في 6 مارس/ آذار الحالي اجتمعت الطاولة السداسية للمرة الثانية على التوالي لاختيار مرشحها لانتخابات رئاسة الجمهورية، بعد أن تفجّر الاجتماع الأول على خلفية رفض زعيمة حزب الجيد، ميرال أكشينار، ترشُّح زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كيليتشدار أوغلو، الذي عادت ووافقت عليه لاحقًا ملتحقة باجتماع الطاولة السداسية مجددًا.
استضاف حزب السعادة الاجتماع الـ 12 للطاولة السداسية بجزئيه الأول والثاني، وفيما يتداول زعماء أحزاب المعارضة اسم مرشحهم الرئاسي، تجمّع مئات الأتراك أمام المقرّ المركزي للحزب في العاصمة أنقرة.
ومع مرور الساعات تزايدت الأعداد، وارتفعت الهتافات والأهازيج، لكنها لم تكن هذه المرة “مجاهد أربكان” المشهورة، على العكس تمامًا ارتفعت أهازيج “تركيا علمانية وستبقى علمانية”، و”نحن جند أتاتورك” التي اُستخدمت تاريخيًّا في مواجهة الخط السياسي والفكري لحزب السعادة وتيار الرؤية الوطنية.
كثّفت الشعارات والأهازيج أمام مقر حزب السعادة الخلافات السياسية والاجتماعية ما بين الأحزاب المحافظة، وتحديدًا حزب السعادة وبقية أعضاء الطاولة السداسية، فإن اتفقت الأحزاب على معارضة الرئيس الحالي أردوغان، فالتباينات ما بينها تبدأ من السردية التاريخية التي شكّلت نخبة حزب الشعب الجمهوري، الخصم الأبرز لتيار الرؤية الوطنية، والمسؤول الأول عن مظلوميته التاريخية ومآسي زعيمها الأبرز نجم الدين أربكان، ولا تنتهي التباينات حول القضايا الاجتماعية والثقافية في تركيا، وعلى رأسها اتفاقية إسطنبول التي يعارضها حزب السعادة وجمهوره المحافظ.
هذه التباينات تدفع إلى التساؤل، هل ستصوّت قواعد وجمهور حزب السعادة لمرشح الطاولة السداسية كمال كيليتشدار أوغلو؟ وما هي السردية التي يسوّقها الحزب لجمهور هذا التحالف؟
مصالحة كمال وعمرة إمام أوغلو: حزب الشعب الجمهوري والشرائح المحافظة
أطلق زعيم حزب الشعب الجمهوري في شهر أغسطس/ آب الماضي حملة المصالحة (Helalleşme)، واستهدفت الشرائح التي عانت من سياسات حزب الشعب الجمهوري في الأوقات السابقة، وتحديدًا الشريحة الكردية والمحافظة.
بدأت الحملة من مدينة ديار بكر التي عانت وسكانها الأكراد من السياسات الأمنية للدولة التركية، ساعيًا إلى طمأنة وتضميد مخاوف الأكراد من الحزب الذي تحالف تاريخيًّا مع أجهزة الدولة ومؤسساتها.
أما الجهد الأهم فتوجّه إلى الشريحة المحافظة التي رأت في الحزب وطرحه الكمالي عدوًّا تاريخيًّا، ومسبّبًا لمظلوميتها طيلة سنوات الجمهورية الممتدة، إذ سعى كيليتشدار أوغلو إلى بناء سردية جديدة للحزب تتجاوز هذا الإرث مع الفئات المحافظة، فعيّن في إدارة حزبه سيدات محجبات، وضمَّ إلى صفوفه شخصيات من خلفيات محافظة.
وجاءت خطوته الأهم بسعيه لتشريع قانون جديد يمنع التميز ضد النساء بناءً على لباسهم، وذلك لمنع تكرُّر السياسات التمييزية التي اتُّخذت بحقّ السيدات المحجبات.
لم يكتَب للقانون المرور، فحزب العدالة والتنمية التفَّ على الخطوة بدعوة إلى تغيير دستوري مع إضافة مواد لحماية الأسرة التركية وتكوينها في مواجهة حركة LGBT، بينما رفض حزب الشعب الجمهوري أو تجاهل مناورة حزب العدالة والتنمية، لكنه عبّر عن رسالته وتوجُّهه الجديد.
سبق للحزب أن اختبر هذا التوجه من خلال أدائه في الانتخابات المحلية، وتحديدًا بعد فوزه في بلدية إسطنبول، النجاح الأهم له في السنوات الماضية.
سعى مرشح الحزب، أكرم إمام أوغلو، إلى طمأنة الشرائح المحافظة من خلال أداء بعض الطقوس الدينية، والتأكيد على تجاوزه للحساسيات السابقة، فظهر وهو يقرأ القرآن ويؤدي الصلاة، وخلال الشهور الماضية، وفي إطار مساعيه للترشح للانتخابات الرئاسية عن حزب الشعب الجمهوري، توجّه إمام أوغلو إلى مكة المكرمة لأداء العمرة في خطوة غير معهودة عن أعضاء حزب الشعب الجمهوري.
تأتي هذه الخطوات انعكاسًا للتغيرات التي مرَّ بها حزب الشعب الجمهوري، بعد سنوات من البقاء في مقاعد المعارضة والعجز عن الوصول إلى السلطة، والتغيرات التي مرَّ بها المجتمع التركي الذي انزاح أكثر باتجاه اليمين، بالإضافة إلى تراجع قوة التيار الكمالي مع خسارته لمواقعه التقليدية في الدولة والبيروقراطية، وصعود تيارات أكثر ليبرالية وانفتاحًا داخل بنية الحزب.
هيئة هيامانا: المعارضة داخل حزب السعادة
بعد أيام من اجتماع الطاولة السداسية في مقرّ حزب السعادة في أنقرة، وما تخلله من هتافات تنادي بعلمانية تركيا، أصدرت مجموعة تطلق على نفسها “هيئة هيامانا” بيانًا نددت فيه بسلوك الحزب وانحرافه عن مبادئ الرؤية الوطنية.
حمل البيان توقيع القيادي في المبادرة حسن ياشار، الذي أكّد في مقابلة صحفية أن “هيئة هيامانا” هي حراك داخلي في الحزب يسعى إلى التأثير على عملية القرار، دون أن يسعى إلى شقّ الحزب أو تأسيس كيان منفصل.
وتعود جذور الهيئة إلى المؤتمر الثامن للحزب المنعقد عام 2022، حيث تكتّلت مجموعة من الشخصيات من العاملين في حزب السعادة ومؤسسات الرؤية الوطنية، في كتلة عُرفت باسم هيئة هيامانا نسبة إلى المكان الذي جرت الاجتماعات فيه، وذلك لمواجهة زعيم حزب السعادة الحالي تيميل كارمولا أوغلو وخطه السياسي، وتحديدًا المتعلق بالتعامل مع أحزاب المعارضة.
وفيما يتعلق بنظرة الهيئة إلى حزب العدالة والتنمية، يؤكد ياشار على أن حزب السعادة هو الامتداد والمعبّر الطبيعي عن تيار الرؤية الوطنية وليس حزب العدالة والتنمية، مؤكدًا التزامها بالنضال من خلال مؤسسات الحزب للتغيير.
وتضمّ المبادرة مجموعة من الكوادر والقيادات في تيار الرؤية الوطنية وشخصيات سياسية، كرئيس فرع إسطنبول السابق في حزب السعادة سليمان اسمينير، ورئيس وقف تيار الرؤية الوطنية في إسطنبول عبد الله سيفيم، ويؤكد ياشار أن مؤسسات تيار الرؤية الوطنية والبالغة أكثر من 27 مؤسسة ووقف تضمّ شخصيات وكوادر تعارض التوجه الحالي للحزب، ولن تمنح أصواتها لكمال كيليتشدار أوغلو في الانتخابات المقبلة.
وفيما يتعلق بقدرتها على التأثير في عملية صناعة القرار داخل الحزب، يشير الباحث والكاتب التركي رمضان بورصا إلى أن المبادرة ما زال ينقصها الكثير لتكون مؤثرة بشكل فعّال وحقيقي في الحزب ومؤسساته، فالمؤتمر الثامن للحزب أظهر محدودية تأثيرها، خاصة بعد رحيل وزير الداخلية السابق ورئيس مجلس شورى الحزب أوزغ هان أصيل ترك، الذي شكّل عنوان المعارضة الأقوى في مواجهة زعيم الحزب الحالي.
جاء المجاهد كيليتشدار: لماذا قد تصوّت قواعد حزب السعادة لكيليتشدار أوغلو؟
في فبراير/ شباط 2020، وبعد أشهر من انتهاء جولة الانتخابات المحلية، نظّم حزب السعادة مهرجانًا جماهيريًّا نصرة للقدس والمسجد في ساحة يني كابي وسط مدينة إسطنبول، حيث شارك في اللقاء سياسيون من أحزاب المعارضة وعلى رأسهم زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو، الذي ألقى كلمة حماسية تضاهي خطابات كوادر وزعماء تيار الرؤية الوطنية.
هتفت جماهير حزب السعادة لأول مرة لكيليتشدار أوغلو، واصفة إياه بـ”المجاهد كمال” على غرار شعارها التاريخي “مجاهد أربكان”، وبعد سنوات عاد الشعار إلى الظهور مجددًا، هذه المرة وكيليتشدار أوغلو مرشحًا للرئاسة، فهل تمنح قواعد وكوادر حزب السعادة أصواتها لزعيم حزب الشعب الجمهوري غريمها التاريخي؟
يقدّر الباحث والكاتب التركي رمضان بورصا أن استجابة عناصر الحزب قد تتباين في التصويت لكيليتشدار أوغلو، فعند الفئات الأكبر سنًّا قد تتردد في منح أصواتها، في حين يبدو الأمر أكثر حسمًا عند الفئات الأصغر والأكثر تسيُّسًا.
تمكّن حزب السعادة من الفوز بما يقرب من 672 ألفًا من أصوات الناخبين في الانتخابات العامة 2018، وتمكّن زعيمه من الفوز بما يقرب من 443 ألفًا من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية في العام ذاته، فيما حصد مرشحوه في الانتخابات المحلية ما يقرب من 1.3 مليون صوت في عموم الهيئات المحلية في تركيا خلال الانتخابات المحلية عام 2019.
يُرجع بورصا إمكانية تصويت قواعد حزب السعادة والمحافظين الآخرين لكيليتشدار أوغلو إلى أسباب عديدة: أولها، الخلاف التاريخي ما بين قواعد وكوادر حزب السعادة مع حزب العدالة والتنمية، والممتد إلى أكثر من 20 عامًا تخلّلها مواجهات ومناكفات سياسية، وتراشق أعلامي مستمر، ما يجعل من الرغبة في التغيير وإثبات الذات والقدرة على الوصول إلى السلطة عاملًا في دفعها إلى التصويت.
وثاني الأسباب خطوات حزب الشعب الجمهوري ومساعيه لتطوير سردية أكثر تسامحًا وأقل صدامية مع الشريحة المحافظة التركية، في محاولة منه للقطع مع الماضي الأليم الذي تعرّضت له تحت حكم سلطات حظيت بدعم حزب الشعب.
وثالثها، تسويق قيادة الحزب لأهمية وجودها في الحالة المعارضة، للحيلولة دون خسارة منجزات ومكاسب الشرائح المحافظة التي حققتها خلال السنوات الماضية، فوجودها في السلطة كفيل بكبح جماح أي خطوات قد تتخذها المعارضة في حال وصلت إلى السلطة، وتضرّ بمكاسب وحساسيات الشريحة المحافظة التركية.
وأخيرًا، لم يكن تحالف حزب السعادة مع حزب الشعب الجمهوري وحزب الجيد وليد الانتخابات الحالية، أو مع تشكيل الطاولة السداسية، فقد عمل حزب السعادة مع هذه الأحزاب خلال الانتخابات العامة عام 2018 والانتخابات المحلية عام 2019 تحت تحالف الأمة، لذلك حاجز العمل المشترك والصورة المشتركة قد تمَّ تجاوزها سابقًا.
حزب السعادة والشعب الجمهوري والحاجة المتبادلة
لسنوات طويلة ظلَّ حزب السعادة غائبًا عن السلطة، ورهين نسبة لا تتجاوز 2% من الأصوات في أفضل أحوالها، محرومًا من التأثير والحضور في السلطة، ومراقبًا لحزب العدالة والتنمية وهو يهمين ويسيطر على قواعده التقليدية.
جاءت الطاولة السداسية والعمل مع أحزاب المعارضة الأخرى كفرصة تاريخية لتوجيه ضربة لغريمه الشقيق حزب العدالة والتنمية، والوصول إلى السلطة والاستفادة من مواردها.
ويلتقي في ذلك مع حزب الشعب الجمهوري الذي قاد معارضة شرسة ضد حزب العدالة والتنمية طيلة العقدَين الماضيَين، دون أن يتمكن من إبعاده عن السلطة أو كسر صورته النمطية في عقل الناخب التركي الذي ظلَّ يرى فيه وريثًا للقمع الكمالي والتراجع الاقتصادي.
ومع تولي كيليتشدار أوغلو مقاليد السلطة في الحزب، حاول شق طريق جديد قائم على خطاب سياسي جديد متصالح مع الفئات التي تعرّضت لظلم الحزب، وحراك سياسي يجمع من خلاله مختلف أحزاب المعارضة.
ظهرت علامات نجاح هذه السياسة في الانتخابات المحلية الماضية، بعد أن نجح في الفوز بأهم البلديات الكبرى في تركيا وعلى رأسها إسطنبول وأنقرة.
يرى حزب السعادة في هذا النجاح والتقدُّم قناة وفرصة للوصول إلى تحقيق غاياته، فهو بحاجة إلى أن يكون جزءًا من مغانم الفوز -في حال تحقق-، فخلال المفاوضات على القبول بترشيح كمال كيليتشدار أوغلو للانتخابات الرئاسية، تمكّن الحزب من الحصول على منصب نائب للرئيس ووزير، بالإضافة إلى إمكانية حصوله على عدد من المقاعد.
في المقابل، يرى حزب الشعب الجمهوري في حزب السعادة ورمزيته التي يتمتع بها لدى الجمهور المحافظ مركّبًا مهمًا في سرديته المقدمة للشرائح المحافظة، ومكونًا يعزز فيه من قدرته على تجميع مختلف شرائح المجتمع التركي.
ختامًا، لا يمكن إغفال أهمية التباينات الاجتماعية والثقافية والسياسية ما بين حزب السعادة وسرديته المحافظة والأحزاب الأخرى الأكثر علمانية وانفتاحًا، خاصة أن الحزب يعتمد على السردية القيمية في خطابه وحراكه السياسي.
وفي الوقت نفسه، يملك حزب السعادة كتلة من المصوّتين الأوفياء الذين حافظوا على دعمهم للحزب وخطه السياسي على مدار السنوات الماضية، هذه الكتلة من المصوّتين الأوفياء استوعبت وانخرطت في الخلاف التاريخي مع حزب العدالة والتنمية، ومع ذلك إن مجرد وجود حزب السعادة في تحالف المعارضة قد حقق جزءًا كبيرًا من أهدافها السياسية، وتحديدًا المتعلق بمخاطبة الفئات المحافظة.