أعلنت شركة سوناطراك الجزائرية الحكومية النفطية تحقيق عائدات بقيمة 60 مليار دولار في عام 2022، عائدات تبعث الاطمئنان بشأن تمويل ميزانية البلاد، إلا أنها تثير في الوقت ذاته المخاوف والحذر، كونها كانت مطمعًا في العقدَين الماضيَين للزمرة الحاكمة التي تفنّنت في نهب المال العمومي بكل الطرق.
لذلك، يشكّل تفادي الوقوع في هذه الأخطاء تحديًا للحكومة وللرئيس عبد المجيد تبون، الذي يقول في جميع تصريحاته إن “الجزائر الجديدة” التي يسعى إلى تحقيقها أحدثت القطيعة مع ممارسات الفساد السابقة.
وشكّل ملف الاستفادة من العائدات النفطية تحديًا لمختلف الحكومات المتعاقبة التي تُتَّهم من قبل المعارضة بعدم تحويلها لاستثمارات حقيقية تفيد البلاد، خاصة أنها استعملت في عهد الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة لشراء الذمم ونهب المال العام، فيما كان باقي الجزائريين يعانون تراجع القدرة الشرائية.
على كل المستويات
قدّم عملاق النفط الجزائري، مجمع سوناطراك، يوم الاثنين، حصيلة نشاطه المحقق في عام 2022، والتي تلوّنت كلها بالأخضر، فقد بلغت صادراته 60 مليار دولار، بعد أن ارتفع الإنتاج الأولي للمحروقات بنسبة 2%.
واستفادت الشركة الحكومية من التحولات التي شهدتها سوق الطاقة جرّاء الحرب الروسية الأوكرانية، والتي حوّلت الجزائر إلى مموّن طاقوي مطلوب من قبل الدول الأوروبية، بالخصوص في مجال الغاز، إذ راجعت سوناطراك أسعار الغاز مع أكبر زبونَين لها، إسبانيا وإيطاليا، كما رفعت صادراتها نحو إيطاليا، إضافة إلى تعاقدات أخرى مع سلوفينيا، مع استمرار تموينها بكميات أقل نحو فرنسا والبرتغال.
وبحسب ما ورد في حصيلة سوناطراك، فإن الجزائر استطاعت، من خلال الاتفاقات التي وقعتها العام الماضي، تأكيد دورها كمموّن موثوق على مستوى السوق العالمية للغاز، والتي من بينها اتفاقية مع مجمع الطاقة اليوناني لتمديد عقد بيع وشراء الغاز الطبيعي المسال، واتفاقية مع شركة “إيني” الإيطالية بهدف زيادة حجم الغاز المصدر.
بالإضافة إلى اتفاقية مع شركة “ناتورجي” الإسبانية لبيع وشراء الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب الغاز “ميدغاز”، مع مراجعة الأسعار التعاقدية في ضوء تطورات السوق، وتوقيع عقد شراء وبيع الغاز مع الشركة السلوفينية “جيوبلاين” لتزويد سلوفينيا بالغاز الطبيعي عبر خط أنابيب الغاز الذي يربط الجزائر بإيطاليا.
الجزائر أول مموّن لإيطاليا بالغاز، وثاني مموّن لإسبانيا بالغاز، وثاني مموّن لتركيا واليونان بالغاز الطبيعي المسال.
وساهم في تحقيق هذه العائدات من ملايير الدولارت وتوقيع الاتفاقات؛ استئناف الشركة لاستثماراتها التي توقفت في عامَي 2020 و2021 جرّاء جائحة كورونا، فقد باشرت مخططًا استثماريًّا بقيمة 40 مليار دولار يستمرّ حتى عام 2026، حيث تمَّ صرف ما يعادل 5.5 مليارات دولار منها عام 2022.
وتشير أرقام سوناطراك إلى أن الإنتاج الأولي للجزائر من المحروقات انتقل من 185.2 مليون طن مكافئ بترول في عام 2021 إلى 189.26 مليون طن مكافئ نفط خلال السنة الماضية، مسجّلًا ارتفاعًا بنسبة 2%، وذلك بفضل 15 اكتشافًا نفطيًّا في عام 2022 دعّمت مكانتها في السوق الدولية للنفط والغاز.
وسمحت هذه الإمكانات لعملاق النفط للجزائر أن تثبت أنها مصدر هام للإمداد بالغاز في العالم، وأول مصدر للغاز الطبيعي المسال في أفريقيا، وذلك بفضل قدرات التصدير التي تملكها سواء عبر خطوط الأنابيب أو من خلال بواخر نقل الغاز الطبيعي المسال.
وتشير الأرقام إلى أن الجزائر أول مموّن لإيطاليا بالغاز، وثاني مموّن لإسبانيا بالغاز، وثاني مموّن لتركيا واليونان بالغاز الطبيعي المسال، إضافة إلى أن البلاد استطاعت أن توقف استيراد الوقود من الخارج.
وتساهم هذه العائدات الضخمة في رفع حجم البلاد من احتياطي الصرف الذي بلغ حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي 62 مليار دولار، والذي من المؤكد أنه ارتفع خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، بما أن أسعار برميل النفط تبقى مرتفعة حتى لو تدحرجت إلى أقل من 80 دولارًا للبرميل.
حذر
لا يشكّل تحقيق الجزائر عائدات ضخمة من صادرات النفط أمرًا جديدًا في بلد شكّل قطاع المحروقات على الدوام البقرة الحلوب التي تُرضع جميع القطاعات، كما أنه بقدر ما يفرح الحكومة بضمان تمويل الموازنة السنوية، فإنه في الوقت ذاته يبعث مخاوف لدى الجزائريين وإدارة الرئيس تبون بشأن أن تفتح هذه العائدات المجال لممارسات سابقة استغلت أموال النفط، لتحقيق مآرب شخصية واستنفاع فئة معيّنة في عهد الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
وجرّاء الفساد الذي حدث في السنوات الـ 20 الماضية، أعاد القضاء الجزائري فتح تحقيقات حدثت بالشركة النفطية الحكومية سوناطراك، وكان المتورط فيها مسؤولين سامين، إضافة إلى وزير الطاقة السابق شكيب خليل المقيم -أو “الفارّ” حسب البعض- في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقبل انطلاق حراك 22 فبراير/ شباط 2019 الذي أحبط محاولة بوتفليقة للترشُّح لولاية رئاسية خامسة، كان سؤال واحد يشغل بال الجزائريين يتعلق بمصير تريليون دولار أُنفقت خلال حقبة حكمه، والتي لم يروا نتائجها بالشكل المطلوب على أرض الواقع.
إضافة إلى الأموال التي نُهبت بالداخل، هناك “أموال ضخمة تمَّ تهريبها إلى الخارج خلال فترة امتدت من 10 إلى 12 عامًا”.
وما أن سقط نظام بوتفليقة، وبدأت المحاكم في التحقيق مع رموز نظامه من رؤساء حكومات ووزراء وولاة ومسؤولين في كل المستويات ورجال أعمال، حتى انكشف الفساد الكبير الذي استهدف أموال الجزائريين خلال تلك الفترة، فقد كشفت التحقيقات تورُّط عديد المسؤولين القابعين في السجن، منهم على سبيل الذكر رئيسَي الحكومة السابقَين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، إضافة إلى مسؤولين أمنيين يتقدّمهم مدير الأمن الوطني الأسبق عبد الغني هامل.
بالنسبة إلى الجزائريين، فإن الحذر من تكرار ما حدث في عهد بوتفليقة أولوية الأولويات، لأن الفساد الذي لم يستثنِ وقتها أي قطاع كان مموّله الرئيسي عائدات النفط التي تحولت بفعل العبث الذي أصاب مؤسسات الدولة من نعمة إلى نقمة، وجعل البلاد تصنّف في آخر المراتب المتعلقة بالشفافية ومكافحة الفساد والحوكمة والمنافسة الاقتصادية.
ورغم الخطوات المبذولة في متابعة ناهبي المال العمومي، إلا أن مؤشر إدراك الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية (ترانسبرنسي) الصادر عام 2021 صنّف الجزائر بالمرتبة 117 عالميًّا من أصل 180 دولة، بمعدل 39 نقطة من أصل 100.
وحسب الرئيس تبون، فإنه إضافة إلى الأموال التي نُهبت بالداخل، هناك “أموال ضخمة تمَّ تهريبها إلى الخارج خلال فترة امتدت من 10 إلى 12 عامًا”.
إجراءات
استطاع الرئيس تبون أن يصل سدة الحكم في انتخابات 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، بوعود أطلقها تتعلق باسترجاع الأموال المنهوبة في عهد بوتفليقة.
ولا تتوفر إحصاءات رسمية بشأن حجم الأموال المنهوبة، إلا أن تقارير إعلامية تقدّرها بين 100 و200 مليار دولار، لذلك سيكون على إدارة الرئيس الجزائري العمل على استرجاع الأموال المنهوبة، خصوصًا المهرّبة إلى الخارج، بالنظر إلى أن الأصول الموجودة بالجزائر تمَّ استرجاع حجم منها من خلال قرارات المحكمة المتعلقة بمصادرة أموال رجال الأعمال والمسؤولين الفاسدين، إذ بلغت القيمة المسترجعة 20 مليار دولار حتى الآن.
وتستمر المحاكم الجزائرية في فتح قضايا الفساد في مختلف القطاعات، كانت آخرها تتعلق بقطاع الاتصال والإشهار والنقل البحري.
وفي هذا الشأن، أعلن الرئيس تبون في اجتماع لمجلس الوزراء بتاريخ 2 يناير/ كانون الثاني 2022 استحداث السلطة الوطنية العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، التي كُلفت بالتحرّي في مظاهر الثراء عند الموظفين العموميين بلا استثناء.
وتوجد في الجزائر عدة هيئات لمكافحة الفساد، فإضافة إلى الهيئات المعروفة من عدالة وشرطة ودرك، يوجد الديوان المركزي لقمع الفساد الذي أُنشئ عام 2006، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي أُعلن عنها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ومجلس المحاسبة والمفتشية العامة المالية.
هذا بالإضافة إلى هيئة تفتيشية تابعة لرئاسة الجمهورية، استحدثها تبون عند وصوله إلى السلطة كي لا تعتمد التقارير التي تصله على هذه الهيئات فقط، بالنظر إلى أن بعضها كان موجودًا سابقًا لكن لم يقُم بدور فعّال في مكافحة الفساد.
شكّل ملف استرجاع الأموال المنهوبة أحد المحاور التي ناقشها تبون مع مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريسل، الذي زار الجزائر منذ أيام.
ورغم أن الواقع الميداني الحالي يشير إلى أن ممارسات نهب المال العمومي لا تزال قائمة في بعض الإدارات، بالنظر إلى أنه ليس من السهل تغيير ذهنيات شربت الفساد والبيروقراطية حتى النخاع، إلا أن الخطاب الرسمي على الأقل أصبح يحمل صيغة تهديدية ضد كل فاسد.
وأكّد الرئيس تبون في مقابلة تلفزيونية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي عزم الدولة على مواصلة محاربة الفساد، قائلًا في هذا الشأن: “في الداخل تمَّ استرجاع ما يساوي نحو 20 مليار دولار، وسنواصل عملية استرجاع باقي الأموال المهرّبة”.
وتعمل الحكومة على توقيع اتفاقات قضائية مع الدول التي هُرّبت إليها هذه الأموال لاسترجاعها، حيث قال الرئيس تبون إن “أغلب الدول الأوروبية قدّمت يد العون إلى الجزائر بخصوص هذا الموضوع، وأبدت استعدادها للتعاون معنا من أجل استرجاع هذه الأموال وإعادتها إلى خزينة الدولة الجزائرية، شريطة احترام الإجراءات القانونية”.
وأضاف أن “العملية متواصلة وهناك ممتلكات ظاهرة في شكل فنادق 5 نجوم وغيرها، حتى أنه تمَّ تبليغنا رسميًّا من أجل تسليمها إلى الجزائر بالأخص من طرف الدول التي كانت مقصدًا للتهريب ومنبعًا لتضخيم الفواتير”، لافتًا إلى أن هناك بعض الأموال التي “وُضعت في خزائن خاصة في سويسرا ولكسمبورغ والجزر العذراء”.
وشكّل ملف استرجاع الأموال المنهوبة أحد المحاور التي ناقشها تبون مع مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريسل، الذي زار الجزائر منذ أيام، وأعلن استعداد الشركاء الأوروبيين للمساعدة في استرجاعها.
من المؤكد أن تحقيق الجزائر عائدات بقيمة 60 مليار دولار يضع الحكومة في أريحية مالية تمكّنها من الحفاظ على قاعدة صفر مديونية خارجية، وتنفيذ خطة الإنعاش الاقتصادي التي وضعها تبون، إلا أن تجسيد هذه الخطة على أرض الواقع لن يكون إلا بسدّ كل الطرق أمام ممارسات الفساد السابقة، التي إن استمرت ستدخل البلاد في متاهة جديدة يصعب الخروج منها هذه المرة.