على بُعد أيام قليلة من معركة “سيف القدس” في مايو/ أيار 2021، وبينما كان الاحتلال يطلق صواريخه تارة على قطاع غزة، ويقف في ملاجئه على “رجل واحدة” في تل أبيب بعد الساعة 9 مساءً بأمر من المقاومة الفلسطينية، كانت ملامح جديدة تتشكل في الضفة الغربية، ملامح تصعيد لم تشهده المنطقة منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، ويتغذى بإيمان عميق بحتمية العودة، فكان لزقاق المخيم أن يترجّل ويقول كلمته.
رُسمت بدايات ملامح انتفاضة جديدة يخوضها الشباب في مخيم جنين، حين قاد شاب فتيّ في عشرينيات عمره زمام الثأر لغزة، والشيخ جراح، وهبة الكرامة في الداخل المحتل، وأن يشعل الأوضاع في الضفة الغربية، ليكمل ما انطلق لأجله أول صاروخ في حرب مايو/ أيار 2021، ليكمل وحدة الساحات في الضفة الغربية.
جميل العموري ابن مخيم جنين الثائر وأحد فرسان المقاومة الفلسطينية، كان المغوار الذي أفصح عن عهد جديد للضفة الغربية المحتلة، يعيد سيرتها الأولى التي كانت عليها قبل عام 2007، أي قبل حلول دايتون الجديد، وخلال انتفاضة الأقصى التي كانت شاهدة على دور المخيمات الفلسطينية في مقارعة ضباط الشاباك والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وتعكس هذه السيرة لأبطال المخيمات الفلسطينية البيئة الجغرافية لها، باعتبارها تختلف تمامًا عن مراكز المدن التي تتواجد بها السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية بكثافة، مقارنة مع المخيمات التي تمتلك طابعًا جغرافيًّا واجتماعيًّا مغايرًا، ما يجعلها تختلف بالكلية في الحالة النضالية الفلسطينية.
اللاجئون الفلسطينيون.. أصل الحكاية
يقدَّر عدد المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة بـ 19 مخيمًا فلسطينيًّا، تديرها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، ولا تدير الأونروا أو تراقب الأمن داخل هذه المخيمات بل يقع هذا على عاتق السلطات المضيفة، بالإضافة إلى 5 مخيمات غير معترف بها.
وبحسب سجلّات أونروا، فإن عدد اللاجئين المسجلين حتى يناير/ كانون الثاني 2020 بلغ حوالي 6.3 ملايين لاجئ فلسطيني، غير أن هؤلاء ليسوا كل اللاجئين الفلسطينيين، فالكثير من الفلسطينيين رفض التسجيل لدى الأونروا لاستغنائه عن خدماتها، ويعيش 28.4% منهم في 58 مخيمًا رسميًّا تابعًا لوكالة الغوث الدولية تتوزع بواقع 10 مخيمات في الأردن، و9 مخيمات في سوريا، و12 مخيمًا في لبنان، و19 مخيمًا في الضفة الغربية، و8 مخيمات في قطاع غزة.
أما عن الدور الأكبر للمخيمات الفلسطينية، وتحديدًا في الضفة الغربية المحتلة، فقد ساهم انخراط عنصر الشباب في إسقاط أهداف الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما في أعقاب اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، المتمثلة في إذابة الهوية الوطنية، وإجبار الفلسطينيين على قبول الأمر الواقع، خاصة أن نسبة من هم دون سن الـ 14 بلغت 46% من سكان الضفة الغربية، فيما وصلت النسبة في قطاع غزة إلى 47%.
وإن الدور الذي قام به شبّان مخيمات اللاجئين يعود إلى النسبة التي يشكلونها في مرحلة الانتفاضة الأولى عام 1987، وهي 60% من عدد السكان الذين وُلدوا في ظل الاحتلال وسياساته القمعية والإجلائية، واستيقظوا على محاولات طمس وتبديد الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتضييق الخناق على حرية الرأي والتفكير والإبداع، ومحاولات تزوير الثقافة والتراث الوطني.
شرارة الانتفاضة الأولى انطلقت من مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، ومخيم بلاطة، شمال الضفة الغربية، فيما كانت جميع المخيمات بؤرًا مشتعلة طوال الوقت
علماً أن ما يزيد عن 60% من المصابين والشهداء والأسرى في مخيمات اللاجئين خلال سنوات الانتفاضتَين، الأولى والثانية، من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و35 عامًا، فيما أولت قيادة المقاومة عناية فائقة بهذه الفئة الشابة داخل مخيمات اللاجئين، والدور الذي تلعبه في إطارها، فالنداءات تخاطب العمال والطلبة والفلاحين والنساء والمهتمين وأرباب العمل المحليين، وتحدد لكل فئة من الفئات مهامها المناطة بها بكل مرحلة.
وقد استخدم اللاجئون الفلسطينيون منذ اليوم الأول لانطلاق مقاومتهم الحجارة كسلاح أولي ضد جنود الاحتلال، ثم انضمت قنابل المولوتوف، وعملوا على تطويرها بإضافة قطع الحديد والكبريت إليها، وسكبوا الزيت على طرق المخيمات، ووضعوا قطع الخيش بين إطارات السيارات المجنزرة.
كما رموا المسامير في الشوارع، وملأوا بيض الدجاج بحامض الكبريتيك وقذفوا به جنود الاحتلال، واستخدموا السكاكين لطعنهم والمستوطنين، وأحرقوا المزارع والمحاصيل لاستهداف اقتصاد الاحتلال، وأحدثوا الخراب في مصانعه ومؤسساته.
وإضافة إلى ذلك، فإن شرارة الانتفاضة الأولى انطلقت من مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، ومخيم بلاطة، شمال الضفة الغربية، فيما كانت جميع المخيمات بؤرًا مشتعلة طوال الوقت، وتقدّم نسبة عالية من مجموع الشهداء والجرحى والمعتقلين.
الضائع في اتفاقيات السلطة الفلسطينية
لم تحظَ المخيمات الفلسطينية على اختلافها، وتحديدًا في الضفة الغربية المحتلة، بأي اهتمام من قبل السلطة الفلسطينية، سواء حينما فاوضت منظمة التحرير الاحتلال الإسرائيلي، أو حتى بعد تأسيس السلطة في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.
وبالعودة إلى الوراء قليلًا، أكّد صلاح خلف (أبو إياد)، أحد أبرز أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، لمجلة “السياسة الخارجية” الأميركية في تصريحات نقلتها عن لسانه في ربيع 1990، أن عودة اللاجئين لم تكن ممكنة، خاصة بعد تدمير “إسرائيل” كليًّا أكثر من 400 قرية ما بين عامَي 1948-1949.
ووفق تصريحات أبو إياد، لن يقبل الكثير من الفلسطينيين العيش تحت حكم إسرائيلي في حالة وُجدت دولة فلسطينية كبديل، فيما كان طرحه لتجاوز هذه الحالة هو قبول الاحتلال الإسرائيلي بمبدأ حق العودة والتعويض، مع ترك تفاصيل هذه العودة مفتوحة للتفاوض.
وشكّل هذا المبدأ البراغماتي للقيادة الفلسطينية مفهوم “التفاوض” أساس المرحلة الجديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ انتفاضة 1987، وكانت إعادة تعريف مفهوم تحرير فلسطين على أنه بإقامة دولة فلسطينية في أي جزء من المناطق المحتلة التي انسحبت منها “إسرائيل”.
لا يمكن اقتصار الأمر فقط على السوابق التاريخية، إذ إن رئيس السلطة الحالي، محمود عباس، أعلن صراحة عدم سعيه أو عمله لإغراق الاحتلال الإسرائيلي باللاجئين.
اُعتبر ذلك في حينه ضمنيًّا إقامة دولة تقتصر على أراضي الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، في حين لم يتم التعامل في الحال مع الآثار المترتبة عن هذا التحول الاستراتيجي في مفهوم حق العودة وتنفيذه، إلى جانب أن إعلان الاستقلال الشهير الذي تحدث فيه ياسر عرفات (أبو عمّار) في نوفمبر/ تشرين الثاني 1988 لم يذكر حق العودة ولا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، واكتفى بالإشارة إلى تأييد “تسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الأمم المتحدة”.
أما المفاوضات واتفاقيات التسوية فقد استندت بالأساس إلى قرارَي مجلس الأمن رقم 242 (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967) ورقم 338 (22 أكتوبر/ تشرين الأول 1973)، اللذين أشارا أساسًا إلى ضرورة تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين، ولم تعالج اتفاقات أوسلو قضية اللاجئين بشكل مباشر، كما لم تؤثر على وضعهم.
ولا يمكن اقتصار الأمر فقط على السوابق التاريخية، إذ إن رئيس السلطة الحالي، محمود عباس، أعلن صراحة عدم سعيه أو عمله لإغراق الاحتلال الإسرائيلي باللاجئين، حيث قال في فبراير/ شباط 2019 حرفيًّا: “نحن لا نسعى ولن نعمل على إغراق “إسرائيل” بالملايين.. هذا هراء.. نحن نعمل من أجل مستقبل شباب “إسرائيل” ونقدر حساسية “إسرائيل” تجاه الأمن، وخوفها من المستقبل والتطرف.. ونقبل بحلف الناتو ليقوم بمهمة تأمين الأمن للطرفَين، ونتمسك بكل اتفاقيتنا الأمنية لمواجهة خطر الإرهاب”.
مقاومة جيل الـ 2000.. المخيمات الشرارة
مع تصاعد وتيرة المقاومة الحالية في الضفة الغربية المحتلة، فإن الشرارة من المخيمات، كالعادة، إذ إن غالبية التشكيلات العسكرية القائمة الحالية تتواجد في مخيم بلاطة في نابلس، ومخيم جنين في مدينة جنين، ومخيم عقبة جبر في أريحا، ومخيم الدهيشة في بيت لحم، ونور شمس في طولكرم.
وتعكس التطورات المتتابعة منذ نهاية “سيف القدس” عام 2021 إلى الآن حضورًا لافتًا لجيل الشباب في هذه المخيمات، التي ظنَّ الاحتلال أنه نجح في أدلجتها بسياساته الناعمة والخشنة استنادًا إلى المشهد القائم بالضفة الغربية المحتلة منذ عام 2007.
تميزت التشكيلات العسكرية الأخيرة بحضور لافت للشبان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 إلى 22 عامًا، إضافة إلى ذلك نجحوا في كسب الالتفاف الشعبي والجماهيري حولهم بوتيرة متسارعة وكبيرة، حتى أصبحت بياناتهم تحظى بمتابعة غير مسبوقة.
وشكّلت المخيمات على مدار العام الجاري والماضي عاملًا في توجيه الضربات الأمنية والعسكرية المميزة ضد المنظومة الإسرائيلية، إذ شهد عام 2022 مقتل 33 إسرائيليًّا، فيما سجّل العام الحالي مقتل 16 إسرائيليًّا في سلسلة من العمليات، كان أبناء المخيمات اللاعب الأبرز فيها.
وساهمت مقاومة أبناء المخيمات في الضفة خلال هذه الفترة في عقد مؤتمرَي العقبة وشرم الشيخ، للوصول إلى حلول أمنية وسياسية واقتصادية وحتى عسكرية تعيد الهدوء لساحة الضفة، التي تجاوزت في فعلها الحالي ما حصل خلال هبّة القدس عام 2015 أو ما يعرَف بهبّة “السكاكين والدهس”.
ومع اتساع رقعة التشكيلات العسكرية في المخيمات الفلسطينية، يمكن القول إن المقاومين الشبان وحتى الفصائل الفلسطينية أعادت أنظارها نحوها للتغلب على الواقع الأمني القائم منذ عام 2007 وسياسة التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، لبناء تشكيلاتها المسلحة.