تطورت المظاهر الاحتفالية والطقوس بشهر رمضان الكريم كثيرًا في عهد الدولة الفاطمية التي تأسست في ولاية إفريقية (تونس حاليًا) سنة 300 هجري الموافق لسنتي 912 – 913 ميلاديًا، قبل أن ينتقل مركز الحكم إلى مدينة المنصورية، ثم القاهرة بمصر.
بالغ حكام الدولة الفاطمية مبالغة كبيرة في الاحتفال برمضان – عكس ما كان عليه الأمر زمن الخلافة الأموية والعباسية حين اهتموا بالعبادات على الاحتفالات – فكانت المساجد تُضاء بالأنوار الساطعة بعد غروب الشمس منذ أول أيام الشهر.
اهتم الفاطميون في رمضان بتزيين المساجد وبرعوا في استخدام الفوانيس حتى نسبت إليهم، كما لم يغفلوا عن إطعام الصائمين وإقامة موائد الرحمن وتفننوا في ذلك، وبرزت في عهدهم الأسواق العامرة، كما مُنع بيع الخمر في الشهر الفضيل.
لكن لم يخل رمضان الفاطميين من الجدال، إذ انقطع القضاة عن تحري الهلال حتى سقوط الدولة الفاطمية على يد الأيوبيين، كما عطل الفاطميون صلاة التراويح في حقب من تاريخ حكمهم الذي شمل الغرب الإسلامي ومصر والشام والحجاز.
سنحاول في هذا التقرير الجديد لنون بوست، ضمن ملف “رمضان زمان” الحديث أكثر عن رمضان زمن الدولة الفاطمية التي حكمت بقاعًا إسلاميةً كثيرةً لأكثر من 260 سنة، وإبراز مظاهر الاحتفالات بالشهر الكريم في تلك الحقبة الزمنية.
“كشف” المساجد
حرص المسلمون الأوائل على تزيين المساجد طوال شهر رمضان، لكن تطور الأمر في العهد الفاطمي، فاتخذت الزينة أشكالًا عديدةً ومتنوعةً، لتأكيد تشبث الفاطميين بشهر رمضان الكريم واهتمامهم بمظاهر الاحتفال به وتكريمه.
شهد تزيين المساجد والشوارع في رمضان طفرةً كبيرةً في العهد الفاطمي، وكان يُعهد للمسؤولين في القضاء المرور على المساجد في القاهرة وباقي الأقاليم للوقوف على مدى جاهزيتها لاستقبال شهر الصيام، من وجود إنارة جيدة وتزيين ما حولها لإدخال البهجة على المصلين والمارين وإشعارهم بعظمة وجلال الشهر الكريم.
كانت الدولة زمن الفاطميين تخصص مبلغًا كبيرًا من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر رمضان، وكان يوقد في ليالي المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل، وكانت تفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض.
عادة الفاطميين في إنارة الجوامع في رمضان تأتي ضمن تقليدهم السنوي الذي يسميه المقريزي – في “الخطط” – “كشف المساجد” الذي ينفذ قُبيل دخول رمضان، ووصفه ابن حجر – في “رفع الإصر” – بأنه “يوم طواف المساجد والجوامع قبل رمضان بيومين”، وذلك لتفقد احتياجاتها من لوازم الطِيب والإنارة.
انتشر فانوس رمضان منذ العهد الفاطمي لكن تختلف الروايات في أول من ابتدعه
تخبرنا كتب التاريخ أن هذا التقليد كان يشهد احتفاءً شعبيًا به، إذ يختتم بوليمة فاخرة، فقد قال المقريزي: “القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام، طافوا يومًا على المشاهد والمساجد بالقاهرة ومصر، فيبدأون بجامع المقس، ثم بجوامع القاهرة…، لنظر حُصُر ذلك، وقناديله، وعمارته، وإزالة شعثه (تنظيفه وتنظيمه). وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم والشهود، والطفيليون يتحيَنون لذلك اليوم والطواف مع القاضي لحضور السِماط (مائدة الاحتفال)”.
بذلك تتلألأ المساجد أنورًا قبل دخول رمضان ويستمر الأمر طيلة ليالي الشهر المتعاقبة، إذ تعلق المصابيح عند مداخل المساجد وفوق المآذن، ويبتهج الأهالي بهذه المشاهد ابتهاجًا عظيمًا، وترتسم البهجة على وجوههم.
كان تركيز الفاطميين خاصة على المساجد الكبيرة في المدن الكبرى، فقد حرصوا مثلًا على إضاءة الجامع الأزهر والمسجد الحاكمي وجامع راشدة في القاهرة، حتى إن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله كان مما جاء في وقفيته على الأزهر كما نقلها لنا المقريزي في “المواعظ والاعتبار”: “فللجامع الأزهر تَنوران وسبعة وعشرون قنديلاً، ومنها لجامع راشدة تنور واثنا عشر قنديلًا، وشرط أن تُعلق في شهر رمضان وتُعاد إلى مكان جرت عادتها أن تُحفظ به”.
فوانيس رمضان
ضمن فعاليات تزيين المساجد، برزت فوانيس رمضان التي تحولت في عهدنا الحاضر إلى سلعة رمضانية يحبها الأطفال، إذ كان للأطفال اتصال بها منذ العهد الفاطمي، فقد اعتادوا الذهاب إلى الأزقة حاملين الفوانيس ويطلبون الهدايا من أنواع الحلوى التى ابتدعها الفاطميون.
انتشر فانوس رمضان منذ العهد الفاطمي، لكن تختلف الروايات في أول من ابتدعه، فهناك رواية تقول إن الخليفة الفاطمي كان يخرج إلى الشوارع ليلة الرؤية ليستطلع هلال رمضان، وكان الأطفال يخرجون معه ليضيئوا له الطريق وفي يد كل واحد فانوس، وبتلك الطريقة أصبحت عادة تزيين ليالي الشهر الفضيل.
أما الرواية الثانية، فتقول إنه لم يكن يُسمح للنساء في العصر الفاطمي بترك بيوتهن إلا في شهر رمضان، وكان يسبقهن غلام يحمل فانوسًا لتنبيه الرجال بوجود سيدة في الطريق لكي يبتعدوا ويغضوا البصر، وبهذا الشكل كانت النساء تستمتعن بالخروج وفى نفس الوقت لا يراهن الرجال.
وفي رواية ثالثة، ذهب البعض إلى أن أحد الخلفاء الفاطميين أراد أن يُضيء شوارع القاهرة طوال ليالي شهر رمضان الكريم، فأمر كل شيوخ المساجد بتعليق فوانيس تتم إضاءتها عن طريق شموع توضع بداخلها.
فوانيس رمضان من التقاليد المصرية العريقة
نشأت في عهد الدولة الفاطمية في مصر ،،، وإنتشرت بعدها الى دول الشام ثم الى دول العالم الأخرى .
— سعود الخريف (@saudalkhreef) April 29, 2020
أما القصة الأبرز، فهي أنه عندما دخل الخليفة المعز لدين الله إلى مصر في مساء السابع من رمضان عام 362 هجرية قادمًا من المغرب عن طريق الجيزة احتشد الناس والأطفال لاستقباله على الطريق من الجيزة إلى حي الجمالية، وفي أيديهم الشموع والفوانيس لإضاءة الطريق للخليفة حين يمر.
منذ تلك الليلة، اتخذ المصريون من إشعال الفوانيس ليلًا والطواف في الشوارع في ليالي الشهر الكريم عادة سنوية، وهكذا، ظلت مدينة القاهرة التي أنشأها المُعز وجعلها عاصمة لدولته الفاطمية حتى الآن منارة تنيرها الفوانيس.
وإلى الآن، يُعتبر شارع المعز لدين الله الفاطمي في القاهرة القديمة أحد أهم الشوارع التي تشهد احتفالات رمضان، إذ يتم تزين الشارع بالفوانيس ويخرج الأطفال إلى الخارج للعب تعبيرًا عن فرحهم واستبشارهم بالشهر الكريم.
صحيح أنه لا يمكن أن نعرف مدى مصداقية هذه القصص، لكن المؤكد أن فوانيس رمضان بقيت تذكارًا حاضرًا إلى يومنا هذا وإن اختلفت أشكاله، فلا يهل الهلال إلا ويستقبله الناس بفوانيسهم التي تزدان بها الشوارع والبيوت والمحلات، ومن خلالهم تنتشر في ليالي الشهر الفضيل البهجة والضياء والسرور بين عامة الناس، وفي أول أمره كان الفانوس يتكون من شمعة مشتعلة داخل صندوق من نحاس، إلى أن تطور ووصل إلى الأشكال التي نعرفها اليوم.
موائد الرحمن
سار الفاطميون على نهج من سبقهم بخصوص إطعام الطعام وتنظيم موائد الإفطار في شهر رمضان، إذ أقام المعز لدين الله الفاطمي في عهده القصير الممتد منذ عام 972 وحتى 975 ميلاديًا، الموائد في الشهر الفضيل.
في البداية كانت هذه الموائد مخصصة لزائري جامع عمرو بن العاص بالقاهرة، ثم امتدت لترحب بجميع المحتاجين، في جامع عمرو والأزهر عند كل ليلة من ليالي رمضان، رغبة في التخفيف عن الناس وأملًا في الظفر بالأجر الكبير.
تذكر بعض المراجع التاريخية أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله الفاطمي – الذي حكم من عام 365 وحتى 386 ميلاديًا – كان أول من بنى “دار الفطرة” خارج قصر الخلافة بالقاهرة، لصناعة ما يُحمل إلى الناس من أطعمة وحلوى في رمضان والعيد.
لجأ الفاطميون إلى الفلك والحساب، فعملوا تقويمًا قمريًا يحسبون بمقتضاه سير القمر
كانت موائد الرحمن في العهد الفاطمي تمتد لأكثر من 150 مترًا في الجوامع الكبرى والطرقات لاستيعاب أعداد أكبر من الصائمين، وفيها تبسط مختلف الأطعمة ويظهر بذخ “أئمة” الفاطميين، ومن بين الأطعمة التي اشتهرت في ذلك الوقت “خبز السميد” والأرز باللوز والكشك والخراف الصغيرة المشوية والبامية والقلقاس والملوخية، فضلًا عن “الهريسة”، وهي ليست الحلوى المعروفة الآن وإنما نوع من الطعام يُمزج فيه لحم الضأن والبقري والدجاج معًا بالإضافة إلى القمح والبصل وبعض التوابل، كما كانت تزدان الموائد بـ”النقانق” و”السنبوسك” وهو طعام يصنع من فخذ الضأن، و”البزماورد” وهي صدور دجاج تقلى بالزبد والبيض.
ضمت الموائد أيضًا المخللات من الخيار والبصل والزيتون، بالإضافة إلى حلوى “النيدة” التي كانت تصنع من القمح، فضلًا عن الزلابية والقطائف، وكل هذه الأطعمة كانت تعد كما قلنا بشكل نظامي في دار الفطرة التي تأسست بعهد الخليفة العزيز بالله.
هدم “دكة القضاة”
في عهد الرسول صل الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، كان الإعلان عن بداية شهر الصيام ونهايته، يتم بعد رؤية الهلال، وإن اختلفت الطريقة في ذلك بين رؤية الشهود الموثوقين ورؤية القضاة، لكن في العهد الفاطمي اختلف الأمر.
عندما تولى المعز لدين الله الفاطمي الحكم هدم “دكة القضاة” التي كان يقف عليها القضاة أعلى جبل المقطم لاستطلاع هلال شهر رمضان خلال عصر الدولة الإخشيدية، وذلك لاتباع الفاطميين الحسابات الفلكية، وانقطع القضاة عن تحري الهلال.
يعني هذا أن الفاطميين كانوا لا يبدأون صوم رمضان برؤية الهلال كما كان عليه الحال زمن الرسول، فقالوا إن الهلال إذا غمَ في بلد من البلاد بسبب سحاب أو غيره، فقد يظهر في بلد آخَر قريب، فلا يصوم أهل البلد الأول على حين يصوم أهل البلد الآخَر، ويمكن أن يحدث نفس الأمر في بلد واحد.
لذلك لجأ الفاطميون إلى الفلك والحساب، فعملوا تقويمًا قمريًا يحسبون بمقتضاه سير القمر، ويقدِرون منازله، فجعلوا الشهور العربية شهرًا تامًا، والتالي له ناقصًا دائمًا، وبذلك أصبح شعبان ناقصًا دائمًا ورمضان تامًا دائمًا، ومن هذا التقويم يعرفون متى يبدأ رمضان ومتى ينتهي، دون الرجوع إلى رؤية الهلال.
وعن قول الرسول محمد صل الله عليه وسلم “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”، يقولون إنها رؤية استبصار لا رؤية إبصار، وهو ما يفسر اهتمامهم الشديد بعلم الفلك والرياضيات وإقامة المراصد، رغم الجدل الكبير الذي أحدثه هذا الأمر.
تعطيل صلاة التراويح
بدأ تاريخ تأدية صلاة التراويح جماعةً في المساجد مع الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه، إذ ارتأى أن تكون صلاة جماعية مسجدية بدلًا من إقامتها في البيوت، بهدف جمع المسلمين على قارئ واحد، وسار المسلمون على نهجه، لكن فرق من الشيعة الفاطميين أنكروا شرعيتها باعتبارها “بدعة عُمَرية”.
عُرف الفاطميون بتعطيل صلاة التراويح في حقب من تاريخ حكمهم، وكان عهدهم أن يطولوا القراءة في صلاة العشاء الأخيرة والقراءة بالسور الطوال، ليكون ذلك عوضًا عن التراويح التي “ابتدعها الخليفة عمر بن الخطاب”، وفق قولهم.
يفيد المؤرخ ابن سعيد الأنطاكي – في تاريخه المعروف بصلة تاريخ أوتيخا – بأنه في سنة 370 هجريًا/981 ميلاديًا مَنَع خليفة الفاطميين الثاني بمصر العزيزُ بالله صلاةَ التراويح بمصر، وقبله تم منعها في تونس، منشأ الدولة الفاطمية.
لم يستمر الأمر على ذلك الحال طويلًا، إذ خلَفه الحاكم بأمر الله (الخليفة الفاطمي السادس) وسمح بإقامة صلاة التراويح بشكل مؤقت إلى أن منعها هو الآخر عشر سنوات حتى كانت عقوبة من يصليها الإعدام وفق ما نقله المقريزي.
الشيعة لا يُصلون التراويح ؛ لأنهم يرونها سُنة عمر -رضي الله عنه- !
لهذا:
من أوائل ما دعا له داعية الدولة الفاطمية ( العُبيدية):أبوعبدالله الشيعي:
منع صلاة التراويح في المغرب?
ومِن عدله تعالى أن كان مقتله:على يد إمام الشيعة !
قال قاتله :
(أمرني بقتلك مَن أمرتَ الناس بطاعته) !! pic.twitter.com/VTe5FLPDi9
— سليمان بن صالح الخراشي (@S_ALKarashi) April 22, 2019
يقول المقريزي - في “اتعاظ الحنفا” – إنه في سنة 399 هجريًا/1011 ميلاديًا أمر الحاكم بأمر الله بـ”قتل رجاء بن أبي الحسين من أجل أنه صلى صلاة التراويح في شهر رمضان”، كما شهد المشهد الأقصى حادثة مشابهة إذ ضُرب الشيخ الصالح أبو القاسم الواسطي حتى أوشك على الهلاك لأنه اعترض على “أمر السلطان الفاطمي بقطع صلاة التراويح”، وفق لابن عساكر.
سنة 408 هجري/1018 ميلاديًا، سمح الحاكم الفاطمي مرة أخرى بإقامة التراويح في المساجد، وأصدر قرارًا رسميًا قرئ في مساجد مصر وغيرها فاستمرت إقامتها حتى وفاته سنة 1021، ولم تكن التراويح فقط ما عطلها الفاطميون، إذ أمروا أيضًا بإيقاف عبارة “الصلاة خيرٌ من النوم”، التي أعقبت أذان الفجر، باعتبارها إضافة سنية، ونهوا كذلك عن صلاة الضحى، حيث يُعتقد أن فقهاء من السنَة هم من صاغوها.