ترجمة حفصة جودة
وسط الفوضى التي تعم “إسرائيل” حاليًّا، هناك كاذب يكذب كذبًا مرضيًا وهناك كذبة رائجة، لقد انكشف الكاذب منذ فترة طويلة، لكن الكذبة التي يروج لها هو وغيره بدأت في الانكشاف الآن فقط.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يكذب بنيامين نتنياهو في تلك الأزمة التي صنعها، فهو مشهور بين شركاء تحالفه السابق والحاليّ بأنه كاذب – كاذب مريض وكاذب متسلسل، ووصفي المفضل “أكذب الكذابين” -، فحتى القادة الغربيين مثل الرئيس الفرنسي السابق نيكولاس ساركوزي والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يعتقدون أنه كاذب لا يُحتمل.
بالطبع في بعض هذه الحالات، يتهمه شركاؤه في الكذب، لكن من النادر أن يكون هناك مثل هذا الإجماع بشأن سياسيّ باستثناء ترامب، لكن مرة أخرى، فنتنياهو سياسي ترامبي يفتقر للأخلاق ويقدم مصلحته دائمًا على حساب الآخرين.
في 2022، قاد نتنياهو حملة شعبية من الأكاذيب ضد النخبة الإسرائيلية ووسائل الإعلام والقضاء في محاولة ناجحة لاستعادة منصب رئيس الوزراء الذي خسره قبل عام من ذلك، بعدها شكل تحالفًا حكوميًا ضم فاشيين مستبدين ومتعصبين لتحدي الليبرالية القديمة “الدولة العميقة” وتحويلها إلى “دولة يهودية” متعصبة.
وحتى الآن، يصرّ على أنه لا توجد أجندة شخصية خلف الأجندة القضائية، التي تهدف إلى إخضاع المحاكم لرغبات الأغلبية الحاكمة، لكن في الواقع، عقد نتنياهو صفقة شيطانية مع أكثر الأحزاب الإسرائيلية تعصبًا التي تسمح له بالبقاء خارج السجن وعلى قمة السلطة رغم إدانته بعدة تهم فساد، مقابل مساعدتهم بفرض أجندتهم الدينية المتطرفة على الدولة والمجتمع والمزيد من تهميش الأقلية الفلسطينية في “إسرائيل”.
تحت ضغط الشارع الشديد، تراجع نتنياهو يوم الإثنين وأجل تصويت البرلمان على أجندته، أملًا في تخفيف التوتر
لقد أثبت نتنياهو استعداده للقيام بكل ما يستطيع للبقاء في السلطة بما في ذلك التآمر مع أعنف وأخطر عناصر الكيان الإسرائيلي لتقويض المؤسسة العلمانية الليبرالية التي يهمين عليها الأشكيناز التي وضعت أسس الدولة الإسرائيلية وشكلت تطورها.
ورغم أنه علماني أشكينازي، فإنه يحظى بدعم واسع من المجتمعات الدينية والقومية المتطرفة والسفارديم، الذين ساعدوه جميعًا ليصبح أطول رئيس وزراء في تاريخ الكيان الإسرائيلي، ومع تلقيبه بـ”ملك إسرائيل” يعتقد نتنياهو أن يستطيع أنه يضرب النار على المتظاهرين في شارع ديزينغوف دون أن يخسر الانتخابات.
هذه العجرفة الترامبية قادته إلى فرض أجندته الراديكالية المتعصبة المتحولة بأغلبية ضئيلة وتجاهل المعارضة المتزايدة محليًا ودوليًا خاصة من الولايات المتحدة وأوروبا، كانت هذه غلطة، غلطة غبية.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى اكتشف منتقدو نتنياهو أنه بمجرد تمرير إصلاحه القضائي برفع الإشراف القضائي وتهميش المحكمة العليا، سيصبح رئيس الوزراء والمتعاونون معه قادرين على تشريع أي قانون ينظم جوانب الحياة الإسرائيلية دون وجود أي وسيلة قانونية لمنعه.
ردًا على ذلك، خرج مئات آلاف العلمانيين والليبراليين الإسرائيليين من جميع الفئات إلى الشوارع للاحتجاج على محاولات نتنياهو إلغاء النظام الليبرالي الأشكينازي المهيمن واستبداله بنظام استبدادي، وقد هددوا بشلّ الدولة وإغلاق الموانئ ومطار تل أبيب والجامعات حتى الاستجابة لمطالبهم.
تحت ضغط الشارع الشديد، تراجع نتنياهو يوم الإثنين وأجل تصويت البرلمان على أجندته، أملًا في تخفيف التوتر، لكن وعوده بالتوصل إلى إجماع قومي أو برلماني لم تلق صدى لدى المتظاهرين الذين يرونه مجرد حيلة لتجنب مواجهة المشكلة.
من الواضح أن الخلاف الحاليّ داخل المجتمع الإسرائيلي سيزداد عمقًا ما لم تعالج “إسرائيل” الكذبة الكبرى: وهي أنها ديمقراطية يهودية ومحتل ليبرالي وجلاد متحضر لشعب آخر وهم الفلسطينيون
لكن يبدو أن بعض قادة المعارضة مثل شريك التحالف السابق بيني غانتز، مستعدون للوصول إلى اتفاق باسم المصلحة القومية (أي الدولة اليهودية).
يبدو أن المتظاهرين الذين يرفعون العلم الإسرائيلي إشارة إلى الوطنية ودفاعًا عن حرياتهم، لا يدركون أو لا يعترفون بأنه طالما حافظت دولتهم الإسرائيلة الاستعمارية على سيادتها اليهودية الظالمة في فلسطين، فإن نظام الفصل العنصري الراسخ سيواصل تغذية الفاشية المستبدة والتطرف.
يبدو كذلك أنهم لا يدركون أو لا يعترفون بأن الجيل الجديد من الأوغاد المتطرفين دينيًا مثل الوزراء بن غفير وسموتريتش هم نتيجة الاحتلال الإسرائيلي والبؤر الاستيطانية غير الشرعية، وبالنظر إلى اتساع وتزايد أتباعهم من الشباب الإسرائيلي، فمن المتوقع أن يصبحوا أقوى وأخطر مع استمرار نظام الفصل العنصري العنيف.
ورغم أنه لا يوجد أي مساواة أخلاقية بين دوافع السيطرة الإسرائيلية ونضال الفلسطينيين من أجل الحرية، فإن العقود الثلاث الماضية للفصل العنصري كان لها تأثير مشابه على المحتل والخاضعين للاحتلال، فقد عزز ذلك العناصر المتطرفة في كلا المجتمعين ويهدد بدوائر عنف جديدة تودي إلى مزيد من التعصب.
حتى الآن لا يبدو واضحًا متى وكيف تنتهي الفوضى الحاليّة، لكن من الواضح أن الخلاف الحاليّ داخل المجتمع الإسرائيلي سيزداد عمقًا ما لم تعالج “إسرائيل” الكذبة الكبرى: وهي أنها ديمقراطية يهودية ومحتل ليبرالي وجلاد متحضر لشعب آخر وهم الفلسطينيون.
هذه الكذبة انتشرت في أوائل التسعينيات عندما منحت عملية السلام – برعاية أمريكا – “إسرائيل” امتيازًا لتصبح الدولة الاستعمارية الاستيطانية المزدهرة فوق أكثر من 78% من فلسطين التاريخية، دولة كادحة ليبرالية وتل أبيب العلمانية في قلبها، مندمجة تمامًا مع الغرب والشرق الأوسط بجانب دولة فلسطينية مستقلة.
دعمت واشنطن اقتصاد “إسرائيل” واستثمرت في صناعتها التقنية ومولت جيشها، ودفعت نحو تطبيع علاقتها مع معظم دول العالم، وفي الوقت نفسه تجاهلت الفصل العنصري المترسخ والعنف المتزايد
كان البديل استمرار توسع مستوطناتها اليهودية غير الشرعية لتصبح دولة فصل عنصري مثل جنوب إفريقيا، وتتوسع فوق كامل فلسطين التاريخية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط بنظامين سياسيين واقتصاديين وبنيتين تحتيتين منفصلتين، يهيمن عليهما دولة يهودية أكثر تعصبًا وفي قلبها القدس المحتلة المشحونة دينيًا.
لكن بكل غرور وجشع رفضت “إسرائيل” العرض الفلسطيني السخي للتعايش، معتقدة أنها تستطيع الحصول على كلا الأمرين: السيطرة على فلسطين والاستمتاع بالسلام والازدهار والشرعية الدولية.
هذا ما روج له نتنياهو منذ البداية عندما تولى السلطة عام 1996 بعد التحريض ضد عملية السلام، ما أدى إلى اغتيال سلفه إسحاق رابين عام 1995.
وبفضل الراعي الأمريكي، استمرت “إسرائيل” في كلا الاتجاهين لفترة طويلة، فخلال الـ30 عامًا الماضية، دعمت واشنطن اقتصاد “إسرائيل” واستثمرت في صناعتها التقنية ومولت جيشها، ودفعت نحو تطبيع علاقتها مع معظم دول العالم، وفي الوقت نفسه تجاهلت الفصل العنصري المترسخ والعنف المتزايد.
لكن عقود الدعم الأمريكي غير المشروط سمحت لـ”إسرائيل” بتجاوز ثقلها بكل وقاحة، والتعامل مع حقائق المنطقة بكل ازدراء، كما مكنت من صعود التعصب والفاشية اللذين سيؤديان في النهاية إلى زوالها.
لذا، دعوني أوضح لكم، مع انكشاف الخداع وإلصاق الكذبة بالكاذب، يجب أن تنهي “إسرائيل” هذه التمثيلية الكاذبة وتخرج من فخها الصهيوني، وتتوقف عن التظاهر بأنها استعمارية وليبرالية، ويهودية وديمقراطية، وعلمانية واستبدادية، وقمعية وسلمية، وإنسانية وعنصرية، حان الوقت لأن تختار “إسرائيل” بحكمة بدلًا من أن يختار المتعصبون لها.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية