حينما ننظر إلى التغيرات السياسية وعلاقات الدول النامية بالقرار الأمريكي، فإننا نعود إلى الحادي عشر من سبتمبر، حيث تفجير مركز التجارة العالمي بالولايات المتحدة، كحدث جاء ليغيّر معه كل شيء.
خلال الخطاب الأول عقب التفجير، صرّح جورج بوش الابن وقتها دون اللجوء إلى أي مراوغات خطابية بـ”من لم يكن معنا.. فهو ضدنا“، وطالبت الولايات المتحدة حركة طالبان في أفغانستان تسليم زعيم التنظيم أسامة بن لادن، لكن رفضت الأخيرة إلا في حالة ظهور أدلة واضحة تدين التنظيم في حادث التفجير، وجاء ذلك الرفض للولايات المتحدة على طبق من ذهب.
كانت طالبان قد تفحّشت بالمدن الأفغانية والباكستانية منذ عام 1996، وآن وقت الولايات المتحدة أن تمارس طبعها “الأبوي” في الشأن العالمي، لذلك بدأت حربًا طويلة مع عدة حلفاء، أهمهم ألمانيا والمملكة المتحدة وكندا، وظلت الحرب الأفغانية سنوات طويلة هي الأطول في التاريخ الحربي الأمريكي، وبمدة تتفوق 5 أشهر على حرب فيتنام.
الظاهر في الدخول الأمريكي إلى أفغانستان لا يختلف كثيرًا عن الخطاب نفسه الذي قُدّم خلال دخول العراق، المناورات الخطابية نفسها تحت لواءات “تهديد السيادة العالمية” أو “منع ظهور سلطة غير رسمية”.
كل هذا ليس ذا شأن حينما ننظر عن قرب إلى المدنيين في الدولتَين الواقعتَين في حصار بين التنظيم الجهادي والتدخل الأمريكي، إذ نجد دواخل الأمر أكثر كارثية من الصورة العامة للحرب.
تنمية تحت تهديد السلاح
لا يمكن لقوات السيادات العالمية الكبرى أن تتحرك في دولة إلا ويوجد معها الفتية المدللون (مؤسسات القطاع الخاص والمنظمات غير الربحية)، ما يعنينا في هذا المقال هو حضور المنظمات غير الربحية داخل الحراك الأمريكي في أفغانستان.
في أحد فصول كتاب “اليوم نرمي القنابل وغدًا نبني القصور” عن أفغانستان، ثمة سؤال طُرح من أحد جنود المكتب الحربي الأمريكي هناك، حينما سُئل بيتر غيل، المؤلِّف، عن سبب تواجده، وفوجئ بأحد الجنود يقول له بحدّة: “لماذا لا تكتب عن معاناة الجيش البريطاني؟”.
ربما بالفعل كان الجيش يعاني لكنها معاناة بطابع خاص، إذ أنفقت وكالة المعونات الغربية (تابعة لوكالة الولايات المتحدة ووزارة التنمية البريطانية) ملايين الدولارات تحت شعار “كسب القلوب والعقول”، وكان التدفق المالي ذاك، رغم رسمية “حياده الإنساني”، موجّهًا إلى قوات الجيش الأمريكي والبريطاني بالأساس.
وصل معدل مرتبات قادة الوحدات البريطانية في أفغانستان إلى 40 ألف جنيه إسترليني شهريًّا، بينما مرتبات الضباط الأمريكيين تجاوزت 100 ألف دولار، إضافة إلى كتيّب إرشادي يوزّع على الجميع معنوَن بـ”دليل القائد إلى المال كنظام أسلحة”، والمال كان، مثلما صرّح قائد القوات الأمريكية ديفيد بترايوس، “أهم ذخيرة في هذه الحرب”.
عمل حراك التحالف في أفغانستان على توزيع آلية الغزو من خلال الصورة الظاهرة للحرب، إضافة إلى الأداة الأهم، وهي إعادة توجيه كل الأطراف الموجودة بأفغانستان لصالحها، حتى إن كانت منظمات لا تخضع لتمويلها.
يشير تقرير منظمة “أنقذوا الاطفال” عام 2004، إلى تدخل فرق الإعمار التابعة للجيش الأمريكي في شؤون المتطوعين لأجل المرضى والجرحى وفقراء المدن الأفغانية، وأن هناك تعليمات كبرى لإدارة القوات أن تقحم الجهات الفاعلة إنسانيًّا ضمن التوجه العسكري، وفي حالة استمرار ذلك النشاط القمعي سيتوجب على المؤسسة تقليص مساحة عملها الإغاثي.
حتى عام 2010، كانت الاعتراضات نفسها تخرج في إطار بيانات رسمية، مثل تقرير شركة “أوكسفام” التي انتقدت تدخل الجيش الأمريكي في شؤون مؤسسات دولية لا تخضع لتمويلها ولا رقابتها، وينصّ القانون الدولي على حيادها الإنساني التام.
في البرد القارس في الشتاء، كانت القوات الأمريكية تشترط على موزّعي المساعدات أن يلحقوا بها ملصقات للتواصل مع مكاتب عسكرية أمريكية، بحيث يتواصل المواطنون في حالة الاشتباه بشخص من التنظيم.
لم تتوقف أزمة المنظمات غير الربحية المحايدة مع القوات الأمريكية عند التدخل في شؤونها الخاصة، يتبلور ذلك في تقرير آخر لمنظمة “أوكسفام” عام 2011، يورد أن سياسات المساعدات القادمة ضمن مؤسسات تموَّل من بريطانيا وأمريكا، تغيرت توجهاتها عن الأجندة الدولية لسياسات العمل الإنساني، الإغاثي والتنموي.
إذ انحسر عمل المنظمات المدعومة من طرف في الحرب في الإطار الذي تقترحه مكاتب قوات التحالف، والتي كانت عادةً في العاصمة، بينما المدن الداخلية ظلت مهمّشة رغم شدة احتياجها إلى المساعدات المالية والعينية.
أُنفقت 70% من المساعدات الممولة من الطرف الأمريكي في 3 ولايات من أصل 24 ولاية أفغانية، والولايات التي نُثرت المساعدات بها، مثل كابُل العاصمة وهلمند، كانت الأكثر غنى من بين كل الولايات الأفغانية، حيث كان الأمر متوقفًا على آليات مكافحة التمرد بينما العامل “الإنساني” مهمّش تمامًا.
مسألة إزاحة المؤسسات التنموية غير الربحية عن الحياد بدأت مبكرًا، تحديدًا في يونيو/ حزيران 2003، حينما وضعت 80 منظمة إنسانية بيانًا تحت عنوان “أفغانستان: دعوة للأمن”، وجاء في محتواه أن يتحمل حلف شمال الأطلسي الاستقرار في المنطقة الأفغانية، مع وضع مساحة حرية للحركة لتنظيم خطوط النقل من وإلى العاصمة.
كان موقف الولايات المتحدة من توظيف المساعدات واضحًا، ففي عام 2001 عقب القصف الأمريكي مباشرة أسقطت طائرات أمريكية عبوات الطعام ومستلزمات الطوارئ، مع منشورات دعائية تبشّر بالحليف الأمريكي الجديد، أو مثلما قال بوش الابن: “على الشعب الأفغاني المظلوم أن يعرف كرم أمريكا وحلفائها”.
حُدّد للمنظمات التنموية والمعنية بمتضرري الحرب مسارًا واضحًا، إما أن تكون تابعة لآليات عمل القوات الأمريكية وحلفائها، وإما يتم الاستفادة من الأخرى المحايدة بالإجبار من خلال البيانات المجمّعة، إذ تعرّضت منظمات مثل “أطباء بلا حدود” لزيارات عديدة من كوادر عالية بالقوات الأمريكية، طلبت بيانات حول ميزانيات العمل وقدمت “مقترحات” لتعديلها، إضافة إلى طلب بيانات المواطنين بالمدن الأفغانية الداخلية، والتي كانت موقع اختباء طالبان.
تحوّل النقاش الحيادي، من خلال المنظمات التي ترفض تلقي دعم من أي جهة حرب، مع القوات الأمريكية والحلفاء إلى ما يشبه صراع بقاء، ففي البرد القارس في الشتاء كانت القوات الأمريكية تشترط على موزّعي المساعدات أن يلحقوا بها ملصقات للتواصل مع مكاتب عسكرية أمريكية، بحيث يتواصل المواطنون في حالة الاشتباه بشخص من التنظيم، أو معرفة أي بؤر أو مأوى لهم، وكان ذلك بالطبع يثير مخاوف المواطنين ويرفضون المساعدات، بينما ظلت القوات الأمريكية مشترطة وضع الملصقات حتى يتم السماح للمتطوعين بتوزيعها.
أوقفوا الطائرات.. نسمح لكم بالتطعيم
تزامن مع الدخول الأمريكي والحلفاء إلى أفغانستان النشاط العالمي للقضاء على “شلل الأطفال“، وهو مشروع دولي تبنّته اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، لضمان حصول الأطفال بالدول الفقيرة على 4 جرعات من المصل، حتى يكتسب الطفل المناعة الكاملة من احتمال المرض.
يطالعنا الحدث الداخلي في باكستان، التي نزح إليها أفغانيون كثيرون بسبب الحرب، على كارثية تجاهل القوات الأمريكية وحلفائها لآلية العمل الصحيحة مع تفعيل مشروع التطعيم.
حيث خلال التواجد الأمريكي عانت مناطق باكستانية داخلية من الافتقار للطعام، وبالتالي بدت محاولات التطعيم غير فعّالة، لأن سوء التغذية يقلّل من فاعلية المصل المعطى، إضافة إلى رفض بديهي جاء من المواطنين المحليين، فببساطة كيف يمكن قبول تطعيم من جهات مدعومة من طرف يقذف عليهم القنابل من السماء؟
لم يتوقف الدخول الأمريكي عند تجاهل عدم فاعلية التطعيم، بل تداعى، مثلما يذكر بيتر غيل في كتابه، إلى التواطؤ مع مؤسسات غير ربحية مدعومة أمريكيًّا، في أخذ بيانات حملات التطعيم هذه التي كانت تصل إلى مكتب المخابرات الأمريكية بشكل دوري، إضافة إلى وضع شبكة جواسيس كبيرة تحركت خلال قطاع واسع من المدن الباكستانية بالداخل.
الإحصاءات التي وثقتها المنظمات المحايدة مثل “أطباء بلا حدود” و”أنقذوا الأطفال” فيما يتعلق بالتطعيم، تشير إلى وحشية القرار الأمريكي في المدن الأفغانية.
أدّى ذلك إلى تدخل سريع من الحكومة الباكستانية، والتي لم تفرّق بين متواطئ ومحايد، وطالبت جميع مكاتب المنظمات التنموية أن تعلق نشاطها، منها منظمة “أنقذوا الأطفال” التي كانت تعمل في حياد مدهش.
إن تدخلات الجيش الأمريكي في عمل المنظمات التنموية والإغاثية، وصل إلى عرضها في موقع “ويكيليكس” عام 2008، إذ كشف الموقع برقية رسمية أُرسلت من السفارة الأمريكية في إسلام آباد، وأخرى في كابُل الأفغانية، تطالب منظمات التعاون غير الربحية أن تشارك المخابرات الأمريكية بيانات عن كل من تلقّى المساعدة، أصولهم العرقية، توجهاتهم السياسية إن وُجدت، إضافة إلى استجواب المتطوعين حول بيانات المدن الداخلية التي ذهبوا إليها.
بالطبع، كان للطرف الأمريكي ردّ واضح خلال تسريب هذه البرقية، وهو أن طلب هذه البيانات كان لغرض سلمي، بحيث يتم تفادي هذه المواقع “الآمنة حربيًّا” من القصف الجوي، لكن نِسَب القصف تخبرنا غير ذلك، إذ تضاعف الإذن الأخضر بالقصف الجوي، خلال الولاية الأولى للرئيس أوباما، حوالي 50 ضعفًا عن فترة 2004-2009.
الإحصاءات التي وثّقتها المنظمات المحايدة مثل “أطباء بلا حدود” و”أنقذوا الأطفال” فيما يتعلق بالتطعيم، تشير إلى وحشية القرار الأمريكي بالمدن الأفغانية، إذ لم تتوقف المنظمات المحايدة عن واجبها الإنساني، وتجاهلت زملاءها المتواطئين مع التمويل الأمريكي البريطاني، وحاولت الاستعانة بالمواطنين المحليين لخلق أي حوار مع كوادر جهادية، فقط حتى يُسمح لهم بالدخول بسلام وتطعيم الأطفال.
في عام 2015، انخفض عدد الممتنعين عن التطعيم في المدن الباكستانية الداخلية من 300 ألف إلى 60 ألفًا فقط، وفي مدينة كراتشي تحديدًا انخفضت النسبة من 250 ألفًا إلى 10 آلاف فقط.