قبل نحو 60 عامًا تقريبًا هاجر يوسف، الشاب الباكستاني القادم من ولاية البنجاب الذي يعمل (خيًاطًا)، إلى إسكتلندا، وكانت معه زوجته (كانت تختم تذاكر حافلات غلاسكو فيما بعد)، وأنجبا ولدًا أسماه “هارون” الذي أعجب بفتاة من جنوب شرق آسيا (مولودة في كينيا)، وتزوجا بعد قرابة عقدين وأكثر قليلًا من هجرة أبيه، وعاشا في غلاسكو ثاني كبرى المدن الإسكتلندية، وبعد وقت قليل أنجبا طفلًا أسموه “حمزة” وكان ذلك عام 1985.
لم يدر بخلد هارون وزوجته أنه بعد 38 عامًا من زواجهما سيكون ابنهما حمزة هو رئيس وزراء إسكتلندا والوزير الأول بها، ليكون بذلك أول مسلم يتولى هذا المنصب في التاريخ، ليس في إسكتلندا فقط، لكن في جميع بلدان أوروبا الغربية، وذلك بعد اختياره من أعضاء الحزب الوطني الاستقلالي زعيمًا لهم خلفًا لرئيسة الوزراء السابقة نيكولا ستيرغون التي استقالت من منصبها طوعًا بعد 8 سنوات في السلطة.
وجاء حمزة يوسف في المرتبة الأولى في الانتخابات الداخلية للحزب الوطني التي جرت قبل أيام بـ48% من إجمالي الأصوات، فيما حلت في المرتبة الثانية وزيرة المالية كيت فوربس التي حصلت على 40%، الأمر الذي تطلب جولة جديدة من الانتخابات التي تُحسم بحصول الفائز على 50% من الأصوات، وبالفعل استطاع المرشح المسلم الحصول في جولة الإعادة على 52%، مقابل 48% لمنافسته فوربس، ليُعلن فوزه بمنصب زعيم الحزب، ومن ثم رئيس الحكومة بشكل تلقائي.
ورغم تدرجه في المناصب التنفيذية خلال السنوات الماضية وصعوده السريع على سلم السياسة، فإن اسمه لم يكن يتردد كثيرًا على الأسماع، سواء في الداخل البريطاني أم خارجه، إلا أن الوضع اليوم تغير كثيرًا ليجد الشاب البالغ من العمر 37 عامًا، والذي ينتمي للجيل الثالث لأبناء المهاجرين، نفسه، تحت دائرة الضوء والشهرة، الأمر الذي سيكون له صداه الواضح على الجالية الإسلامية في إسكتلندا، فماذا نعرف عن رئيس الوزراء الجديد؟
من هو حمزة يوسف؟
انخرط يوسف سريعًا في العمل العام من خلال ترأسه لجمعية الطلبة المسلمين حين كان طالبًا بجامعة غلاسكو، حيث اشتبك مع قضايا الجالية المسلمة بشكل فعال، وبرز اسمه كأحد المدافعين عن حقوق الأقليات، كما اكتشف نفسه في فنون الخطابة ومواجهة الجمهور العام من خلال المرافعات التي كان يجريها أمام إدارة الجامعة دفاعًا عن قضايا المسلمين.
وبعد تخرجه من الجامعة وحصوله على درجة الماجستير في العلوم السياسة عام 2007 عُين متحدث إعلامي لجمعية الإغاثة الإسلامية إحدى أكبر الجمعيات الخيرية في بريطانيا، هذا بجانب عمله بإحدى الإذاعات المحلية لجمع التبرعات لطالبي اللجوء وتلبية احتياجات المشردين من أبناء الأقليات، واستمر في تلك الإذاعة قرابة 11 عامًا.
ورغم ميله نحو الانخراط في العمل الخيري التطوعي، فإن الطموح السياسي لديه كان أكبر، حيث اقتحم المجال السياسي وهو لم يتجاوز 23 عامًا، حين عمل مساعدًا للنائب البرلماني بشير أحمد، وهو أول نائب مسلم في برلمان إسكتلندا، غير أن التجربة لم تستمر طويلًا، إذ انتهت مبكرًا بوفاة النائب بعد وصوله للبرلمان بأشهر قليلة، إلا أن ذلك لم يفت في عضد الشاب الطموح سياسيًا الذي بدأ في لفت الإنظار في ذلك الوقت، ما دفع السياسي البارز أليكس ساموند الذي شغل بعدها منصب رئيس وزراء في أيار/مايو 2007، إلى ضمه ضمن فريق عمله، ومن بعده انتقل للعمل كمساعد لأحد أبرز الشخصيات السياسية في إسكتلندا وهو نيكولاس ستورجن.
بعيدًا عن مواقف الانتقاد التي تعرض لها يوسف، إلا أنه استطاع أن يقدم نفسه كأحد الوجوه الشابة القادرة على القيادة والتغيير في إسكتلندا، كما أن مواقفه المناهضة للتمييز – كونه مهاجرًا- لاقت قبولًا كبيرًا لدى أبناء الأقليات الأخرى
كان العمل مع ستورجن نقطة الانطلاقة الحقيقية للشاب الباكستاني نحو العمل السياسي بشكل رسمي، حيث مهد الطريق نحو البرلمان ليصبح نائبًا وهو لم يكمل عامه الـ26 وكان ذلك عام 2011، ليصبح أصغر نائب برلماني، ومن هنا بدأ يفرض نفسه كأحد الأسماء المرشحة لتولي حقائب وزارية، كان دعم ستورجن له النقطة الأبرز في تسليط الضوء عليه.
وبعد 5 سنوات داخل أروقة البرلمان، عُين وزيرًا للنقل عام 2016، ثم وزيرًا للعدل من 2018 وحتى 2021، وقد تعرض خلال تلك الفترة إلى انتقادات حادة بسبب تمرير قانون “جرائم الكراهية” الذي تقول المعارضة والنخب الدينية والسياسية إنه ينتهك الحريات بشكل كبير.
وبعد عاصفة قانون الكراهية المثير للجدل غادر يوسف وزارة العدل ليتسلم حقيبة الصحة في نفس العام، لكنه لم يسلم كذلك من الانتقادات، إذ تزامن ذلك مع تفشي جائحة كورونا (كوفيد 19) وتزايد الضغوط على المستشفيات والمراكز الصحية، وهو ما دفع الوزير للإدلاء ببعض التصريحات التي اعتبرها البعض مستفزة، على شاكلة طلبه للناس بالتفكير مرتين قبل الاتصال بالطوارئ، وذلك من أجل تخفيف الضغط على المستشفيات.
وبعيدًا عن مواقف الانتقاد التي تعرض لها يوسف، إلا أنه استطاع أن يقدم نفسه كأحد الوجوه الشابة القادرة على القيادة والتغيير في إسكتلندا، كما أن مواقفه المناهضة للتمييز – كونه مهاجرًا- لاقت قبولًا كبيرًا لدى أبناء الأقليات الأخرى، ويذكر أنه وزوجته نادية النخلة – فلسطينية الأصل – كانا قد تقدما في 2021 بشكوى ضد حضانة رفضت ضم ابنتهما، حيث اتهماها بالتمييز، وبعد إجراء تحقيقات مكثفة في تلك الشكوى، خلصت الهيئة المسؤولة عن التحقيق إلى أنها وجدت الشكوى مبررة وأجبرت الحضانة على ضم البنت، ليعلنا بعدها سحب الدعوى القضائية، لكنهما قدما نموذجًا في مواجهة التمييز أثار إعجاب الجميع وقتها.
الجالية المسلمة في إسكتلندا
بحسب إحصاء 2011، فإن عدد المسلمين في إسكتلندا نحو 75,000 مسلم (نحو 1.4% من السكان) ويعد الإسلام أكبر ديانة غير مسيحية في البلاد، فيما يتركز 43.6% من المسلمين في العاصمة غلاسكو، ويتوزع الباقي في المدن الرئيسية الأخرى، وينحدرون من أعراق متباينة، غير أن الأكثرية ذووي أصول جنوب آسيوية بنسبة 65%، بينما تبلغ نسبة العرب بينهم 9.8%، بحسب ما أوردته الدراسة التي أعدتها جامعة أدنبره تحت عنوان “مسلمو إسكتلندا في أرقام“.
وتشير الأرقام التي كشفتها الدراسة أن حال مسلمي إسكتلندا أفضل بكثير مما هو عليه مسلمي بريطانيا، سواء على مستوى الوضعية الاقتصادية أو الحقوقية، إذ نسبة السجناء المسلمين في كل من بريطانيا وويلز 13%، بينما تبلغ في إسكتلندا 1.8%، كما أن نسبة المسلمين الحاصلين على مؤهلات دراسية عليا في إسكتلندا ارتفعت من 22% عام 2001 إلى 38% بحلول عام 2011، وهي النسبة التي تتفوق على نظيرتها بين الإسكتلنديين أنفسهم حيث تبلغ 27%.
ويتفوق المسلمون في مستوياتهم الاقتصادية عن الإسكتلنديين، حيث أظهرت الدراسة أن نسبة أبناء المسلمين الذي يعتمدون على نشاطهم الاقتصادي الخاص تصل إلى 33% مقارنة بـ12% فقط بين الشعب الإسكتلندي، مع الوضع في الاعتبار أن نسبة صغار السن البالغين من العمر أقل من 15 سنة تبلغ 30% بين المسلمين في مقابل 17% بين السكان الإسكتلنديين.
يعتقد 6 من أصل عشر10 إسكتلنديين أن المسلمين مندمجون في الحياة الإسكتلندية اليومية
وتعد الجالية المسلمة في إسكتلندا من أكثر الجاليات تناغمًا وانخراطًا بين المجتمع الداخلي هناك، هذا ما قالته مجلة “إيكونوميست” في تقريرها الذي ترجمه “نون بوست” حين كشفت أن “العلاقة ما بين القومية الإسكتلندية والمجتمع الإسلامي تبدو متناغمة بشكل غير معهود في باقي المجتمعات”.
ويستند التقرير إلى نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها معهد إيبسوس موري عام 2010، في هذا الشأن، إذ يعتقد 6 من أصل 10 إسكتلنديين أن المسلمين مندمجون في الحياة الإسكتلندية اليومية، وفي مسح آخر للحكومة الإسكتلندية عام 2011 اعتبر المسلمون في إسكتلندا أن المكون الإسكتلندي جزءًا مهمًا من هويتهم الشخصية، بل إنه في الاستفتاء الشعبي الذي جرى في 2014 بخصوص استقلال إسكتلندا عن بريطانيا صوت 64% من الآسيويين – معظمهم من المسلمين – بـ”نعم” للاستقلال، فيما يصف مظهر خان عضو المجلس الإسلامي في إسكتلندا العلاقة بين المسلمين والدولة الإسكتلندية بقوله “المسلمون في إسكتلندا يعرّفون عن أنفسهم بأنهم إسكتلنديون، في حين أن أولئك الذين في انكلترا فالبكاد لديهم استعداد فقط ليعرّفوا عن أنفسهم بأنهم بريطانيون”، مرجعًا ذلك لأسباب عدة على رأسها الاستقلالية الاقتصادية لمسلمي إسكتلندا مقارنة بتواضع المستوى بين البريطانيين، والدور المؤثر الذي يلعبوه في مسار التنمية الوطنية لإسكتلندا ما يعزز شعور الانتماء لديهم مقارنة بغيرهم.
My family and I spending our first night in Bute House after today’s parliamentary vote. A special moment leading my family in prayer in Bute House as is customary after breaking fast together. pic.twitter.com/yjPY1vpJMB
— Humza Yousaf (@HumzaYousaf) March 28, 2023
وتواجه رئيس الوزراء المسلم، صاحب الطموحات الكبيرة والشعبية القوية، حزمة من التحديات خلال فترة ولايته أبرزها الأزمة الاقتصادية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وإنهاء الانقسامات داخل الحزب، هذا بجانب القضية الأبرز حضورًا وهي السعي من جديد نحو الاستقلال عبر إجراء عملية استفتاء جديدة، وهو ما ألمح إليه مبكرًا في خطاب النصر الذي ألقاه عقب فوزه حين قال “سنكون الجيل الذي سيحقق استقلال إسكتلندا”، مؤكدًا “الشعب الإسكتلندي بحاجة للاستقلال اعتبارًا من الآن، أكثر من أي وقت مضى”.
وقد أثارت رسائل يوسف الأولية حفيظة رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الذي علق على لسان المتحدث باسمه، إنه يتطلع للعمل مع زعيم الحزب الوطني الإسكتلندي الجديد حمزة يوسف، لكنه يرفض الدعوة التي أطلقها الأخير لإجراء استفتاء جديد على الاستقلال، مضيفًا “الإسكتلنديون وكل البريطانيين يريدون من السياسيين أن يركزوا على القضايا التي تهمهم أكثر من أي شي آخر، مثل خفض التضخم، ومعالجة ارتفاع مستوى المعيشة والضغط الكبير على المستشفيات”.
في المجمل، فإن وصول مسلم من أصول مهاجرة لسدة الحكم في إسكتلندا حدث محوري في خارطة الأقلية المسلمة في بلدان غرب أوروبا تحديدًا، غير أنه من السابق لأوانه تقييم انعكاسات ذلك على واقع المسلمين هناك، خاصة أنهم يندمجون في المجتمع الإسكتلندي بشكل يعفي رئيس الوزراء من الحرج ويقيه الكثير من ساحات الاشتباك دفاعًا عن حقوقهم، لكن تبقى التجربة في مجملها محط تقييم واختبار لتولي مسلم مسؤولية بهذا الحجم.