في 22 أغسطس/آب 2004، زار ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، المغرب في رحلة خاطفة، كان في استقباله الملك محمد السادس، ومهما كان سبب الزيارة الرسمية، فإن وجوده في المغرب في ذلك الوقت بالظبط، كان يمكن أن يُنظر إليه كخطأ دبلوماسي، سواء من الجانب البحريني أم المغرب.
جرت الزيارة في وقت كانت البحرين غارقة في الظلام بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن عموم البلاد، ولم تمنع حالة الطوارئ الداخلية الشيخ حمد من السفر إلى المغرب، بعد 9 أيام من إعلان اغتيال مواطن مغربي في إسبانيا اسمه هشام المنظري، الذي ورط العاهل البحريني، من خلال تصريحاته الإعلامية، في أضخم عملية تزييف أموال عرفها التاريخ الحديث.
من هو هشام المنظري؟
البعض وصفوه بأنه ينتسب إلى طينة “الخالدين”، لأنه تعرض للعديد من محاولات الاغتيال دائمًا ما كان ينجو منها بأعجوبة، إلى أن حان أجله يوم 4 أغسطس/آب 2004 بضاحية مالقا الأندلسية، من إقامة سياحية كان قد حل بها للتو، نزل هشام المنظري (38 سنة قيد حياته) إلى مرأب السيارات، من أجل لقاء فتاة مغربية كان على موعد معها، لكنه لم يرجع من المرأب حيًا.
تقرير الطب الشرعي أكد أن الضحية مات بين الساعة 11 مساءً ومنتصف الليل، برصاصة واحدة من عيار 9 ملم أطلقت من مسدس إسرائيلي، دون كاتم صوت، واخترقت خلف أذنه اليسرى، وأفادت فرضية المحققين أن الرجل أعدم من مسافة قريبة، ربما كان في لقاء مع شخص يعرفه، هذا إذا لم يكن قد تولى أحد حراسه الشخصيين المعتادين المهمة، وكان المنظري قبل عام يتجول مع ثلاثة حراس شخصيين: اثنان فرنسيان والثالت إسباني.
حتى الآن تبدو الجريمة عادية، لكن المقتول لم يكن شخصًا عاديًا، فوالده بالتبني هو حفيظ بنهاشم، المدير العام الأسبق للأمن الوطني بين 1997 و2003، كما خدم هشام المنظري ضمن الدائرة الضيقة لمعاوني الملك الراحل الحسن الثاني حتى صيف 1998، والأكثر من هذا أنه كان يدعي أنه ابن الحسن الثاني، وطبعًا لم يكن ذلك السبب الرئيسي للعداء مع النظام المغربي.
قبل أن يفر إلى فرنسا، ثم إلى الولايات المتحدة، بمعية ابنته وزوجته حياة الفيلالي (ابنة الحسن الثاني بالتبني)، تسلل هشام المنظري إلى المكتب الخاص للملك، ولم يسرق فقط ممتلكات ودفتر شيكات الملك موقع على بياض، بل نسخ وسرق وثائق سرية، منها ملفات تتعلق بقضية الصحراء، ليسلمها فيما بعد إلى المخابرات الجزائرية.
خلال فترة حياته وعمله بالقصر، كثيرًا ما اشتكى منه الأمير هشام العلوي، ابن عم الملك محمد السادس، حيث قال في كتابه “يوميات أمير منبوذ“: “هو فرد من البلاط الملكي.. كانت علاقتي الوحيدة به هي أنني ذات يوم أشبعته لكمًا.. إذ سمح لنفسه أن ينتحل صفتي مرارًا خلال أسفاره عبر العالم؛ يحجز غرف الفنادق باسمي، ويطلب المأكل والملبس باسمي، والحسن الثاني لا يُحرّك ساكنًا”، كما انتحل شخصيته ذات مرة لكي يتفاوض بشأن صفقة الفوسفات الأردني ليبيعها إلى شخصيات هندية مقابل عمولة محترمة، حسب رواية هشام العلوي.
كان المنظري مطلوبًا بمذكرة بحث دولية من السلطات المغربية منذ عام 1998، بتهم التزوير والابتزاز وتهديد الملك علانية، في مقالات مدفوعة على واشنطن بوست، بإفشاء أسرار العائلة الملكية، زد على ذلك القضايا التي كانت مرفوعة ضده من طرف فرنسيين ومغاربة وبحرينيين، كما نسج علاقات مشبوهة مع المخابرات الجزائرية وأمراء خليجيين، وأخطر فعلة قام بها، قيادته لأكبر عملية تزوير أموال: 8 أطنان من الأوراق المالية من فئة 20 دينارًا بحرينيًا.
جبل الدينار البحريني “حقيقي/مُزيف”
ذلك الكم الهائل من أوراق الدينار البحريني المزورة كانت سليمة من حيث الورق والحبر، ما دامت قد خرجت من مطبعة حكومية أرجنتينية متخصصة في طباعة الأوراق النقدية والوثائق الرسمية، ولعل هشام المنظري قدم إلى المطبعة أوراقًا مخصصة لطباعة الأموال، فضلًا عن ترخيص رسمي من المملكة البحرينية، فكيف حصل على كل ذلك؟
تعود هذه القضية إلى نهاية عام 1997، أعقبتها عدة أشهر من المفاوضات، حيث وضع ممثلون مزعومون لمؤسسة النقد البحرينية (ما يعادل البنك المركزي للإمارة) طلبًا مهمًا إلى المطبعة الأرجنتينية Calcographica Ciccone، من أجل سك 140 مليون دينار بحريني (ما يعادل407 ملايين يورو).
ونُقل هذا الجبل من الأوراق النقدية بالطائرة عبر النيجر وتشاد، قبل إرسالها في مايو/أيار 1998، عبر قنوات مختلفة والعديد من الوسطاء، إلى الشرق الأدنى وأوروبا، خاصة باريس.
زعم المنظري أن الرأس المدبرة لهذه العملية هو حمد بن عيسى آل خليفة نفسه، الذي كان حينها وليًا للعهد وقائد القوات المسلحة، وقال المنظري في أول حوار له مع “راديو فرنسا الدولي” بشأن قضية الدينار البحريني: “في منتصف مايو/أيار 1998 اتصل بي الجبور سلمان، المقرب من الشيخ حمد، عرض عليّ القيام بصرف العملة في باريس، ثم الاستثمار في أوروبا نيابة عن ولي العهد، وهو مبلغ كبير من المال كان سيُعطى لي نقدًا، وذكر مبلغ 70 مليون دينار، ما يعادل 185 مليون يورو تقريبًا، وعرض عليّ عمولة 10%”.
وفق ما ورد في الحوار المنشور على موقع “أر إف إيه”، نفى المنظري أنه تعامل مع المطبعة الأرجنتينية، وأنه لم يكن سوى وسيط في صرف العملة البحرينية إلى الدولار والجنيه الإسترليني والفرنك الفرنسي، بإيعاز من وريث عرش البحرين.
سرعان ما تنبهت السلطات المالية في البحرين إلى التدفق المالي المفاجئ، وفي بداية يونيو/حزيران 1998 اكتشفوا ما بدا لهم أنه تجارة كبيرة في النقود المزيفة، لم يكونوا على علم بخطورتها في ذلك الوقت، عندما اضطرت مؤسسة النقد البحرينية لتعويض عدة ملايين، ثم وزعوا “مذكرة تحذير” على البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، تحذرهم من مخاطر الوصول المفاجئ لكتلة من الأوراق النقدية تبدو أصلية، لكنها مزيفة.
توصل محققون فرنسيون إلى أن المخابرات الإيرانية كانت راعية هذا التدفق الهائل للأوراق النقدية بهدف زعزعة الاستقرار المالي لهذه الإمارة الخليجية الصغيرة، وقد تبنت هذه الفرضية صحيفة “لوموند”، وذكرت أن المخابرات الإيرانية خططت لإغراق البحرين بأوراق نقدية مزيفة لإضعاف الإمارة ذات الأغلبية السنية، التي تحكمها بقضبة من حديد قبيلة آل خليفة السنية.
رواية علي بوريكات
يكشف علي بوريكات في حوار نادر ما دار بينه وبين هشام المنظري عندما التقيا في الولايات المتحدة، بما في ذلك قضية الدينار البحريني، وكان المنظري في السجن بسبب خرقه لقانون الهجرة، بعدما طلب اللجوء.
علي بوريكات هو أيضًا من رجال البلاط المغربي، لكن الرجلين لم يلتقيا هناك أبدًا، ففي الوقت الذي كان المنظري يخدم الحسن الثاني، كان بوريكات قد حصل على حق اللجوء في الولايات المتحدة بدءًا من 1995، بعدما نجا من سجن تازمامرت سيئ السمعة عام 1991، هو وشقيقاه مدحت وبايزيد، حيث أمضوا نحو 18 عامًا من الاعتقال بلا تهمة ولا محاكمة.
أما والد الأخوة بوريكات فقد كان رجل أعمال تونسي، تزوج من أميرة مغربية، وكان أيضًا صديقًا مقربًا من محمد الخامس، الذي عينه على رأس الاستخبارات الخارجية ومكافحة التجسس، كما عمل ابنه علي رئيسًا للأمن في إحدى المناطق، وتعاون مع الشرطة والمخابرات المغربية في عملها.
يقول علي بوريكات: “حدث يومًا أن اتصل بي محامي الهجرة من فلوريدا، وأخبرني بأن موكله مغربي ربما أعرفه، كان مستشار الحسن الثاني بحسب ما ادعى، سألته عن اسمه، أخبرني بأنه شاب اسمه المنظري، ولم أكن أعرفه أبدًا”، يضيف بوركات بأن المحامي طلب منه أن يكون شاهدًا بما أنه يدرك جيدًا كيف تسير الأمور فيما يتعلق بالهجرة، وأن يلتقي بالمنظري في السجن الفيدرالي، فوافق على ذلك.
بعدما اطلع بوريكات على المحضر القضائي الفرنسي في قضية الدينار البحريني، عاد إلى المنظري وطلب منه أن يخبره الحقيقة، فكانت رواية المنظري هذه المرة غير ما صرح به إلى الصحافة الفرنسية والقضاء الفرنسي.
يضيف بوريكات “لم يكن المنظري يعمل وحده، كان لديه شريكة، فتاة محبوبة من طرف العديد من شيوخ وأمراء الشرق، وكانت طريقه للوصول إلى ولي عهد البحرين، وقد تمكنا من الاستيلاء على ختمه الخاص مع ورق المراسلات، كما تعاون معهم مسؤول من التشاد، كان يعمل في التهريب، في كتابة الترخيص باسم حمد آل خليفة وتزوير إمضائه، من أجل سك الأموال”.
تم التواصل مع المطبعة الأرجنتينية، لكنم كانوا في حاجة إلى الأوراق الخاصة لطباعة الأموال، التي هي ملك للدول حصرًا ويصعب لأي فرد الحصول عليها، إلا أن المنظري تمكن من الحصول على 18 ورقة.
“سألته: من أعطاكم الورق.. أجابني: مسؤول فرنسي كان يرسلني إليه الملك.. من؟ ثم أخبرني أنه نيكولا ساركوزي”، يوضح بوريكات أن ساركوزي، وزير الميزانية في ذلك الوقت، هو من ساعده أيضًا على ترحيله إلى باريس دون أن يودع في السجن، باعتبار أن المنظري وعده بتسليم وثائق سرية تكشف أن الرئيس الأسبق جاك شيراك كان يتسلم مبالغ مالية من الحسن الثاني، وكان ساركوزي ينوي الترشح للانتخابات الرئاسية ويريد استعمال هذه الوثائق للإطاحة بشيراك في حال ترشحه لولاية ثالثة.