يحيي الفلسطينيون في 30 مارس/ آذار من كل عام ذكرى يوم الأرض الذي أُعلن عنه لأول مرة عام 1976، وسط تحديات متصاعدة ومحاولات إسرائيلية مستميتة لسلبهم ما تبقّى من أراضيهم، في ظل محاولة “حسم الصراع” عبر الأدوات الناعمة والخشنة.
وأصل حكاية يوم الأرض يعود إلى عام 1973 حين صادرت السلطات الإسرائيلية آلاف الدونمات من الأراضي ذات الملكية الخاصة أو المشاع، في نطاق حدود مناطق ذات أغلبية سكانية فلسطينية، وقد عمَّ إضراب عامّ ومسيرات من الجليل إلى النقب، واندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط 6 فلسطينيين وأُصيب واُعتقل المئات.
وعام 1976 أعلنت الحكومة الإسرائيلية برئاسة إسحاق رابين عن خطة لتهويد منطقة الجليل، بهدف بناء تجمعات سكنية يهودية على أرض تعود ملكيتها للمواطنين العرب الفلسطينيين الذين يمثلون الأغلبية في هذه المنطقة، تحت مسمّى “مشروع تطوير الجليل”.
وفي هذا السياق صادقت الحكومة الإسرائيلية في 29 فبراير/ شباط 1976 على مصادرة 21 ألف دونم تعود ملكيتها لفلاحين فلسطينيين، من بلدات سخنين وعرابة ودير حنا وعرب السواعد، لتخصيصها لبناء المزيد من المستوطنات، علمًا أن السلطات الإسرائيلية قد صادرت خلال فترة 1948-1972 أكثر من مليون دونم من أراضي القرى العربية في الجليل والمثلث، إضافة إلى ملايين الدونمات الأخرى التي استولت عليها عام 1948.
في أعقاب قرار المصادرة، اجتمعت لجنة الدفاع عن الأراضي التي انبثقت عن لجان محلية في إطار اجتماع عام أُجري في مدينة الناصرة في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1975، لبحث آخر التطورات وسبل التصدي لعملية المصادرة، واتفقت على إعلان إضراب عام وشامل لمدة يوم واحد في 36 مارس/ آذار 1976.
سارعت السلطات الإسرائيلية في 29 مارس/ آذار 1975 إلى إعلان حظر التجول على قرى سخنين وعرابة ودير حنا وطرعان وطمرة وكابول من الساعة الخامسة مساءً، وأعلنت الحكومة الإسرائيلية أن جميع المظاهرات غير قانونية، وهددت بإطلاق النار على “المحرضين” بهدف منع تنفيذ الإضراب.
رغم التهديدات الإسرائيلية، عمَّ الإضراب كافة التجمعات السكانية الفلسطينية من الجليل شمالًا إلى النقب جنوبًا، وخرجت المسيرات العارمة المنددة والرافضة لقرار مصادرة الأرض، فكان الردّ الإسرائيلي لكسر الإضراب عسكريًّا دمويًّا بقيادة الجنرال رفائيل إيتان.
إذ اجتاحت قوات الجنرال رفائيل، المدعومة بالدبابات والمجنزرات، القرى والبلدات العربية الفلسطينية، وشرعت بإطلاق النار عشوائيًّا، ليرتقي 6 شهداء، 4 منهم قُتلوا برصاص الجيش واثنان برصاص الشرطة، وأُصيب العشرات بجراح.
ويعد يوم الأرض حدثًا محوريًّا في الصراع على الأرض، وفي علاقة المواطنين العرب بالجسم السياسي الصهيوني، فهذه هي المرة الأولى التي ينظّم فيها العرب في فلسطين منذ عام 1948 احتجاجات منظمة ردًّا على السياسات الصهيونية بصفة جماعية وطنية فلسطينية.
جوهر الصراع.. الأرض في مقدمة الأسباب
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وبعد نكبتها عام 1948، كانت الأرض هي جوهر الصراع مع الحركة الصهيونية، مرورًا بالحكومات والسلطات الإسرائيلية المتعاقبة التي عمدت إلى محاولة السيطرة على الأراضي، بالقوانين تارةً وبالسيطرة العسكرية تارةً أخرى.
واستخدم الاحتلال كل الطرق والأساليب المشروعة وغير المشروعة، من البلطجة والزعرنة وقوانين الطوارئ وأملاك الغائبين وتجنيد القضاء والقانون وتطويعهما لهدف الاستيلاء على الأرض، وقوننة سلب الأراضي الفلسطينية كانت وما زالت تمرّ بواسطة قانونَين أساسييَّن.
أولهما قانون أملاك الغائبين عام 1953، وبموجبه حوّلت “إسرائيل” إلى حوزتها بشكل رسمي وقانوني جميع أملاك اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا إلى الدول العربية المجاورة؛ وثانيهما قانون استملاك الأراضي عام 1953 (قانون الحرام)، بموجبه صودرت غالبية أراضي القرى المهجّرة من ملاكها الفلسطينيين بما فيهم المهجّرين الداخليين.
وذهب الاحتلال إلى أبعد من ذلك في إطار التصفية لقضية اللاجئين والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين المهجّرين، حيث شرعت ما يسمّى “دائرة أراضي إسرائيل” عام 2007 بنشر مناقصات لبيع أملاك اللاجئين في المدن، واُستتبع ذلك في شهر أغسطس/ آب 2009 حيث سنّ الكنيست الإسرائيلي قانون الإصلاحات في “دائرة أراضي إسرائيل”.
يسمح القانون بخصخصة أراضي بملكية الدولة تقدَّر بـ 800 ألف دونم (أراضي مبنية ومعدّة للتطوير بناءً على المخططات الهيكلية)، وذلك يشمل أملاك لاجئين فلسطينيين، وهذا القانون يسري المفعول في المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية والجولان المحتل، وبيع الأملاك يشكّل فعليًّا مصادرة نهائية لحقوق الملكية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين على أملاكهم.
وتعكس كل هذه القوانين العامل الرئيسي للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ لا تعد هذه التشريعات وحدها هي الأداة المستخدمة للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، فعلى سبيل المثال يقوم بفرض الأمر الواقع وهدم بعض التجمعات الفلسطينية، مثل قرية العراقيب في النقب المحتل التي تجاوز عدد مرات هدمها الـ 200 مرة، فيما يعاود أهلها في كل مرة بناءها من الصفيح.
وعلى النهج ذاته يسعى الاحتلال الإسرائيلي لهدم وإخلاء الخان الأحمر، وبعض التجمعات الفلسطينية الأخرى الموجودة في الضفة الغربية المحتلة والأغوار، من أجل حسم الصراع بشكل كامل، فيما تطالب الأحزاب الدينية اليمينة بضمّها كليًّا مستندة إلى بُعد توراتي ديني في ذلك.
بين التدخلات الإقليمية والرفض الشعبي.. القضية الفلسطينية إلى أين؟
خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وتحديدًا منذ “سيف القدس” عام 2021 مرورًا بوحدة الساحات وهبّة الكرامة وغيرها من الأحداث التي شهدتها المدن الفلسطينية المختلفة، يطلق البعض على ما يحصل حاليًّا وصف المخاض العسير لتحولات جديدة قد تشهدها القضية.
وأسهمت هذه الأحداث مجتمعة، إلى جانب تراكم الفعل المقاوم، في حراك إقليمي واضح خلال الفترة الأخيرة، بمشاركة دول مثل الأردن ومصر والولايات المتحدة للسيطرة على المشهد وضبط الحالة القائمة، ومنع تفجُّر الأحداث أو الدخول في مرحلة المواجهة المفتوحة.
أما شعبيًّا يبدو الفلسطينيون هذه المرة أكثر تمسُّكًا بفعلهم المقاوم، من خلال اتساع رقعته وتطوره، سواء على صعيد الضفة الغربية المحتلة ومخيماتها المختلفة، أو عبر التشكيلات العسكرية التي باتت تتمدد من أقصى شمال الضفة مرورًا بمناطق أريحا وبعض مناطق المركز فيها.
وتعززت قناعة الفلسطينيين بأن جميع الحلول السياسية والبراغماتية لن تحقق أحلامهم في انتزاع حقوقهم، وأن الإسرائيليين عملوا خلال العقود الماضية على استخدام الوقت والتسويف لتنفيذ مخططاتهم في سلب الأراضي وتهجير الفلسطينيين.
وتترافق الحالة القائمة حاليًّا مع تراجُع للدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية، في ظل تحذيرات أمنية إسرائيلية وأخرى دولية من إمكانية انهيارها لاحقًا، بفعل تراجعها شعبيًّا وعدم وجود أي دور سياسي وحالة انسداد الأفق نظرًا إلى رفض الإسرائيليين العودة إلى طاولة المفاوضات.
هل يقترب الفلسطينيون من انتفاضة جديدة؟
مع إحياء الفلسطينيين لذكرى يوم الأرض الـ 47، يدور النقاش بين طبقة النخبة السياسية الفلسطينية وحتى بعض الشخصيات القيادية الفلسطينية في الفصائل، عن أن الأحداث الحالية في الساحة قد تقرّب الفلسطينيين من انتفاضة جديدة.
ورغم هذا الترجيح، إلا أن البعض الآخر يرى أن ما يحصل من عمليات متتالية واتّساع لرقعة العمل العسكري بمثابة انتفاضة فلسطينية حقيقية، تختلف في تفاصيلها عن الانتفاضتَين السابقتَين في عامَي 1987 و2000، لاعتبارات جغرافية وجيوسياسية وعسكرية.
ويدور الاعتقاد هذه الأيام أنه من الصعب احتواء ظاهرة العمليات الفردية، وحتى تلك المنظمة، خصوصًا مع انتشارها في مختلف مناطق الضفة خلال العامَين الماضيَين، بالإضافة إلى مشاركة فلسطينيين من الداخل في تنفيذ بعض العمليات كما حصل العام الماضي.
وسجّل العام الجاري مقتل 15 إسرائيليًّا وإصابة آخرين بجراح متفاوتة في سلسلة عمليات فلسطينية طالت مستوطنين وجنود داخل فلسطين المحتلة عام 1948، بالإضافة إلى المدن المحتلة عام 1967 بالضفة الغربية والقدس المحتلة، مع تسجيل العام الماضي لأكثر من 33 قتيلًا إسرائيليًّا.
بالمحصلة، تتعزز أسهم الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال في ضوء المشاريع الاستيطانية التي تشعل لهيب الغضب الفلسطيني، وتعزز من الرغبة في المواجهة مع الإسرائيليين في ضوء فشل كل الخيارات والتجارب السياسية التي روّجت لها سلطة أوسلو.