجيل الدراسة ابتداءً من صباح الإثنين 27/3/2023 وحتى أجل غير مسمى.
هناك حالة انقسام مدوية الآن داخل الحكومة بسبب الموقف النهائي من تلك التعديلات
وفي سياق تداعيات الفوضى، قال المتحدث باسم مطار بن غوريون، بينشاس إيدان، إن عمليات الإقلاع من المطار الرئيسي في “إسرائيل” علقت اليوم بسبب الاحتجاجات، ونقلت هيئة البث الإسرائيلية عنه قوله: “منذ هذه اللحظة لن تقلع طائرات من تل أبيب”، ولم يحدد المتحدث سقفًا زمنيًا للإضراب، علمًا بأن وقف حركة الطيران في مطار بن غوريون يهدد رحلات جوية لنحو 73 ألف مسافر.
ومن المقرر أن تجتمع نقابة العمال العامة في “إسرائيل” (الهستدروت) اليوم الإثنين من أجل اتخاذ قرار بشأن إعلان الإضراب الشامل في المرافق الاقتصادية كافة، في الوقت الذي أعلنت فيه نقابة الأطباء الإضراب العام في المرافق الصحية، كما أعلن رؤساء سلطات محلية الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام أمام ديوان رئاسة الوزراء في القدس الغربية بدءًا من اليوم، وقد أسفرت تلك التطورت عن تراجع قيمة العملة الإسرائيلية (الشيكل) أمام العملات الأجنبية في سوق التداول الأحد 26 من الشهر الحاليّ.
حالة الفوضى انتقلت بدورها إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تواجه خطر الانقسام هي الأخرى على خلفية مبادرة الآلاف من ضباط وجنود قوات الاحتياط إلى الإعلان عن رفضهم الخدمة العسكرية ردًا على التعديلات القضائية، وهو ما دفع قادة الجيش والأجهزة الاستخباراتية إلى التحذير من تداعيات هذا الأمر على تماسك الجيش والأجهزة الأمنية وقدرتها على تنفيذ المهام المناطة بها.
وبطبيعة الحال جاءت تلك الأزمة على طبق من ذهب لصالح المعارضة التي لن تتركها دون توظيفها أفضل توظيف، لتؤجج المشهد في مواجهة حكومة نتنياهو على أمل الوصول إلى انتخابات جديدة قد تعيد ترتيب الأمور، إذ شدد زعيم المعارضة يائير لبيد على أن الاحتجاجات لن تتوقف قبل وقف الإجراءات الرامية لإحداث تغييرات في المنظومة القضائية.
انقسامات داخل الحكومة
هناك حالة انقسام مدوية الآن داخل الحكومة بسبب الموقف النهائي من تلك التعديلات، فوفق صحيفة “إسرائيل اليوم” الإسرائيلية، فهناك أصوات في الليكود، ترى أنه من الأفضل وقف خطة نتنياهو بشأن القضاء، لكنها غير مستعدة للحديث علنًا للإعلام، كما نقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن كبار المسؤولين بالائتلاف الحاكم حثوا نتنياهو على التراجع عن إقالة وزير الدفاع كخطوة أولية لامتصاص الغضب الشعبي.
وفي الجهة المقابلة شدد وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير على ضرورة إقرار التعديلات القضائية، وقال: “يجب ألا نستسلم للفوضى”، الموقف ذاته تبناه حزب الصهيونية الدينية الذي اعتبر وقف تلك التعديلات “رضوخًا للفوضويين”، هذا بخلاف بعض الأصوات المتشددة داخل الائتلاف التي ترى في التنازل هدمًا للتحالف ونسفًا له من جذوره.
هذا الخلاف والانقسام داخل الحكومة والليكود كان وراء تأجيل نتنياهو خطابه الذي كان من المقرر أن يلقيه صباح اليوم، حيث أجرى مشاورات عدة مع رؤساء الائتلاف الحاكم ولا تزال سارية لحين التوصل إلى قرار نهائي في ظل تباين وجهات النظر عن تقييم الموقف بالكلية وسط إصرار تيار على التمرير ومرونة آخر في التأجيل أو التجميد.
ويفترض أن يطرح المشروع للتصويت على الكنيست، ويُمني نتنياهو نفسه بتمريره عبر كتلته النيابية التي تبلغ وحلفاءه 64 مقعدًا (“الليكود” (32 مقعدًا) وحزب “شاس” (11 مقعدًا) و”يهدوت هتوراة” (7 مقاعد) الدينيين و”الصهيونية الدينية” (7 مقاعد) و”قوة يهودية” (6 مقاعد) و”نوعم” (مقعد واحد))، من إجمالي مقاعد الكنيست البالغ عددها 120 مقعدًا.
وفي حال استمر الخلاف وخروج بعض الأصوات عن الموقف المتفق عليه، فإن المشروع لم يمرر، ما يعني بداية النهاية للائتلاف الحكومي حتى لو كان التغريد خارج السرب مرحليًا لاحتواء الموقف لا أكثر، لكن تداعياته ستكون مؤثرة جدًا على أداء الحكومة وقوتها خلال المرحلة المقبلة.
لماذا الإصرار على تمرير تلك التعديلات؟
يزعم نتنياهو أن الهدف الأساسي من تلك التعديلات إصلاح النظام القضائي بما يحقق الفصل بين السلطات الثلاثة الرئيسية (القضاء والكنيست والحكومة) وإحداث حالة توزان بين موازين القوى في العلاقة بين تلك السلطات، بهدف تعزيز الديمقراطية ونشر مناخها العام، وهي الادعاءات التي تصيبها في كبدها سياسة التعامل مع تلك الاحتجاجات الغفيرة التي عمت شوارع البلاد.
التعديلات في مضمونها تزيد من قدرة الحكومة على التحكم في منظومة القضاء، وتسحب صلاحياته في التداخل في القوانين التي يمررها الكنيست، كما تشل أيدي المحكمة العليا في تعطيل تلك القوانين أو إلغائها، هذا بجانب حصر دور المستشار القضائي للحكومة في الدفاع عن قرارات الحكومة وليس فحص مدى قانونيتها وتقييمها والاعتراض عليها كما هو معمول وتقوم به حاليًا المستشارة غالي بيهارف ميارا التي عرقلت كثيرًا من مشروعات وقوانين الحكومة، فضلًا عن التدخل في اختيار القضاة خاصة قضاة المحكمة العليا بحيث تكون الحكومة هي المسؤولة عن ذلك بما يسمح لها تعيين منسوبيها وخدمة أجندة الحكومة ومصالحها العليا.
لكن يبقى السؤال: لماذا هذا الحماس اللافت من نتنياهو وبعض أعضاء اليمين المتطرف لتمرير تلك التعديلات؟ وما هي الدوافع القوية التي تبقيهم على مواقفهم تلك رغم التحذير من تبعات ذلك على الاستقرار الداخلي وأمن البلاد وتماسك المجتمع؟ بات من الواضح أن مزاعم الديمقراطية والفصل بين السلطات وإحداث التوازن بينها ليست إلا شعارات مطاطة لتمرير تلك الإصلاحات وأن هناك أبعادًا أخرى تحكم هذا الموقف المتعنت.
بالعودة إلى التعديلات المقترحة هناك قانون يسمى “القانون الفرنسي” وهو القانون الذي يعفي رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة طالما كانوا يشغلون مواقعهم الرسمية، وعليه يستميت نتنياهو لتمريره حماية له ولمستقبله وهو الذي يحاكم في ثلاث قضايا فساد خطيرة قد تودي ببقية حياته في السجن.
وهناك قانون آخر ضمن تلك التعديلات يسمى قانون “التغلب” الذي يجرد المحكمة العليا من صلاحية إعادة النظر في القوانين التي يسنها الكنيست، وهو الضامن والحامي لـ”القانون الفرنسي” من الإفتاء بعدم دستوريته من المحكمة، أي أنه يقلص دورها ويجردها من صلاحياتها الحاليّة.
ويسارع رئيس حركة “شاس” الحاخام آرييه درعي الخطى لتمرير قانون “التغلب” هذا، فسنه بشكل رسمي يعني تجاوز قرار المحكمة العليا السابق بإقالته من منصبه كوزير للداخلية والصحة ونائب لرئيس الحكومة، بسبب حكم كان قد صدر بحقه لإدانته بالتهرب الضريبي، ليعود إلى منصبه مرة أخرى ومن ثم إسقاط حكم الإدانة السابق.
البعد الشخصي في الحماس لتمرير تلك التعديلات لا يتوقف على الأشخاص فقط، بل يمتد إلى الأحزاب اليهودية الحريدية، التي تستهدف تقليص صلاحيات المحكمة العليا بما يمهد الطريق أمام الكنيست نحو سن قوانين تكرس الطابع الديني للدولة، ومن هنا تقود حركة “يهدوت هتوراة”، المشاركة في الائتلاف، معركة تمرير تلك التعديلات، بل إن النائب عن الحركة، الحاخام موشيه غفني، قد هدد بأن حركته ستنسحب من الائتلاف في حال لم يتم سنّ القانون.
سواء مررت التعديلات أم جمدت، سيخرج الائتلاف الحاكم من تلك المعركة بخسائر فادحة، تتأرجح صعودًا وهبوطًا حسب الموقف
أما حزب الليكود وحركتا “القوة اليهودية” بقيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير و”الصهيونية الدينية” بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، فتمني أنفسها بالوصول بتلك التعديلات إلى بر الأمان وتخطيها عقبة الكنيست، من أجل تعزيز الاستيطان وشرعنته ودعم الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني دون أي رادع قانوني ولو كان شكليًا، مهما كانت التداعيات والتحذيرات.
من هنا يُفهم لماذا هذا الإصرار من نتنياهو ورفاقه من اليمين المتطرف على تمرير التعديلات رغم كارثيتها على الداخل الإسرائيلي وإنذارها بحرب أهلية محتملة، فرئيس الحكومة المنتشي بولايته الجديدة يدافع عن حياته وحريته في المقام الأول قبل الدفاع عن الديمقراطية والتوازن بين السلطات كما يزعم، يدعمه في هذا الموقف المستفيدون منه كذلك من المتطرفين والشعبويين والمتورطين في قضايا قتل وتعذيب من زعماء الأحزاب الدينية المتشددة.
الوضع يزداد تأزمًا على المستوى الميداني والسياسي، حيث نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن رئيس الكنيست أمير أوحانا قوله إن المعارضة قدمت مقترحًا لحجب الثقة عن حكومة نتنياهو، وهو المقترح الذي رفض بأغلبية 59 صوتًا مقابل 53، وفي مقابل ذلك دعا رئيس لجنة الدستور في الكنيست أنصار اليمين إلى النزول للشوارع ضد وقف التشريعات القضائية، فيما نقل مراسل الجزيرة أن اليمين الإسرائيلي دعا إلى مظاهرات عامة دعمًا لاستمرار التعديلات القضائية.
وهنا يجد نتنياهو نفسه أمام مأزق سياسي أقرب إلى الفخ، فإما الإصرار على موقفه، حفظًا لماء وجهه وانتصارًا لكرامته السياسية المزعومة، وحفاظًا على قاعدته الشعبية اليمينية المتطرفة، وهو أقرب للانتحار السياسي الذي قد يشعل الموقف بأكمله ويضعه في مواجهة مباشرة مع الجيش والشارع، وإما يستمع لأصوات العقلاء داخل الائتلاف الحكومي وخارجه ويوقف تلك التعديلات أو يجمدها مرحليًا، وهنا قد يتعرض هذا الائتلاف لتشققات وانقسامات تضعه على طريق الانهيار والتهاوي.
في كل الأحوال، سواء مررت التعديلات أم جمدت، سيخرج الائتلاف الحاكم من تلك المعركة بخسائر فادحة، تتأرجح صعودًا وهبوطًا حسب الموقف، لكن ما كان قبل ذلك لن يكون كما هو الحال بعده، فالاحتجاجات المشتعلة والتخبط الذي يعاني منه رئيس الحكومة ووزراؤه والإصرار على إصباغ الحكومة بألوان اليمين المتطرف الداكنة سيدفع نتنياهو ثمنه كبيرًا جدًا، إن لم يكن من حريته فسيكون على حساب مستقبله السياسي.