في غرب أستراليا، تجد جزيرة “كريسماس” الجميلة النائية، بها يعيش سكان جزر المحيط الهندي ورجال ذوو بشرة بيضاء يشير قوامهم القوي إلى عمالتهم اليدوية، وتجد بالجزيرة أيضًا آسيويين ومسلمين ونساءً يرتدين الحجاب.
تجد على أعتاب الجزيرة التي تنغلق على نفسها في دائرة، لافتة مرحبة، وخلال التحرك داخل الجزيرة، تحيطك الخضرة من كل جهة، وذلك معتاد في أستراليا الكبيرة المفعمة بحيوية الغابات.
ثمة انتقال مشهدي، من الخضرة إلى مناطق مجهولة، فجأة تجد مجموعة من البنايات المتهالكة، التي بنيت بهيكل سجون أكثر منه “مراكز احتجاز ورعاية” مثلما يطلق عليها.
ها قد وصلنا إلى مراكز احتجاز المهاجرين في غرب أستراليا، أو لنقل تحديدًا “سجون” اللاجئين الذين وصلوا أحياءً بعد رحلة صراع مع الموت في المحيط الهادئ.
لدى جزيرة كريسماس ذاكرة دامية مع المهاجرين، ففي 2010 لقي 48 مهاجرًا حتفهم حينما اصطدم قاربهم بالساحل، خلال طقس شديد السوء، وبعدها بسنوات، في 2013 تحديدًا، نجا شخصان بقارب هجرة صغير، مات معظم من كانوا فيه غرقًا في رحلة الهجرة غير الشرعية، غير أن الشخصين الباقيين منعا من الرسو على ساحل الجزيرة وغابا في غياهب ساحل المحيط الهادئ مرةً أخرى.
من سجن إلى غيره
يعود وجود مراكز احتجاز المهاجرين في جزيرة كريسماس الأسترالية، إلى منتصف عام 2001، حينما منعت سفينة نرويجية كانت تحمل نحو 450 أفغانيًا، جاؤوا هاربين من التفحش الجهادي ببلادهم وقامت السفينة النرويجية بإنقاذهم من الغرق، لكن الجيش الأسترالي رفض، بأمر سيادي، استقبال اللاجئين، واقتادهم إلى جزيرة ناورو، بعيدًا عن أعين الصحافة والشأن الداخلي أو العام، ثم بعد ذلك جاءت فكرة احتجاز المهاجرين بمراكز منثورة على جزر بعيدة عن المدن الداخلية في أستراليا.
كانت هذه إستراتيجية واضحة، وجرى منهجتها كمشروع له رسالة واضحة، فقد أوضحت الحكومة الأسترالية أن على المهاجرين أن يتفهموا صعوبة الدخول إلى أستراليا، ليس ذلك فقط، بل وقبول التعرض إلى بعض المتاعب على الحدود.
بدأ مكتب الهجرة وحماية الحدود بأستراليا، بتفعيل قرار بناء مراكز الاحتجاز، بحيث تشمل نحو 3000 فرد لاجئ، وقدمت، في سياق رسمي، ميزانية تعاونية لتكاليف معيشتهم، التي من المفترض أن تكون “كافية للعيش في أمان بعيدًا عن صراعات بلادهم، إلا أن اللاجئين كان ينتظرهم مستقبل مجهول.
بدأت وزارة الهجرة الأسترالية بالتفكير في مدى جاذبية الأمر استثماريًا، وبالطبع، ظهرت مؤسسات القطاع الخاص، لا سيما المؤسسات متعددة الجنسيات، لتقدم يد العون في ذلك الأمر.
توصلت الحكومة الأسترالية إلى حل مثمر بالنسبة لها، وهو إزالة البر الأسترالي الغربي من منطقة الهجرة واستقبال المهاجرين، أي يكون هناك مبرر قانوني بعدم إدخال اللاجئين إلى المدن الأسترالية، وتستطيع الحكومة تحويل الدفعات اللاجئة إلى جزر تابعة لها، في دول مثل بابوا غينيا الجديدة، التي تحفل بمواقع تنقيب ومشاريع تحتاج إلى عمالة.
في 2013، وصلت أرباح الشركة من المتاجرة بحقوق اللاجئين والتربح من عمالتهم غير الرسمية، إلى مليار و250 مليون دولار
ولأن شركات القطاع الخاص، عادة ما تدخل في هذه السياقات، لتتحمل عناء تنظيم هذه الجماعات بدلًا من الحكومة، فقد تدخلت شركة “سيركو” في الأمر، وحصلت على عقد من الحكومة بقيمة 370 مليون دولار، يتم استقبالها على مدار خمس سنوات، لإدارة مراكز احتجاز المهاجرين.
الصورة العامة لهذه الصفقة، هو أن تدير الشركة أمور المهاجرين وتطور مراكز الاحتجاز وتعيد تأهيل المهاجرين لتحديد موقف واضح منهم، إما بإعطاء إقامات مؤقتة وإما التشاور مع دول مجاورة “آمنة” لتوفير فرص تواجد “قانوني ومستدام” لهؤلاء المحتجزين.
لكن أرباح الشركة تخبرنا غير ذلك، ففي 2014 جددت سيركو عقدها مع الحكومة، بقيمة مليار دولار لخمس سنوات تالية، وقالت ردًا على هذه الزيادة الكبيرة، إن عدد المهاجرين القادمين تزايد بشكل كبير.
لكن التوجه الحكومي يطالعنا على آليات تنفي تصريح شركة سيركو، فقد حصل وزير الهجرة الأسترالي على أذون خضراء من رئاسة الوزراء، بوقف استقبال قوارب المهاجرين، ورغم أن ذلك “غير قانوني” طبقًا للقوانين الدولية، فإن الحكومة الاسترالية وجدت آليات مقنعة، منها مثلًا أن الأشخاص القادمين “مشكوك في هويتهم”، أو رفض وجودهم “لمصلحة استقرار مهاجرين آخرين تم احتجازهم وتقديم الرعاية لهم”.
ننظر إلى عائدات سيركو التي من المفترض أنها مؤسسة خدمية أكثر منها ربحية، ففي 2010 بلغت أرباح الشركة 369 مليون دولار، وفي العالم التالي وصلت إلى 756 مليون دولار، وفي 2013، وصلت أرباح الشركة من المتاجرة بحقوق اللاجئين والتربح من عمالتهم غير الرسمية، إلى مليار و250 مليون دولار.
أكثر من مجرد مستهلك
حافظت أستراليا بالتعاون مع مؤسساتها الخاصة على تهدئة الأمور في ساحل المحيط الهادئ، وباتت عملية إحكام القبضة على المهاجرين محكومة تمامًا، تأخذ الشركات تمويلًا سنويًا ضخمًا من الحكومة الأسترالية، وتقوم بإعادة تدويره من خلال قمع المهاجرين ودفعهم في منافذ العمل، بأجور شحيحة وقوانين صارمة، منها مثلًا التوضيح للعاملين أن الاستمرار في العمل يتوقف على طبيعة نشاطهم اليومي ومنشوراتهم على منصات التواصل الاجتماعي، وبعدهم التام عن أي انتماء حزبي أو جماعة معارضة لسياسة اللاجئين في أستراليا.
تبدأ رحلة المهاجر من بلده المشرذم، التي تهدد حياته، من خلال الاتفاق مع مهرب يأخذ مبلغًا كبيرًا من المال، ومن ثم يجد اللاجئ نفسه مقذوفًا في قلب البحر، وهو وحظه مع الحياة، إما أن يصل وإما تلتقفه مياة المحيط، ومع وصوله يجد مراكز الاحتجاز في انتظاره، وتتكفل المؤسسات المسؤولة بالباقي.
لا تزال مجتمعات الاحتجاز في الجزر الأسترالية موجودة، رغم أن العالم يعجّ الآن بجمعيات حقوق الإنسان ومجتمعات الحقوق المدنية
رغم التواطؤ المؤسسي في هذه العملية الوحشية، نشأ صوت معارض من داخل أستراليا، ففي عام 2014، اعترض فنانو معرض بينالي الشهير، على الطريقة القمعية والاحتجاز غير المبرر الذي يُعامل به اللاجئون، وجاء ذلك في سياق مساهمة شركة “ترانسفيلد” كراعٍ للمهرجان، وهي إحدى الشركات المتواطئة في رعاية مراكز احتجاز – لنقل التعبير الأكثر دقة، سجون – اللاجئين، لكن الحكومة الاسترالية وقتها لم تتجاوز الأمر، ومثلما تفعل المؤسسات السلطوية، صرحت بأن ذلك الاعتراض إثارة لسياسات التعامل الصحي مع اللاجئين، وفي ذلك تهديد لهيكلة الشأن الأسترالي السكني.
يذكرنا كتاب “جنة بنيت في الجحيم” بأن الوضع الراهن لا يمكنه أن يستمر هكذا، فيما يتعلق بدخول القطاع الخاص في القرارات المؤسسية وتحويل كل مشاريع التعاون إلى مواد قابلة للتربح، الذي يجور على الالتزام الإنساني في المقام الأول، علينا أن ننظر إلى البشر، على أنهم أشخاص أولًا، بدلًا من حالة “الاستهلاك” المتفحشة التي تصنف البشر، حسب نفوذهم، إما إلى مستهلكين إما مواد قابلة للاستهلاك والتربح.
بطبيعة الحال، لا تزال مجتمعات الاحتجاز في الجزر الأسترالية موجودة، رغم أن العالم يعجّ الآن بجمعيات حقوق الإنسان ومجتمعات الحقوق المدنية ومشاريع إعادة هيكلة القوانين الدولية لحفظ حقوق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، لكن الصعود اليميني، مثلما يحدث في إيطاليا، يشير إلى أن هذه الحالة دائرة مفرغة، وأن سياسات العالم المعاصر تحتاج إلى قاعدة بسيطة، ليست على نفس مستوى تركيب قراراتهم، وهي أن الالتزام الإنساني مادة الخروج من كل هذا، لأنه ممارسة كونية، لا تسقط بالتقادم.