هناك انطباع عام بشأن مسألة الفقر في إفريقيا، يقتصر على مدى بؤس صور الجائعين والمهجرين من كل مكان، بينما تأتي صور أخرى لـ”الرجل الأبيض” يقدم العون لأطفال شديدي الاحتياج ولو لشربة ماء، كثيرًا ما تصدرفنا صور وموضوعات على منصات التواصل الاجتماعي عن تبني أحد مشاهير العالم لأطفال من الصومال، ونرى الصور التي تبين الفارق بين الطفل في قلب الجوع، ثم في مكان آمن يضمن له العيش الكريم.
يُروج لقضية المجاعات الإفريقية، خاصة مجاعة الصومال التي امتدت من 1992 وحتى اليوم، على أنها صراع إنساني بالأساس، ويتجلى ذلك في محركات البحث، فحينما نبحث عن “مجاعة الصومال” نجد سيلًا من المسببات الطبيعية منها انقراض الحيوانات والخلل البيئي وقلة الموارد المائية والركود الاقتصادي بالبلاد، وبالإضافة لذلك تحيل الهيئات العالمية المعنية بالدعم الدولي للمحتاجين وهيئات الإغاثة الغذائية والطبية، هذه المسألة، إلى حالة من التعاطف الإنساني فقط.
ثمة أبعاد لها تأثير كبير، تتأتى من تبعات قرارات الدول الكبرى على القطاع الإفريقي الداخلي كله، بما فيه النموذجان اللذان سيتم تناولهما في هذا المقال، الحدود الصومالية الكينية، ومحاولة الاستعمار “المواردي” لإقليم بوجانفيل في بابوا غينيا.
مسير الموت
منذ بدء المجاعة الصومالية في 1991 وحتى ذروتها في 2011، تضاعفت نسب المتضررين في المأكل والمشرب يوميًا من 90 ألف إلى 500 ألف مواطن، بينما أشارت تقاير دولية إلى أن نحو 260 ألف صومالي لقوا حتفهم نتيجة المجاعات المتكررة، كان معظمهم من الأطفال دون سن الخامسة.
بالطبع تشغل المسببات الطبيعية، المتعلقة بموارد المكان الأساسية، مساحة معقولة، وما يشمل ذلك من نسب توافر الحاجات الأساسية للاستهلاك، خاصة السلع الغذائية مرتفعة القيمة، لكن يظل ذكر هذه المسببات مفتقدًا لآخر كبير، وهو التجاهل الدولي – عمدًا – خاصة من الجهة الأمريكية، بحجة “الحرب على الإرهاب” التي تواصلت 20 عامًا.
يطالعنا تقرير “تأخير خطير” الذي صدر في 2012، على أن رد الفعل الدولي – الأمريكي بشكل خاص – لو كان تجاهل قليلًا هاجس الحرب على الإرهاب، ربما وقتها كان سيتم الحفاظ على حياة الآلاف من الأطفال والنساء، وكان من الممكن تقليل حجم الموت والمعاناة في الصومال وكينيا.
بدأت هذه القصة عام 2008، عندما صنفت الولايات المتحدة حركة الشباب المحلية بالصومال كمنظمة إرهابية، وبالتالي اتخذت قرارًا فوريًا بوقف المساعدات المالية والعينية، وتجريم فعل ذلك من أي مؤسسة تتلقى دعمًا أمريكيًا أو أوروبيًا، وحتى المؤسسات التي لا تلتزم بالقرار الأمريكي، خضعت للقانون الأمريكي في هذه الحالة، وهو ضرورة وقف تقديم المساعدات لمنطقة مصنفة إرهابيًا.
اتهمت الحكومة الكينية الصوماليين في الجنوب وعلى الحدود الكينية الصومالية، بأن شعب الصومال النازح هو من يأوي المجاهدين، وعلى عمليات اللجوء الضخمة هذه أن تتوقف، لأنها تشكل تهديدًا كبيرًا على المنطقة برمتها
لم يكن الشأن الصومالي الكيني خافيًا على القرار الحربي الأمريكي، لأن دولة شديدة الفقر مثل الصومال، كانت تعيش على معونات المؤسسات الإغاثية وما تقدمه من أغذية وأدوية أساسية، ويظهر ذلك في نسب وقف المعونات، فبين عامي 2008 و2012 انخفضت المساعدات المقدمة إلى الصومال بنسبة 88%، من 270 مليون دولار سنويًا إلى 29 مليون فقط.
أثّر ذلك الهبوط الكبير على يوميات المعاناة الصومالية، فلم تتوقف المساعدات فقط، بل تصاعد غضب جهادي كبير من الجهات المنشقة داخليًا عن الحكومة المحلية، وأصبح السكان المحليون، خاصة في المدن الجنوبية والداخلية، واقعين تحت سطوة المقاومة الجهادية التي كانت تصب غضبها على الناس بفعل الغارات الأمريكية المتكررة.
جاء في ذلك السياق، حالة استياء واسعة من ممثلي المؤسسات غير الربحية، منها شركة “ميرسي كور” التي لم تجد بديلًا عن عرض الأمر داخل مساحة سيادية أمريكية، فعبّر مدير السياسات بالشركة خلال أحد الاجتماعات بالكونغرس، عن غضبه واستيائه الشديد من سلبية الموقف الأمريكي تجاه هلاك الناس جوعًا وتجاهل ذلك، ومنع أي جهة أخرى من الدخول وتقديم المساعدة للناس، تحت ذريعة ضرورة الحرب على الإرهاب.
من جهة أخرى، كانت الجبهة الحكومية الكينية لديها همّ واحد، وهو تخفيف نسب النازحين من الصومال الجائعة إلى كينيا، وبالمناسبة لم تولِ القوات الأمريكية ولا مؤسساتها الخيرية لهذا الأمر أي انتباه، اتهمت الحكومة الكينية الصوماليين النازحين في الجنوب وعلى الحدود الكينية الصومالية، بإيواء المجاهدين، وعلى عمليات اللجوء الضخمة هذه أن تتوقف، لأنها تشكل تهديدًا كبيرًا على المنطقة برمتها.
باتت المنطقة ممنوعة على أي طرف مسالم أن يقدم فيها أي تعاون، لذلك كان حراك منظمة مثل أطباء بلا حدود مهلكًا، وتعرض كثير من طاقمها إلى عمليات اغتيال واسعة
في المقابل حاولت بعض المنظمات العالمية، التي تتسم بالشفافية والحياد وأسبقية الهم الإنساني، أن تتدخل كبديل للتجاهل الأمريكي والأوروبي، وتخلق أي نقاش داخلي مع سكان الجنوب في كينيا والصومال. تحركت منظمة “أطباء بلا حدود” إلى هذه المساحة الزلقة، التي كانت مفعمة بشباب جهادي غاضب يرى أنه لا فرق بين طبيب في منظمة أو جندي، طالما للاثنين مرجعية “بيضاء”.
رغم محاولات “أطباء بلا حدود”، كانت العرقلة من الجانب الأمريكي كبيرة، سواء بشكل مباشرة أم دون ذلك، فمن ناحية، احتاجت المنظمة من القوات الأمريكية أن تظهر أي تعاون لأجل الضحايا الهالكين يوميًا بفعل الجوع والحاجة إلى العلاج، ولم يكن هناك أي رد، إضافة إلى تجاهل البيانات الإحصائية الصادرة من المنظمة، التي أشارت مبكرًا إلى أن هذه المنطقة تعاني من مجاعة مهلكة.
السبب الآخر، نتج عن الأزمة التي سببها الدخول الأمريكي على حدود الصومال وكينيا، التي تسببت في نزوح حركة الشباب الجهادي إلى داخل البلاد خاصة الجنوب، وباتت هذه المنطقة ممنوعة على أي طرف مسالم أن يقدم فيها أي تعاون، لذلك كان حراك منظمة مثل أطباء بلا حدود مهلكًا، وتعرض كثير من طاقمها سواء مواطنين أفارقة أم متطوعين ببشرة بيضاء، إلى عمليات اغتيال واسعة، ما دفع ممثلي الشركة إلى الشعور بالخيبة من سلبية التدخل الأمريكي، ومن ثم تقليل نسب الوجود بالصومال، حفاظًا على طاقم المتطوعين.
لا يمكننا تجاوز هذه الأزمة دون مساءلة، على الأقل للحفاظ على ما تبقى من مصداقية الضمير العالمي، الذي إن لم يستطع تقديم أي فارق في حياة البشر الضعفاء الذين ليس لهم يد في مسببات هلاكهم، فإنه يستطيع أن يحدد الحيثيات السياسية والقمعية لهذه الأزمة، حتى نستطيع تحديد الأطراف المسؤولة عن تفاقم جوع آخرين وهلاكهم.
بابوا غينيا.. الأرواح الباقية
لأن لكل قاعدة استثناء، حتى في حالة أطراف مراكز القوى ونجاح مقاومة الطرف الأضعف في حالات قليلة، فإن التاريخ الثري بالمقاومة من سكان إقليم “بوجانفيل” في بابوا غينيا، يشير إلى أن الالتزام الإنساني تجاه الكرامة والعدالة والسيادة الشعبية هي آليات لا يمكن أن تسقط بالتقادم، حتى لو تراجعت بشكل ضخم أمام التفحش الرأسمالي.
في خضم المقاومة المميتة التي راح ضحيتها آلاف السكان المحليين بإقليم بوجانفيل، وقف فرانسيس أونا زعيم المقاومة قائلًا: “نحن حمل الأضحية الذي يذبح لحفنة من الرأسماليين الذين لا يمكن كبح جماح جوعهم المستمر للثروة”.
بعدما حصلت بابوا غينيا على استقلالها الرسمي في 1975 وتخلصت جزئيًا من الاحتلال الأسترالي، لم تتخل شركات القارة الأخيرة عن المكاسب الكبيرة المحتملة من عمليات التنقيب وتدوير العمل في المناجم، لذلك ظلت باقية من خلال عقود الاحتكار طويلة المدى، لكن الأزمة بين السكان المحليين وهذه الشركات عادت للظهور في 1988، عندما ثار جمهور بابوا غينيا بسبب التلوث الشديد الناتج عن عمل المناجم، وبالتالي اشتد الخلاف بين طرفي الحرب غير المتكافئين، مؤسسات القطاع الخاص والحكومة المحلية من جهة، والسكان المتضررين من جهة أخرى.
خلال نحو 9 سنوات منذ 1988 وحتى 1997، كان للسكان المحليين رأي ناتج عن مسألة حياة أو موت، وهو الحفاظ على المناخ الآدمي للعيش، فبابوا غينيا مكان يكتفي بمنتجه الزراعي، ولديهم القدرة على العيش من خلال محصولهم وتصديره، وذلك بالتأكيد أفضل لهم من الموت بفعل آثار التنقيب الملوث، والعمل غير الآدمي في المناجم.
ذلك الخوف الكبير والمقاومة التي انتهت أواخر التسعينيات بتعطيل عمل المناجم، يعود إلى حالة العنف الذي نتج من استغلال واستخراج الموارد، ففي 1988 ضغطت شركة “بوجانفيل” الأسترالية على الحكومة الغينية لتوفير مزيد من العمالة، وقمع الاضطرابات الحقوقية من العاملين، وقُدم أمر سيادي من الشركة – في صيغة مقترح – ملخصه “مقاومة الشغب بقوة نيران غاشمة”.
يخبرنا كتاب “جريمة الدولة على هامش الإمبراطورية” حيثيات هذه الأزمة بشكل أكثر تفصيلًا، من خلال آليات الاحتلال الرمزي الذي مارسته شركة بوجانفيل وغيرها من المؤسسات الأسترالية، إذ لا يتعلق الأمر من ناحية أستراليا بالأمان الربحي وغذاء هذه المؤسسات على مزيد من التربح فقط، بل كان هناك دافع معنوي للدخول ضمن القوى العظمى عالميًا، من خلال تصدير تحقيق الاستقرار في منطقة جنوب المحيط الهادي، التي كانت تنتعش مقاومتها جزئيًا بعد تلاشي الاحتلال البريطاني من دولة وراء الأخرى.
طبيعة التجاوزات المتفحشة بإقليم بابوا غينيا، إضافة إلى بسالة أهلها في المقاومة، دفعت جماعة أسترالية تسمى “جماعة الخضر الأستراليين” إلى تقديم تقرير بشأن آلية العمل المهلكة في المناجم، وأدينت قانونيًا
لم تكن مقاومة سكان بوجانفيل بالأمر اليسير، لأنهم كانوا قبالة قوى مركبة لها وجهان: الأول داخلي يمثل الحكومة، والثاني خارجي يمثل رئاسة الشركات التي تسرق مواردهم، وتعطي أوامر نافذة إلى الحكومة بالتدخل القمعي. في أحد التقارير المنشورة عن هذه المسألة، قام أحد مديري شركة بوجانفيل خلال احتدام الاشتباك مع المقاومة الشعبية، بأمر إمداد إلى الحكومة، بما يلزم ذلك من موارد حربية وبشرية ولوجيستية، إضافة إلى إقناع مقاتلين ومرتزقة لتأمين استمرار عمل المناجم.
كانت بابوا غينيا تعاني على كل حال من آليات القمع بالقرار السيادي والبرلماني المملى من هذه المؤسسات، منها مثلًا الرد على شكاوى العمال المحليين تجاه عنصرية شركة “بي إس إل” والتفرقة في الحقوق العمالية بين العمالة الإفريقية والأوروبية الموجودة بنفس المواقع.
جاء الرد، تحديدًا في أغسطس/آب 1995، من الشركة المشتكاة، إضافة إلى شركة “بي إتش بي”، أنهما قاما بتمرير أمر تم تفعيله برلمانيًا في الحال – يمكن إيجاده على الأرشيف المرفق – بتغريم أي شخص يقدم شكوى ضد الشركات المستثمرة، وتكون قيمة الغرامة 75 ألف دولار، ينطبق الأمر نفسه على من يطعن ضد قرار التغريم، أو من يبدأ في اتخاذ أي إجراء ولو قانوني ضد هذه الشركات، سواء فيما يتعلق بتعويضات أم تأمينات أم إعطاء دليل مستحق لأي إدانة.
طبيعة التجاوزات المتفحشة بإقليم بابوا غينيا، إضافة إلى بسالة أهلها في المقاومة، دفعت جماعة أسترالية تسمى “جماعة الخضر الأستراليين” إلى تقديم تقرير عن آلية العمل المهلكة في المناجم، وأُدينت بصورة قانونية، وأن هذه الطريقة في العمل تودي بالمناخ المحيط بالسكان، إضافة إلى تدمير الأنظمة البيئية البحرية.
في الأخير، كان لسكان الإقليم المتهالك بفعل سوء المناخ الناتج عن عمليات الحفر والتنجيم، كلمة عليا، وإن لم تكن النهائية، لكن يظل فعل مقاومتهم الطويل مثيرًا للدهشة والتقدير الكبير، لم يتخل هؤلاء الناس عن التمسك بروح المكان، بمحليته وبالصورة الأفضل التي يمكن أن يروه خلالها. التزم الجميع، يدًا بيد، بقاعدة روحية وعملية مقدسة، صدرت عن لجنة التخطيط الدستوري في بابوا غينيا عقب الاستقلال مباشرة، وهي أن الصناعات التنقيبية واسعة النطاق لها أثر كارثي على روح الشعب، ولا بد من التمسك بالطابع الريفي، لأن جيل اليوم لا يمكنه التفريط في موارد البلاد، حتى لو ضحى بدمائه لأجل جيل تالِ.