تجري الجزائر وإيطاليا في الفترة الأخيرة مفاوضات وتحركات دبلوماسية كبيرة لمساعدة الجارة تونس على تخطي أزمتها المالية التي تعيق انتعاش اقتصادها، وذلك في محاولة من البلدَين الحليفَين لتفادي تطورات قد لا تنعكس تبعاتها على هذا البلد المغاربي فقط، إنما أيضًا على المنطقة المتوسطية وشمال أفريقيا ككل، بالنظر إلى الحالة التي أصبح يعيشها العالم اليوم بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
وحتى إن لم يتمَّ الإعلان عن هذه التحركات بصفة رسمية، إلا أنه على الأقل يوجد تشاور مستمر بين الجزائر وإيطاليا بشأن الوضع في تونس، خاصة أن كلا البلدَين تربطهما علاقات جيدة مع تونس، ولعل أنبوب الغاز الجزائري الذي يمرّ عبر تونس نحو روما أفضل دليل على ذلك.
إعلان صريح
لا تخفي الجزائر عبر مسؤولها الأول، الرئيس عبد المجيد تبون، وقوفها إلى جانب تونس في مختلف الصعاب التي تواجهها، سواء سياسيًّا أو اقتصاديًّا، ويترجَم ذلك في المباحثات والتواصل المستمر بين تبون ونظيره التونسي قيس سعيّد.
وبدا هذا الاهتمام والدعم الجزائري واضحًا خلال المقابلة الأخيرة التي أجراها تبون مع قناة “الجزيرة” القطرية، حيث قال إن الجزائر تدعم تونس من خلال رأس الدولة، لأن الشعب انتخبه ولم يأتِ بالقوة أو عبر انقلاب، مضيفًا أنها “ولو دعمت أي أطراف تونسية أخرى فسيكون ذلك تدخلًا في شؤونها الداخلية”، كما قال إن هناك “مؤامرة تستهدف تونس، وأن الجزائر لن تتخلى عنها، أحبَّ من أحبَّ وكره من كره”.
ويتطابق حديث تبون عن تعرض تونس لمؤامرة مع خطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي يقول إن بلاده مستهدفة، مع العلم أن البلدَين تجمعهما اتفاقات أمنية تسمح بتبادل المعلومات الاستخباراتية بينهما.
وبالنظر إلى التجربة التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي مع الصندوق الدولي والبنك العالمي لإعادة جدولة ديونها، فإنها تعتبر أن ضغوط المؤسسات العالمية لإقراض الدول جزء من محاولة التعدي على سيادة هذه البُلدان.
والأمر ينطبق اليوم على تونس التي أصبح عدم حصولها على قرض مالي صغير لا يصل حتى مليارَي دولار أمرًا محيرًا بنظر الخبراء الماليين، والذي لا يتعلق حسبهم بجوانب تتعلق بالاقتصاد التونسي، إنما بأدوار سياسية يراد من تونس أن تقوم بها، لعل من بينها التطبيع مع “إسرائيل”، وهو الأمر الذي سترمي بشأنه الجزائر بكل ثقلها الدبلوماسي للحيلولة دون حصولها.
حتى إن كانت الجزائر لا تحبّذ التجييش الذي تقوم به السلطات التونسية ضد حركة النهضة وتيار الإخوان المسلمين، إلا أنها تعتقد أن ذلك يبقى في الأول والأخير شأنًا داخليًّا تونسيًّا وستتعامل مع الأمر وفق ما كانت نتائجه.
وترى الجزائر في الرئيس قيس سعيّد حليفًا جيدًا، بالنظر إلى أنه يتقاسم مع صانع القرار السياسي هذا الموقف الرافض للتطبيع مع محتل الأراضي الفلسطينية.
وحافظت الجزائر على الدوام على علاقات دبلوماسية جيدة مع تونس، حتى وإن تغيرت أيديولوجية صانع القرار في قصر قرطاج، فالجزائر كانت علاقاتها جيدة مع تونس في عهد الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي، وقبلت السلطة السياسية الجديدة بعد خلعه عام 2011، بل كانت من الداعمين للمسار السياسي الجديد بعد الثورة، بالنظر إلى العلاقات الجيدة التي كانت تجمعها بحزبَي السلطة وقتها حركة النهضة ونداء تونس.
واستقبلت الرئاسة الجزائرية بشكل دوري في عهد الرئيس السابق، الراحل عبد العزيز بوتفليقة، رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس البلاد الراحل باجي قايد السبسي في لقاءات منفصلة وجامعة.
وحتى إن كانت الجزائر لا تحبّذ التجييش الذي تقوم به السلطات التونسية ضد حركة النهضة وتيار الإخوان المسلمين، بالنظر إلى أنها لا مشكلة لها مع الأحزاب المنتمية إلى هذا الفكر، بما أن أكبر حزب معارض في الجزائر ينتمي إلى هذا التيار، إلا أنها تعتقد أن ذلك يبقى في الأول والأخير شأنًا داخليًّا تونسيًّا، وستتعامل مع الأمر وفق ما هي نتائجه، مثلما حدث مع مصر، حيث تقيم علاقات مع نظام عبد الفتاح السيسي، لكنها في الوقت ذاته رفضت تصنيف جماعة الإخوان المسلمين في خانة “التنظيمات الإرهابية” مثلما تنادي القاهرة.
مبادرة؟
قدمت الجزائر شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفق ما ورد في الجريدة الرسمية التونسية، قرضًا بقيمة 300 مليون دولار لجارتها الشرقية، وهي خطوة قامت بها في السابق أيضًا خلال فترة حكم حركة النهضة، إلا أن التحديات الاجتماعية التي تواجهها داخليًّا تجعلها غير قادرة على تقديم مساعدات تخرج تونس من ظرفها المالي الحالي الصعب الذي يتطلب مليارات الدولارات.
ومثلما ساعدت علاقاتها مع قطر وتركيا سابقًا في دعم الحكومات السابقة، تحاول اليوم التحرك دبلوماسيًّا لتقديم سند لإدارة الرئيس قيس سعيّد لتجاوز الأزمة المالية الحالية، وفق ما ذكرت وسائل إعلام جزائرية.
وقالت صحيفة “الوطن” الجزائرية الناطقة بالفرنسية، في مقال رأي، إنه يمكن أن تطلق الجزائر التي ترأس القمة العربية الحالية مبادرة للمانحين لمساعدة تونس على المستوى العربي لتأمين مساعدة بين 3 و4 مليارات دولار، مشيرة إلى أن هذه الفكرة قد تطرَح خلال شهر رمضان الحالي.
وبحسب الصحيفة، فإن الجزائر ستعتمد في تحقيق ذلك على العلاقات الجيدة التي تربط الرئيس تبون مع قطر والإمارات والسعودية، التي وقّع ولي عهدها، الأمير محمد بن سلمان، مؤخرًا على إنشاء مجلس للتنسيق الأعلى السعودي الجزائري.
وفي فبراير/ شباط الماضي، زار مساعد وزير الخارجية القطري للشؤون الإقليمية، محمد بن عبد العزيز الخليفي، تونس، واُستقبل من طرف الرئيس قيس سعيّد، ليطير بعدها إلى الجزائر أين اُستقبل من طرف الرئيس عبد المجيد تبون.
من الممكن أن تلعب الجزائر عبر القمة العربية دورًا في دفع هذه الدول لتقديم قروض لتونس، ما سيسرّع حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي.
وقالت وقتها وسائل إعلام تونسية إن هذه الزيارة شكّلت بداية لعودة العلاقات بين تونس وقطر، وبوساطة جزائرية، بالنظر إلى أنها أعقبت باتصال هاتفي بين سعيّد وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
وكان الرئيس تبون قد وجّه في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي 4 رسائل إلى قادة قطر والسعودية والإمارات والكويت في ظرف متزامن، قالت الرئاسة الجزائرية في حينها إنها تتعلق بـ”الدفاع عن قضايا الأمة”.
غير أن تنفيذ مبادرة كهذه على المستوى العربي يبقى مستبعدًا، بالنظر إلى أن اتخاذ هذا القرار يحتاج إلى الإجماع الذي يطبّع التصويت على قرارات الجامعة، إضافة إلى أنه قد يخلق حساسية بين الدول بالنظر إلى وجود بلدان حالها المالي أصعب بكثير من تونس، مثل لبنان.
والأهم في القضية كلها أن تونس نفسها قد لا تقبل بهذه المبادرة، بالنظر إلى أن تنظيم مؤتمر للمانحين يعني أنه وضعها الاقتصادي يسير نحو الانهيار، وهو ما يخالف الواقع على الأقل في الوقت الحالي، برأي الخبراء، إضافة إلى أن تقديم مساعدات بهذا الشكل ستكون له انعكاسات على التصنيف الاقتصادي والتنافسي لتونس.
لكن من الممكن أن تلعب الجزائر عبر القمة العربية دورًا في دفع هذه الدول لتقديم قروض لتونس، ما سيسرّع حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي، خاصة أن السعودية من ستتسلّم رئاسة القمة من الجزائر في الأشهر القادمة.
مع إيطاليا
تلقّى وزير الشؤون الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، الأربعاء اتصالًا هاتفيًّا من نظيره الإيطالي، أنطونيو تاياني، بحثا خلاله -حسب بيان للخارجية الجزائرية- القضايا ذات الاهتمام المشترَك على ضفتَي البحر الأبيض المتوسط.
وأكّد الجانبان على “تقارب وجهات نظر البلدَين القائمة على أساس احترام الشرعية الدولية، والطموح المتبادل الذي يحذوهما في نشر الاستقرار والازدهار، لا سيما في المنطقة المغاربية وفي كل ربوع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى”.
وحتى إن لم يتطرق البيان بالاسم إلى تونس، فإن كل المؤشرات توحي أنها كانت في صلب مباحثات عطاف وتاياني، بالنظر إلى أن تونس هي البلد المعنيّ اليوم أكثر بما يدور في أفريقيا جنوب الصحراء، كونها أصبحت غير قادرة على التصدي لتدفُّق المهاجرين غير الشرعيين عليها، ما قد تنعكس آثاره على الجزائر وإيطاليا اللتين تعانيان هما الأخريين من هذه الظاهرة.
وحسب موقع “ديكود 39” الإيطالي، فإن الملف التونسي أصبح يكتسي أهمية لدى إيطاليا والجزائر، حيث يجري البلدان حاليًّا اتصالات مكثفة حول هذا الملف، وسط توقعات حول مبادرات أكثر من الجانب الإيطالي أو الجزائري لدعم تونس، حيث يعدّ وضعها المالي محل اهتمام كبير لدى روما والجزائر.
وأشار الموقع إلى المحادثة الهاتفية التي أجراها الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، يوم الثلاثاء، مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، حيث دعاه إلى المشاركة في الاجتماع المقبل للدورة التاسعة من حوارات البحر المتوسط 2023، الذي سيعقَد في روما في الفترة من 2 إلى 4 نوفمبر/ تشرين الثاني من هذا العام.
التحركات الجزائرية الإيطالية لمساعدة تونس لم تصبح مخفية عن أحد، انطلاقًا من علاقات البلدَين بقرطاج جغرافيًّا واقتصاديًّا.
وحسب بيان للرئاسة الجزائرية، فإن الرئيسَين بحثا ملفات إقليمية ودولية ذات الاهتمام المشترَك، والتي تصبّ في مصلحة المنطقة واستقرارها.
وأفاد موقع “ديكو 39” أن الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة التي تعيشها تونس حاليًّا، بين تزايد التضخم وارتفاع الإنفاق العام، تسلّط الضوء على الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي كشرط ضروري لصرف قرض بقيمة 1.9 مليار يورو في 4 أشهر، والذي تمَّ الاتفاق عليه في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لكن تعثّر الحصول عليه.
وأضاف الموقع أنه “من المهم بالنسبة إلى تاياني المحافظة على اتصال هاتفي مع نظيره الجزائري الجديد أحمد عطاف، للحديث عن العلاقات الثنائية التي تعززت خلال حكومة ماريو دراغي وتوطيدها في عهد جورجيا ميلوني، إضافة إلى الوضع في تونس والأزمة في ليبيا”، وسبق لتاياني أن أكّد في تصريحات إذاعية على ضرورة الحاجة الماسّة إلى مساعدة اقتصادية لتونس والحاجة إلى الإصلاحات.
وقال تاياني لصحيفة “كورييري ديلا سيرا”، يوم الاثنين، إنه يجب الإفراج عن أموال صندوق النقد الدولي لمساعدة تونس التي تواجه وضعًا ماليًّا صعبًا، وفي ظل حالة طوارئ تتعلق بالهجرة السرّية.
وعبّرت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، في خطاب أمام مجلس الشيوخ عن خشيتها من انهيار الاقتصاد التونسي، وتبعات ذلك على موجات الهجرة السرّية إلى إيطاليا.
وفي الحقيقة، فإن التحركات الجزائرية الإيطالية لمساعدة تونس ليست خفية عن أحد، انطلاقًا من علاقات البلدَين بقرطاج جغرافيًّا واقتصاديًّا، إلا أن الوصول إلى أهداف هذه التحركات يبقى صعب التكهُّن به في حال لم يسِر المجتمع الدولي على مستوى صندوق الدولي في هذا الاتجاه، وكذا في حال واصل الرئيس قيس سعيّد خلق خصوم جدد في الداخل والخارج.