قامت دولة المماليك في مصر أواخر العصر العباسي الثالث، وامتدت حدودها لاحقًا لتشمل الشام والحجاز، ودام ملكها منذ سقوط الدولة الأيوبية سنة 648هـ/ 1250م، حتى بلغت الدولة العثمانية ذروة قوتها وضم السلطان سليم الأول الديار الشامية والمصرية إلى دولته، بعد هزيمة المماليك في معركة الريدانية سنة 923هـ/ 1517م.
خلال هذه الفترة الطويلة من الحكم، عرفت دولة المماليك حروبًا عديدة، خاصة ضد الصليبيين والمغول، كما كان التاريخ السياسي في الدولة مليئًا بالمؤامرات والصراعات الداخلية، فمن بين نحو 55 سلطانًا انتهت عهود أكثر من 35 منهم بانقلابات، وانتهت حياة أكثر من 20 منهم بين القتل اغتيالًا أو إعدامًا أو بميتة شابها اغتيال.
هذا يفسر اهتمام المماليك بالجانب العسكري والإكثار من أعداد الجنود وتسليحهم وإعدادهم إعدادًا جيدًا ليكونوا عونًا للحاكم في حروبه الخارجية أو الداخلية على حد سواء، فالمنافسون على السلطة كثر وعلى السلطان أن يكون محتاطًا.
يعني هذا أن زمن المماليك كان أغلبه حروبًا، ما انعكس على احتفالاتهم بالمناسبات الدينية، فغياب الاستقرار في أغلب الأوقات ساهم في تراجع الاحتفالات بشهر رمضان الكريم مثلًا، وهو ما سنتطرق إليه في مقالنا هذا.
مع ذلك شهدت أوقات السلم اهتمامًا كبيرًا من المماليك بالشهر الكريم لمكانته العظيمة لدى المسلمين، إذ وسعوا على الفقراء والمحتاجين، واشتهرت في عهدهم الأوقاف الخيرية، وأعادوا تحري رمضان إلى ما كان عليه قبل الفاطميين، وأسسوا لعادة قراءة الحديث دون أن ننسى ابتكارهم لمدفع رمضان.
عودة تحري هلال الشهر
أشرنا في تقرير سابق إلى تعطيل الفاطميين تحري هلال شهر رمضان واعتمادهم على الفلك فقط لتحديد بداية الشهر ونهايته، لكن التحري عاد مع إقامة دولة المماليك، وكان يخصص له احتفالات كبيرة خاصة في زمن السلم.
كان أمراء الدولة المملوكية يتحرون هلال رمضان من منارة مدرسة المنصور قلاوون التي تقع حاليًا بشارع المعز لدين الله، وتم إنشاؤها بين عامي 1283 و1284 ميلاديًا، إلى جانب مسجد للصلاة وقبة للدفن وبيمارستان (كلمة فارسية تعني بالعربية دار المرضى).
أُسندت المهمة مجددًا للقضاة، فهم يشرفون على تحري هلال رمضان وإقرار رؤيته ويكون ذلك في موكب مهيب، تتخلله احتفالات كثيرة لعظمة الشهر الفضيل، ويتكرر الأمر نفسه في العديد من المدن المصرية الكبرى الأخرى، كما حدثنا أمير الرحالة المغربي ابن بطوطة.
ينقل لنا ابن بطوطة طريقة احتفال المصريين في القرن الثامن للهجرة برؤية هلال رمضان، فقد زار مصر في عهد السلطان المملوكي الأعظم الناصر محمد بن قلاوون، الذي يعد من أبرز سلاطين الأسرة القلاوونية والدولة المملوكية.
تمتعت مصر في عهد المماليك بثروة طائلة جنتها من حروبها ضد المغول والصليبيين، ما انعكس على الحياة الاجتماعية في البلاد
صادف ابن بطوطة موكب رؤية الهلال في مدينة إبيار، فقال إنه في يوم الركبة – وهو يوم ارتقاب هلال رمضان ويوافق التاسع والعشرين من شعبان – اجتمع فقهاء المدينة ووجهاؤها بعد العصر بدار القاضي الشافعي، وكان يقف على باب الدار نقيب المتعممين.
“فإذا أتى أحد الفقهاء أو الأعيان للقاء ذلك النقيب ومضى بين يديه قائلًا: “بسم الله سيدنا فلان الدين”، فيقوم القاضي ومن معه ويجلسه النقيب في موضع يليق به، وعندما يتكاملون هنالك يركبون جميعًا وعلى رأسهم القاضي ويتبعهم من بالمدينة من الرجال والصبيان حتى إذا ما انتهوا إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال، ينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال”.
و”بعد صلاة المغرب يعودون جميعًا وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس، أما إذا حدث ارتباك بسبب كثرة السحب أو رؤية الهلال في بعض الجهات وعدم رؤيته في البعض الآخر، فإن الحاضرين يكتفون بشهادة اثنين من الرجال، وبعد ثبوت الرؤية يوقد التجار الشموع بحوانيتهم وتكثر الأنوار في الطرقات والدروب والمساجد، وبذلك يتحول الليل نهارًا طيلة شهر رمضان”.
مدفع رمضان
فضلًا عن إعادة تحري رمضان، يحسب للمماليك ابتكار مدفع رمضان وفق ما تؤكده العديد من الروايات، فالمدفع الذي نسمعه اليوم في أيام رمضان يعود إلى عصر المماليك، تحديدًا زمن حكم السلطان المملوكي الظاهر أبو سعيد خشقدم.
تقول إحدى الروايات إنه في أحد أيام رمضان سنة 865هـ/ 1460م، كان السلطان خشقدم يجرب أحد المدافع، وذلك قبل موعد الغروب واقتراب وقت الإفطار، فدوت في سماء القاهرة طلقة المدفع، فظن السكان أن هذا إيذانًا لهم بالإفطار فأفطروا.
ظن السكان أنه تقليد جديد، فتوجه في اليوم التالي مشايخ الحارات إلى بيت القاضي ليشكروا له وللسلطان هذا الأمر، فلما عرف القاضي بالحكاية أُعجب بذلك أيما إعجاب، وأخبر الملك بذلك – الذي أُعجب هو الآخر بالمسألة – فأمر بإطلاق المدفع عند غروب شمس كل يوم من رمضان.
التوسعة على الفقراء
تمتعت مصر في عهد المماليك بثروة طائلة جنتها من حروبها ضد المغول والصليبيين، ما انعكس على الحياة الاجتماعية في البلاد زمن السلم، إذ اتخذ سلاطين الدولة من الكرم شعارًا، خاصة في شهر رمضان الكريم، وأصبح الأمر سنة متبعة فيما بينهم.
يقول المقريزي، في “السلوك لمعرفة دول الملوك”، إن السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق اعتاد “طوال أيام إمارته وسلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان ذبح 25 بقرة، يتصدق بها – بعدما تُطبخ ومعها آلاف من أرغفة الخبز النقي – على أهل الجوامع والمشاهد والخوانك (جمع خانْكاه/ خانْقاه: خلوة ومدرسة للصوفية) والربط وأهل السجون”.
ووفق المقريزي، فإنه يخصص “لكل إنسان رطل لحم مطبوخ و3 أرغفة من نقي البر (القمح)، سوى ما كان يفرق في الزوايا [للصوفية] من لحم الضأن، فيعطي في كل يوم لكل زاوية 50 رطلًا وعدة أرغفة خبز، وفيهم من يعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم”.
كانت هذه التوسعة على الشعب عادة السلاطين المماليك، فقد كان دأبهم في رمضان تنظيم موائد الإفطار وجمع الناس حولها، لتيسير صيامهم ورفع المشقة عنهم والتقرب إلى الله، عملًا بتوصيات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي عهد الظاهر بيبرس، كانت ترتَب مطابخ لإفطار الصائمين وتوزيع الصدقات عليهم، وقد بلغ عدد الطاعمين في هذه المطابخ أيام الظاهر بيبرس 5 آلاف نفس في كل يوم من أيام شهر رمضان، وفق ما وثقته كتب التاريخ.
قصة مدفع رمضان 1️⃣ بدأت في مصر ف عهد المماليك قبل ٥٠٠ سنه حين كان حاكمهم ( خشقدم ) يجرب بالصدفه مدفعا وقت الافطار pic.twitter.com/GcQrOUBkCm
— عاشق الموج (@binqasem88) May 27, 2017
لم يقتصر فعل الخيرات في رمضان على إطعام الطعام فقط، إنما اهتم الحكام المماليك أيضًا بزيادة الرواتب في الشهر الفضيل، وصرف رواتب إضافية لأرباب الوظائف وحملة العلم والأيتام وغيرهم، بهدف إسعاد الناس في الشهر الكريم.
كما تم توزيع السكر بكثرة، نتيجة تضاعف استهلاكه في رمضان بسبب الإكثار من عمل الحلوى، وقد بلغ راتب السكر أيام الناصر محمد في رمضان ثلاثة آلاف قنطار، قيمتها ثلاثون ألف دينار، منها ستون قنطارًا كل يوم من أيام رمضان برسم الدور السلطانية.
تسابق سلاطين الدولة المملوكية – سواء البحرية أم البرجية – إلى فعل الخيرات والتوسيع على الناس، وقد أقاموا الأوقاف الخيرية لتيسير ذلك حبًا للأجر وسعيًا للتقرب من الرعية، خاصة أن عهدهم شهد العديد من الحروب والصراعات والمؤامرات الداخلية.
وتؤكد العديد من المراجع أن سلاطين دولة المماليك كانوا أول من رصدوا في أوقافهم العقارات والأطيان الزراعية، وحددوا ريعها للصرف منها في رمضان على وجوه البر، وفي التوسع في إقامة الشعائر الدينية وتعمير المساجد ومساعدة المحتاجين.
لم يكن فعل الخيرات مقتصرًا على الملوك فقط، فقد حاكاهم الأمراء في ذلك أيضًا، إذ أكثروا من الصدقة والإحسان في شهر رمضان، من ذلك أن الأمير المملوكي البحري طشتمر البدري الناصري حرص على الإكثار من ذبح البقر والغنم في ليالي رمضان، كذلك يروي أبو المحاسن في كتابه “مورد اللطافة” أن السلطان برقوق كان يفعل ذلك أيام إمارته قبل أن يصبح ملكًا.
ختم القرآن والحديث
لم يكن الاحتفاء بشهر رمضان مقتصرًا على الملوك والأمراء فقط، إنما شمل أيضًا عامة الناس على اختلاف فئاتهم، فقد اهتم عموم المسلمين زمن دولة المماليك، على عادة غيرهم من المسلمين، بإحياء رمضان ليله ونهاره.
اهتم المسلمون في ذلك العهد بقراءة القرآن وصلاة التراويح، كما كان عليه العهد زمن الخلافة الأموية والعباسية، خاصة أن هذه السنة قد تعطلت في بلادهم طيلة عقود عدة، زمن حكم الدولة الفاطمية باعتبارها “سنة عُمرية” وفق زعم الفاطميين.
يحرص المسلمون على قراءة القرآن من أول شهر رمضان في الجامع الأزهر، حتى يُختَم في ليلة العيد في احتفال كبير يحضره السلطان وطلبة الأزهر وقضاة المذاهب الأربع (الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية)، ثم تفرَق الخلع والهبات على العلماء والفقهاء وطلبة الأزهر والأيتام والأرامل والمرضى والمهاجرين.
لا تقتصر احتفالات ختم القرآن زمن المماليك على الجامع الأزهر فقط، إنما تشمل كل المساجد، إذ جرت العادة في ذلك العهد أن تقام احتفالات كبيرة بمناسبة ختم القرآن في رمضان، فتُقرأ القصائد ويجتمع المؤذنون فيكبرون جماعة في موضع الختم، ثم يؤتى بفرس أو بغلة ليركبها القارئ الذي تولى قراءة الختمة، ويزفونه إلى بيته في موكب هائل، وأمامه القراء يقرأون والمؤذنون يكبرون والفقراء يذكرون.
اهتم الملوك والأمراء وعموم الناس بفعل الخيرات وتسابقوا للطاعات خلال رمضان الكريم، لكنهم لم يهملوا الاحتفالات أيضًا
فضلًا عن قراءة القرآن وإقامة صلاة التراويح، اهتم عموم المسلمين زمن المماليك بقراءة الحديث النبوي على غير عادة العباسيين والأمويين الذين ركزوا فقط على القرآن الكريم في رمضان، اعتقادًا أن ذلك أكثر أجرًا وأفضل طريقة للتقرب من الله.
اهتمَ المسلمون بقراءة الصحيحَين – مسلم والبخاري -، فهما ثاني وثالث أصح الكتب على الإطلاق بعد القرآن الكريم، إذ يحتويان على جميع أبواب الحديث من عقائد وأحكام وآداب وتفسير وتاريخ ومناقب ورقاق وغيرها.
تعتبر قراءة صحيح البخاري بالقلعة من أهم المظاهر الرسمية لإحياء شهر رمضان زمن المماليك، ففي أيام السلطان شعبان الذي تولى حكم مصر سنة 764هـ/ 1363م، مثلًا، جرت العادة أن يبدأ أول أيام رمضان بقراءة البخاري بين يدي السلطان، وتحضر الموكب طائفة من القضاة والفقهاء.
بقي الأمر على هذا النحو حتى تقلُد المؤيد شيخ السلطة سنة 815هـ، حيث جعل قراءة البخاري بالقلعة تبدأ من أول شهر شعبان وتستمر حتى الـ27 من رمضان، وزاد السلطان شيخ على ذلك أن دعا لحضور المجلس جمعًا كبيرًا من مشايخ العلم والطلبة، حتى زاد عددهم سنة 819هـ على 60 فقيهًا “صرف لكل منهم ألف درهم فلوسًا”، على قول المقريزي.
كما هو الشأن بالنسبة إلى ختم القرآن، تنظم احتفالات أيضًا بمناسبة ختم صحيح البخاري، وذلك عادة في الثلث الأخير من شهر رمضان، إذ تنظم احتفالات كبيرة في القلعة، وترسَل الخلع إلى القضاة والعلماء والفقهاء، وتوزَع الأموال على الناس.
سهر حتى الفجر
اهتم الملوك والأمراء وعموم الناس بفعل الخيرات وتسابقوا للطاعات خلال رمضان الكريم، لكنهم لم يهملوا الاحتفالات أيضًا، فقد اعتبروا أيام رمضان ولياليه أعيادًا متصلة يحتفلون بها ويمجدونها ويحرصون على إضفاء هالة خاصة من الفرح والسرور عليها.
بعد الانتهاء من صلاة التراويح، ينتشر الناس في الشوارع ويُسمع دق الطبول، ويحمل الأطفال الفوانيس المختلفة الأشكال ويتسابقون في الشارع ويلعبون احتفاءً برمضان، الذي تصبح فيه الليالي أشبه بالنهار أو أشد نشاطًا.
كما تظل أبواب الدكاكين – لا سيما المخصصة للطعام والمطابخ – مفتوحة طوال ليالي شهر رمضان، فالسهر متواصل للساعات الأولى من الفجر، والكثير من الناس يختارون الأكل في الشارع صحبة أطفالهم ونسائهم.
هكذا احتفل المسلمون في عهد المماليك برمضان الكريم، فرغم كثرة الحروب واتسام عهدهم بالمؤامرات، حرص السلاطين المماليك على إحياء الشهر الفضيل وتعظيمه، رغبةً في الأجر والتقرب من الله وعباده.