ظننا لوهلة أن الغول الإسلامي اختفى وأن “أصدقاء” الديمقراطية في تونس والوطن العربي من الأوربيين قد خجلوا من أكاذيبهم السابقة وسلموا لشعوب المنطقة أخيرًا بأن تبني تجربتها الديمقراطية بعد دهر من الاحتلال المباشر والاحتلال بوسيط محلي مما كان يطيب لنا تسميته بدول وطنية، وكم كنا واهمين.
لماذا يستعيد اليمين الفاشي هذا البعبع متخفيًا وراء حديث الحد من الهجرة السرية؟ لماذا لا يربط هذا اليمين ومعه اليمين الفرنسي بين بناء الديمقراطية والحد من الهجرة؟ ما سر اللقاء بين اليمين الإيطالي الفاشي واليسار التونسي في التخويف من عودة الإسلاميين إلى الحكم؟
الفاشية لا تغير حتى جلدها
إذا كانت قد جرت العادة بتشبيه المنافق بالأفعى التي تغير جلدها دون طبيعتها الحقيقية، فإن رئيسة حكومة إيطاليا اليمينية ووزير خارجيتها وهما لسان الفاشية الحاكمة يحتفظان بالجلد وبالجوهر الفاشي، إننا نراهما يطوفان أوروبا كمجموعة ضغط سياسي حاملين قضية تونس وخراب تجربتها الديمقراطية، لا لمساعدة الشعب على استعادة مسار البناء الديمقراطي، بل لتخويف أوروبا من أن احتمالات عودة الديمقراطية في تونس تعني أن يعود الإسلاميون الإرهابيون إلى الحكم.
ومن غرائب الصدف أن خطاب اليمين الإيطالي (وريث الفاشية) يلاقي هوى وتجاوبًا عند اليسار التونسي الذي يقف بكل ثقله مع الانقلاب الذي خرب الديمقراطية.
الانقلاب أودى بنا إلى نقطة الصفر الديمقراطي التي كان قد استقر فيها بن علي وأجهزته القمعية، أي الحفاظ على السلم الاجتماعي في أوروبا عبر حمايتها من الهجرة مقابل دعم مالي للنظام.
قضية الهجرة غير النظامية تخيف إيطاليا، فهي بلد الاستقبال الأول وتشعر أن أوروبا تتخلى عنها ولا تحمل معها وزر المهاجرين، لذلك تعمل على تحذيرهم، لكنها تختار الموضوع الكاشف لطبيعتها الفاشية، وهو المزيد من تخريب الديمقراطية محليًا بدعم الأنظمة القمعية بالمال والسلاح واستعادة فزّاعة الإرهاب الإسلامي.
هذا ليس جديدًا على الإيطاليين، فقد كانوا فاعلًا رئيسيًا في انقلاب بن علي سنة 87 وظلوا يدعمون نظامه طيلة مدة حكمه رغم الفظائع المرتكبة بحق مواطني الداخل، لا بل كانوا أقوى داعم لنظام القذافي، لكن إذا كان القذافي يحمي نظامه بصفقات النفط فإن نظام بن علي كان ينفذ بمقابل مهمة أخرى هي قطع طريق المشاركة السياسية على الأحزاب والشخصيات الإسلامية، لقد كان هذا مطلبًا أوروبيًا عامًا وفرنسيًا بالتحديد، لكن الإيطاليين كانوا قريبين جدًا من صناع المشهد في الداخل.
استبعاد الاحتمال الديمقراطي
في هذا التاريخ الطويل من مساندة الأنظمة القمعية في تونس وليبيا، لم يطرح أي أوروبي في موقع تأثير سياسي أو فكري احتمال تجريب الديمقراطية في هذه البلدان فربما تكون نتائجها أفضل من الديكتاتورية، فقد كانت أكبر أفضالهم على هذه الشعوب هي منح لجوء لمعارض هارب من الموت لاستعماله ورقة ضغط ضد بلده وابتزاز الحكام بسجل حقوق الإنسان.
عندما وقف البرلمان الأوروبي للرئيس المنصف المرزوقي محييًا نضاله وثورة بلاده صدقنا حماس الأوربيين لتجربة الديمقراطية وللربيع العربي عامة، ذهبنا إلى حد الحلم ببحيرة المتوسط محكومة بالديمقراطية على ضفتيها.
تحويل دول بأكملها إلى حراس حدود الرفاه الأوروبي حتى لا يستفيد منه مفقر إفريقي هذا معناه خلاصة بسيطة ودقيقة: هذه الدول هي في العمق مناطق تحت الاحتلال
كان يجب أن نستفيق سريعًا من الحلم بعد أن أعطت كاترين أشتون رئيسة المفوضية الإذن بالانقلاب في مصر، لكن الاستفاقة لم تحدث، فقد كنا غارقين في نقاشات عجيبة ظهرت لنا من تحت الأرض مثل حقوق المثليين وإعادة تحديد هويتنا العرقية أعرب نحن أم أمازيغ!
تلك النقاشات أودت بنا إلى الانقلاب والانقلاب أودى بنا إلى نقطة الصفر الديمقراطي التي كان قد استقر فيها بن علي وأجهزته القمعية، أي الحفاظ على السلم الاجتماعي في أوروبا عبر حمايتها من الهجرة مقابل دعم مالي للنظام.
إننا نقرأ لأنصار الانقلاب يستبشرون بقرب فتح حنفية القروض مقابل منع الإسلاميين من الحكم، وأنصار الانقلاب يسار فاشي التقى بلا صعوبة مع يمين فاشي، هي نفس المعركة بنفس الشعارات/المطالب بنفس الأدوات المحلية: نظام محلي فاشي يعتمد قوى داخلية فاشية ويخدم أنظمة فاشية تزعم الديمقراطية في الخارج والفزَّاعة الإسلامية مرفوعة دومًا.
تحرر وطني أو الموت؟
تحويل دول بأكملها إلى حراس حدود الرفاه الأوروبي حتى لا يستفيد منه مفقر إفريقي هذا معناه خلاصة بسيطة ودقيقة: هذه الدول هي في العمق مناطق تحت الاحتلال، وعناوين السيادة والرايات مجرد مسرحية سمجة لم تعد تقنع شعوب المنطقة إلا أن تكون فئات مستفيدة من الاحتلال نفسه وكم هي كثيرة وظاهرة للعيان.
لقد نطقت رئيسة الفاشية الإيطالية بنصف الحقيقة في أثناء حملتها الانتخابية بأن فرنسا هي من تفقر إفريقيا، لكنها لحست جملها وذهبت تنسق مع الفرنسيين لمنع المزيد من الهجرة (طبعًا لم تنتبه السيدة إلى تاريخها الفاشي في ليبيا ومع نظام القذافي).
هذه الدول ومنها تونس واقعة تحت احتلال متعدد الرؤوس، وتشارك مع هذا الاحتلال في إخفاء وجهه البشع على شعوبها بخطاب الوطنية والسيادة، تبدو لي هذه مقدمة ضرورية لإعادة بناء التصورات السياسية بشأن المستقبل لأننا قضينا وقتًا طويلًا نعارض (من داخل وهمنا بالاستقلال) أنظمة ليست أكثر من أدوات لخدمة الاحتلال.
أمام مشروع الحد من الهجرة تستحضر الفزاعة الإسلامية لذبح الديمقراطية، ولو لم يكن الإسلاميون في المشهد لاستحضرت فزاعة أخرى
كان الربيع العربي جملة واضحة في هذا السياق لم نقرأها حق قراءتها، وكنا نراقب الثورة المضادة تتمدد على مساحات الحرية المكتسبة، ولم نر اليد الغربية المحتلة تحرك الثورة المضادة، حتى أعدنا إلى الرضوخ لعصابات الحكم التي تحمي أوروبا وتدمر شعوبها.
ربط مطالب الحرية في الداخل (بالثورة على الأنظمة) مع مطالب الحرية والاستقلال عن المحتلين كان أفقًا للربيع العربي سرعان ما ادلهمّ، لكنه رغم ذلك لا يزال أفقًا ممكنًا إن لم تسر فيه هذه الدول، ستظل تكبو وبعد كل كبوة تفقد المزيد من الأمل في الحياة وتتحول كلها إلى موجات هجرة.
أمام مشروع الحد من الهجرة تستحضر الفزاعة الإسلامية لذبح الديمقراطية، ولو لم يكن الإسلاميون في المشهد لاستحضرت فزاعة أخرى تختلق لنفس الغايات، منع التحرر وقطع الطريق على بناء الديمقراطية.
في الطريق الطويلة إلى الديمقراطية ليس لدينا وصفة جاهزة، لكن قناعة /قاعدة تترسخ لدينا بعد كل واقعة (آخرها استعادة الفاشية الإيطالية لفزّاعة الإسلاميين) وهي أن بناء الديمقراطية لا يتم تحت الاحتلال.