نظم عشرات الكويتيين وقفة احتجاجية أمام مبنى مجلس الأمة (البرلمان) مساء الإثنين 27 مارس/آذار الحاليّ، اعتراضًا على حكم المحكمة الدستورية الصادر في 19 من الشهر الحاليّ، الذي صُدق عليه بمرسوم أميري، والقاضي بحل البرلمان المنتخب في سبتمبر/أيلول 2022 وعودة برلمان 2020.
قرار الحل يأتي في وقت تواجه فيه الكويت توترات سياسية حادة – ومعتادة في الوقت ذاته – بين البرلمان والحكومة، وهي التوترات التي باتت سمة مميزة للمشهد الكويتي الذي يتأرجح بين ثنائية حل البرلمان وإقالة الحكومة، وذلك رغم تدخلات أمير البلاد الكثيرة لإنهاء تلك الخلافات، لكنها سرعان ما تعاود مكانها مرة أخرى في ظل حالة التربص بين السلطتين.
بهذا الحكم يكون البرلمان الكويتي قد تعرض للحل 11 مرة منذ تشكيله الأول عام 1963عقب الاستقلال وإعلان الدستور، وفي الغالب يكون الحل إما بمرسوم أميري وإما بقرارات قضائية، الأمر كذلك مع الحكومة التي أقيلت أو قدمت استقالتها عشرات المرات خلال العقود الخمس الماضية، 6 منها فقط في آخر 3 سنوات.
وتحول البرلمان المنوط به إحداث التوازن التشريعي والقانوني ودعم خطط التنمية وتمريرها ومراقبة السلطة التنفيذية لضمان تحقيق الأهداف والمصالح العليا، إلى شوكة في خاصرة البلاد التي لم تكد تستفق من انتخابات وتشكيلة جديدة للمجلس مدفوعة بمنسوب تفاؤل كبير للتقدم للأمام، حتى تُصدم بحل عاجل يجهض كل الجهود ويسلسل أي تحركات تقدمية، لتقبع الدولة النفطية الصغيرة فوق أرجوحة لا تتوقف عن الهز، يد تدفعها للأمام وأخرى إلى الخلف، فيما يبقى الاتزان والاستقرار حلم صعب المنال يراود الجميع.
بعد أيام على قرار المحكمة الدستورية في #الكويت القاضي ببطلان الانتخابات التشريعية السابقة وإعادة البرلمان السابق الذي تم حله… أتت الاستجابة لدعوات التظاهر في ساحة الإرادة رفضاً لقرار المحكمة “محدودة” #نكمن_في_التفاصيل pic.twitter.com/3AFRAonQxo
— Independent عربية (@IndyArabia) March 27, 2023
مجلس الأمة.. تاريخ من الحل
يستند أمير الدولة في قرار حل البرلمان، الذي يعني إقالة جميع أعضائه دون استثناء، إلى المادتين: (102) التي تنص على “لا يتولى رئيس مجلس الوزراء أي وزارة، ولا يطرح في مجلس الأمة موضوع الثقة به، ومع ذلك إذا رأى مجلس الأمة بالطريقة المنصوص عليها في المادة السابقة عدم إمكانية التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، رفع الأمر إلى رئيس الدولة وللأمير في هذه الحالة أن يعفى رئيس مجلس الوزراء ويعين وزارة جديدة، أو أن يحل مجلس الأمة. وفي حالة الحل، إذا قرر المجلس الجديد بذات الأغلبية عدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء المذكور اعتبر معتزلاً لمنصبه من تاريخ قرار المجلس في هذا الشأن، وتشكل وزارة جديدة”.
والمادة الـ(107) وتنص على “للأمير أن يحل مجلس الأمة بمرسوم تبين فيه أسباب الحل على أنه لا يجوز حل المجلس لذات الأسباب مرة أخرى، وإذا حل المجلس وجب إجراء الانتخابات للمجلس الجديد في ميعاد لا يجاوز شهرين من تاريخ الحل، فإن لم تجر الانتخابات خلال تلك المدة يسترد المجلس المنحل كامل سلطته الدستورية ويجتمع فورًا كأن الحل لم يكن، ويستمر في أعماله إلى أن ينتخب المجلس الجديد”.
ووفق المادتين فإن حل البرلمان لا بد أن يكون بمرسوم أميري مسبب بدوافع القرار وحيثياته، ويعقب الحل الدعوة لإقامة انتخابات في مدة أقصاها شهرين من تاريخ الحل، كما لا يجوز حل المجلس في فترة إعلان الأحكام العرفية، وقد يصدر الأمير قرار الحل وفق مبادرة منه لاحتواء أي خلاف كان أو التزامًا بحكم قضائي صادر في هذا الشأن.
وتم حل البرلمان الكويتي منذ إنشائه 11 مرة، الأولى كانت في أغسطس/آب 1976 حين أصدر أمير البلاد الراحل الشيخ صباح السالم الصباح قرارًا أميريًا بحل المجلس 1976 عقب الخلاف الذي نشب بين البرلمان والحكومة وتبادل الاتهامات بشأن تعطيل مشروعات القوانين، الذي أدى إلى تقديم الأخيرة استقالتها.
الحالة الثانية كانت في يوليو/تموز 1986 وذلك بسبب المناوشات والسجالات بين البرلمان والحكومة بسبب بعض الأزمات التي تعرضت لها البلاد مثل أزمة المناخ التي كان لها بالغ الأثر على الاقتصاد الكويتي، وتقديم الأعضاء طلبات استجواب لبعض الوزراء ما دفعهم للاستقالة، وما صاحبها من قيام مجلس الأمة بتشكيل لجنة تحقيق في الأمر، وظاهرة توالي الاستجوابات للوزراء التي دعت بعضهم إلى الاستقالة، وفي هاتين المرتين كان الحل بقرار أميري وليس بمرسوم، ولم يترتب عليهما دعوة لإجراء انتخابات جديدة في مدة لا تتجاوز شهرين، ما يعني أن الخطوة كانت غير دستورية.
وحُل المجلس للمرة الثالثة في مايو/أيار 1999 لكن هذه المرة كان الحل دستوريًا، وتضمن المرسوم أسباب القرار ومنها التعسف في استعمال الأدوات الدستورية من أعضاء المجلس، وبعد ذلك بسبع سنوات كان الحل الرابع، حين أصدر أمير البلاد مرسومه بتاريخ 21 مايو/أيار 2006 بحل البرلمان على خلفية الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد بسبب قانون تعديل الدوائر الانتخابية.
وفي 19 مارس/آذار 2008 كان الحل الخامس لمجلس الأمة الكويتي بالمرسوم الأميري الصادر بعد يومين فقط من استقالة الحكومة حينها برئاسة ناصر المحمد الصباح على خلفية المناوشات مع البرلمان بسبب تدخله في عمل الحكومة بحسب ما جاء في بيان الاستقالة، وفي الشهر ذاته من العام التالي كان الحل السادس وتحديدًا في الثامن عشر منه، بسبب عدم تقيد البعض بأحكام الدستور والقانون وما قررته المحكمة الدستورية بخصوص استخدام الأدوات البرلمانية للرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، ومحافظة على أمن الوطن واستقراره.
وفي 16 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011 اقتحم آلاف المتظاهرين الكويتيين مبنى البرلمان بسبب اعتداء قوات الأمن على بعضهم لمنعهم من الوصول إلى منزل رئيس الوزراء والمطالبة بعزله، ما دفع أمير البلاد لإصدار قرار بحل المجلس في 6 ديسمبر/كانون الاول من العام ذاته.
أما الحل الثامن لمجلس الأمة فكان في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2012 استجابة لقرار المحكمة الدستورية، وفي ديسمبر/كانون الأول من العام التالي قضت المحكمة الدستورية في الكويت بحل مجلس الأمة بعد أيام قليلة من انتخابه، فيما أقرت بدستورية قانون “الصوت الواحد” الذي رفضته المعارضة وشنت بسببه موجة من الاحتجاجات.
وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 كان البرلمان على موعد مع السيناريو العاشر للحل، حيث اضطر أمير الدولة لإصدار مرسوم أميري بحل مجلس الأمة على خلفية تقديم عدد من النواب استجوابًا لكل من وزير المالية ووزير العدل، وجاء في مرسوم الحل أنه “ونظرًا للظروف الإقليمية الدقيقة وما استجد منها من تطورات وما تقتضيه التحديات الأمنية وانعكاساتها المختلفة من ضرورة مواجهتها بقدر ما تحمله من مخاطر ومحاذير الأمر الذي يفرض العودة إلى الشعب مصدر السلطات لاختيار ممثليه”.
ويختتم مجلس الأمة الكويتي سلسلة الحل بالحكم الصادر عن المحكمة الدستورية في 19 مارس/آذار 2023 ببطلان الانتخابات البرلمانية التي جرت في سبتمبر/أيلول 2022، وبعودة البرلمان السابق المنتخب في 2020، بعد أن تم حله بمرسوم أميري في خضم أزمة سياسية طاحنة بين نواب المعارضة والحكومة الصيف الماضي.
مناورة سياسية لا تغير في المعادلة
المتابع للمشهد السياسي الكويتي منذ الوهلة الأولى يلاحظ أن هناك حالة تصيد وتربص بين المجلس والحكومة، علاقة رغم أنه يفترض أن تكون تكاملية، فإنها تسير في اتجاهات معاكسة تمامًا، ساعدها على ذلك التركيبة اللزجة من التنوعات الطائفية والسياسية والعرقية والقبلية داخل البرلمان، والصلاحيات الممنوحة له من جانب، والفوقية التي يتعامل بها وزراء الحكومة وتململهم من النقد والمساءلة من جانب آخر.
هذا السجال والتأرجح بين حل البرلمان تارة وإقالة الحكومة تارة أخرى، يصفه الخبير الدستوري الكويتي محمد الفيلي بأنه أحد أدوات المناورة السياسية وخطوة إستراتيجية يلجأ إليها الأمير دائمًا لمواجهة الاختلال في العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مضيفًا في حديثه لـ“الجزيرة” أن الاستخدام المتكرر لهذا الأسلوب دليل واضح على أن قواعد اللعبة داخل البرلمان وتشكيل الحكومات تعاني من خلل يصعب معالجته في إطار العلاقات المباشرة بين السلطتين، وبالتالي ليس هناك حلول عاجلة إلا حل المجلس، “إما لتغيير الفريق الحكومي وإما للرهان على تغيير توجه البرلمان”.
ويرى الخبير الدستوري الكويتي أن ما يحدث هو محاولة لضمان إدارة العلاقة بين السلطتين بشكل أفضل، وعليه لا بد من إعادة النظر في القواعد والقوانين واللوائح التي تحدد شكل تلك العلاقة، مضيفًا “إعادة النظر في القواعد الدستورية يعني تعديلًا في الدستور، ومعنى ذلك أيضًا وجوب وجود اتفاق بين الأطراف لتوفير الأغلبية للتعديل، وأعتقد أن هذا غير موجود في المستقبل المنظور”.
طارحًا بعض الحلول السياسية لعلاج تلك الأزمة منها إدخال الحياة الحزبية في البلاد، والانتقال من الانتخاب القائم على العلاقة الفردية إلى القائم على الفكر السياسي والبرامجي للكيانات والأحزاب السياسية.
وفي المقابل يميل أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت غانم النجار إلى أن مسلسل الحل المتكرر، سواء للبرلمان أم الحكومات، لا يغير كثيرًا من المعادلة السياسية، فالعملية برمتها محكومة بعدة مؤشرات وضوابط مثل الاستقلالية والإشراف القضائي على الانتخابات، لافتًا أنه منذ تأسيس المجلس عام 1962 وحتى 2020 تم انتخاب 16 مجلسًا برلمانيًا، تم حل 10 منها، أي أكثر من النصف، وهي ظاهرة غير معهودة في بلدان المنطقة.
تعديلات دستورية.. ما المخرج؟
“التجربة الديمقراطية في الكويت أرهقت”، كان هذا وصف المحلل السياسي الكويتي، مساعد المغنم، للحالة السياسية المضطربة التي تعايشها بلاده بين الحل والإقالة، وهو ما يعني البحث عن وسائل إنعاش جديدة للتجربة أو البحث عن نماذج أخرى أكثر مرونة وحيوية، وهو ما ألمح إليه وزير الإعلام الكويتي الأسبق، سعد بن طفلة العجمي، الذي اتهم الحياة النيابية بالراكدة التي لا تتحرك.
الوزير الأسبق في تصريحات صحفية له لموقع “الحرة” قال إن المواد التي تضمنها الدستور الحاليّ بشأن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، البرلمان والحكومة، لم تفارق مكانها منذ سنوات، وباتت أشبه بالبحيرة الراكدة، مضيفًا “نكرر نفس التجربة بنفس الأدوات ونفس المكونات ونعتقد أننا يمكن أن نخلص إلى نتيجة مختلفة وهذا من سابع المستحيلات”، مطالبًا بمراجعة الدستور وإجراء تعديلات ضرورية وجوهرية في طبيعة اتخاذ القرارات وطبيعة تشكيلة الحكومة والبرلمان وتحديد آلية ممنهجة لطبيعة العلاقات بينهما.
وفي السياق ذاته يرجع المحلل السياسي الكويتي، عايد المناع، الأزمة إلى تشكيل الحكومة من خارج البرلمان، وهو ما يوقعها في صدام مع المجلس سواء من حيث التشكيلة المختارة أم آلية الاختيار ذاتها، رغم أن الدستور ينص على تشكيلها من داخل مجلس الأمة وخارجه، وتابع “لا نملك نظامًا رئاسيًا ولا برلمانيًا.. رئيس الدولة له صلاحيات كبيرة من أهمها حل المجلس، والبرلمان له صلاحيات رقابية مشددة من استجوابات ولجان تحقيق”.
وطالب المناع بضرورة تحديد هوية النظام في الكويت، إما أن يكون برلمانيًا وإما رئاسيًا، أما النظام المعمول به في البلاد حاليًّا فهو نظام مختلط، خلط الأمور كلها على حد قوله، لافتًا أن في بعض الدول الأوروبية مثلًا كبريطانيا يتولى رئيس حزب الأغلبية تشكيل الحكومة، لكن في الكويت كل نائب يمثل حزبًا بمفرده، وطالب بضرورة إجراء تعديلات دستورية عاجلة لاحتواء الموقف، منوهًا أن الأزمات ستستمر “طالما أن الوضع على ما هو عليه”.
47 عامًا ظل فيها مجلس الأمة بطل الراوية الممتدة على مدار سنوات طويلة، حتى تحول إلى صداع في رأس الدولة، شاركته الحكومة البطولة في كثير من الفصول، وتحول الصراع بين البطلين إلى ظاهرة عكرت الأجواء العامة في الدولة النفطية التي رغم صغر حجمها لكنها تشهد تطورات واضطرابات سياسية ونزاع بين سلطاتها لم تشهده البلدان ذات الطموحات والتشابكات المعقدة، حتى بات الحديث عن حل لتلك الأزمة طرحًا من الخيال في ظل الإصرار على المضي قدمًا في ذات المسار دون إجراء تعديلات جذرية تضع النقاط فوق الحروف.