خلال السنوات العشر الأولى من الرئاسة كان “صدام حسين” حليفًا للولايات المتحدة الأمريكية، تلقى دعمًا عسكريًا وسياسيًا كاملاً خلال حربه مع إيران وتلقى الأسلحة البيولوجية والكيماوية التي اُستخدمت ضد الإيرانيين، كما حصل على إعانات حربية في مجزرة حلبجة على الأكراد بالغاز الكيماوي عام 1988 وتلقى مساعدات لتطوير أسلحة الدمار الشامل، دعمت الولايات المتحدة صدام حسين ومولته وزودته بالأسلحة ولكن انقلبت ضده بعد أن بدأ يخرج عن السيطرة ولم يعد يخدم مصالح الإمبيريالية الأمريكية، واستغلت الحكومة الأمريكية لاحقًا كل الجرائم التي ارتكبها صدام حسين بموافقة ومعاونة منها لتأليب الرأي العام ضد العراق وتبرير جريمتين كانت لهما الأثر الكبير في تشكيل العراق الذي نراه اليوم.
ما جعل صدام حسين يتحول من حليف إلى عدو ديكتاتور يجب نزعه من السلطة هو غزوه للكويت، لأن ذلك لم يكن مدعومًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن صرح مستشار الأمن الوطني الأمريكي زبغنيو بريجنسكي “نحن لا نرى أي خلاف في المصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق”، في 1980 بينما كان صدام حسين يرتكب مجازر ضد الشيعة، صرح جورج بوش بعد 22 سنة أن صدام حسين “طاغية قاتل” يهدد أمن الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه “غير مستعد لوضع حياة أمريكي واحد على المحك بالثقة في صدام حسين” عندما أعلن صدام حسين أنه لا يملك أسلحة دمار شامل.
الجريمة الأولى .. العقوبات الاقتصادية:
بعد غزو صدام حسين للكويت عام 1990 فرض مجلس الأمن للأمم المتحدة عقوبات اقتصادية تمنع المعاملات المالية والرحلات العالمية والتبادل التجاري مع العراق، ولكن كان من المفهوم أن هذه العقوبات فُرضت بشكل أساسي من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وعندما رفض صدام حسين الانسحاب من الكويت بدأت قوات التحالف الأمريكية والبريطانية والفرنسية بالعدوان الجوي والأرضي الذي دفع الجيش العراقي للانسحاب.
اليورانيوم المنضب، الذي يعتبر من أسلحة الدمار الشامل، قد ثبت استخدامه من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا خلال العدوان على العراق والكويت، أُطلق أكثر من 300 طنًا وما زالت العراق تشهد الآثار التي خلفها هذا السلاح؛ تزايدت عدد حالات السرطان والتشوهات الخلقية وسرطان الدم وأورام الدماغ، وبسبب العقوبات المفروضة والتي بقيت حتى بعد انسحاب قوات العراق من دولة الكويت، مُنعت الأدوات والأجهزة اللازمة لإزالة التلوث الناتج عن اليورانيوم المنضب من دخول العراق، وما زاد الوضع سوءًا منع جميع أنواع الأدوية بحجة قابلية استخدامها لصنع أسلحة كيماوية، وهكذا ترك شعب العراق بأمراض مميتة دون علاج.
حتى الكتب والصحف مُنعت من دخول العراق، والأقلام لأن الجرافيت الموجود داخلها قد يستخدم في صنع مفاعلات نووية، لدولة معتمدة على النفط كمصدر دخل بشكل أساسي هذه العقوبات كانت مدمرة، تم منع الكلورين أيضًا، وبسبب ذلك كانت مياه المجاري تفرغ في نهر الفرات غير معالجة، الأمراض التي أُبيدت منذ 1970 مثل الكوليرا والتيفوئيد عادت مرة أخرى، وبالرغم من أن الغذاء والدواء لم يكونوا ضمن المواد الغير مسموح بإدخالها إلا أنه بسبب السيطرة التي تحظى بها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على مجلس الأمن للأمم المتحدة، مُنع الغذاء والدواء من دخول العراق، وفي خلال الأشهر الثمانية الأولى من العقوبات توفي 47.000 طفلاً تحت سن الخامسة، بحلول عام 1997 أصبح معدل الوفاة للشهر الواحد ما يقارب 7000 طفلاً بسبب الجوع والمرض، حسب إحصاءات الأمم المتحدة مات ما يجاوز المليون عراقيًا بسبب العقوبات.
برنامج “النفط مقابل الغذاء” الذي يسمح للعراق ببيع جزء بسيط من نفطها مقابل مال يذهب مباشرة إلى حساب يتحكم به مجلس الأمن للأمم المتحدة ومعظم هذا المال يتم دفعه لمصاريف الأمم المتحدة وإصلاحات الكويت، لم يكن كافيًا لتخفيف الأزمة، حسب ما أوضحه “هانس سبونيك” منسق الأمم المتحدة في العراق، أن البرنامج يسمح بمائة دولارًا فقط لكل عراقي ليعيش عليها سنة كاملة، وحتى بعد رفع العقوبات الاقتصادية فإن مجلس الأمن مازال يحتفظ بمبلغ 20 مليون دولارًا من عائدات النفظ حتى عام 2016 لتغطية نفقات الأنشطة المتعلقة بالبرنامج، كما يحق لمجلس الأمن الاحتفاظ بما يقارب 131 مليون دولار لتغطية نفقات ممثلي الأمم المتحدة ووكلائها العاملين على البرنامج.
“دينيس هاليداي” منسق الأمم المتحدة في العراق الذي قدم استقالته احتجاجًا على أثر العقوبات على الشعب العراقي، قال في أحد تصريحاته: “نحن نشن حربًا، من خلال الأمم المتحدة، على أطفال وشعب العراق، لقد أمرت أن أطبق سياسة أشبه ما تكون بالإبادة الجماعية، سياسة متعمدة قتلت أكثر من مليون شخصًا من الأطفال والبالغين”.
في عام 1991 أعلن مجلس الأمن للأمم المتحدة أن العقوبات سوف ترفع إذا تخلت العراق عن أسلحة الدمار الشامل وبرامج الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية، ووافقت على مراقبة من لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالعراق، في عام 1998 وافقت اللجنة أن جميع برامج أسلحة الدمار الشامل قد تم إتلافها.
الأثر المشين للعقوبات أوقع الشعب العراقي في فقر شديد ودمار شامل، بينما خرج نظام صدام حسين منها أفضل من قبل، حينما سُئلت “مادلين أولبرايت”، سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية للأمم المتحدة، إذا ما كان موت نصف مليون طفلاً عراقيًا ثمنًا يستحق دفعه لهذه العقوبات، أجابت: “نظن أن الثمن كان يستحق ذلك”.
الجريمة الثانية .. حرب العراق:
جريمة العقوبات الاقتصادية التي حطمت الشعب العراقي لم تنته إلا بعد بدء جريمة أخرى تضمن سحق العراق سياسيًا واقتصاديًا، غزو العراق كان ليضمن أن العراق لن تقف مجددًا، أن العراق ستظل خاضعة للولايات المتحدة الأمريكية.
أولاً كان الغزو بحجة أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل تهدد أمن أمريكا لأن هناك ما يربط صدام حسين بالقاعدة في تفجيرات 11 سبتمبر، عندما اتضح أن صدام حسين لا يمتلك أسلحة دمار شامل وأنه لا يوجد شيء يربطه بالقاعدة، تغيرت الحجة إلى كون صدام حسين ديكتاتور ظالم يجب إطاحته لتحرير شعب العراق من قبضته، وحتى ولو ثبتت الحجج السابقة فإنه كان بالإمكان تجنب الحرب واللجوء إلى حل سياسي آخر لا يتضمن الحرب مثل القرار الذي عرضته روسيا وفرنسا وألمانيا بوضع برنامج زمني لإزالة أسلحة العراق، وبالرغم من المعارضة العالمية لحرب العراق وعدم توفر أدلة كافية تدين العراق وتبرر الحرب عليها إلا أن أمريكا وبريطانيا شنتا الحرب على العراق.
قبل الغزو حذر الكثير من الخبراء أن الغزو سوف يثير الإرهاب، مجلة المخابرات العسكرية العالمية استنتجت أن “الحرب في العراق تهدد بإشعال اضطرابات وخلق تهديدات إرهابية جديدة”، وقد كانت هذه الاستنتاجات في محلها، ففي تقرير للأمم المتحدة زادت نسبة الانضمام للقاعدة في 30 إلى 40 دولة في الفترة التي بدأت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بالتجهيز للغزو، وأوضح خبراء الإرهاب بيتر بيرجن وبول كركشانك أن الإرهاب زاد 7 أضعاف في العراق بعد الغزو الأمريكي.
وخلال السبع سنوات التي حصل فيها الغزو، وجد الشعب العراقي نفسه مرة أخرى ضحية لسياسة أمريكا المتوحشة، في الشهر الأول من الغزو مات ما يقارب 364 عراقيًا في عدوان يومي موجه على مختلف أرجاء العراق من القوات الأمريكية والبريطانية، حسب ما أعلنته وكالة الاقتراع البريطانية OBR، وصلت نسبة ضحايا الحرب إلى 1.03 مليون شخصًا، بينما وضعت بعض الإحصائيات حصيلة الضحايا عند 500.000 شخصًا، ومهما كان العدد الحقيقي للضحايا فإنه يظل مرتفعًا بشكل مخيف، 5% من شعب العراق البالغ عددهم 27 مليون قد قُتل أو أُصيب أو شُرد، التربة الخصبة في العراق دُمرت وبشدة لدرجة أن هناك شكوكًا كثيرة إذا ما كانت التربة صالحة لزراعة أي شيء.
في شهر أبريل 2004، قام الجيش الأمريكي بهجوم على مدينة الفلوجة تم فيه تشريد معظم سكان المدينة البالغ عددهم 300.000 وتدمير معظم مباني المدينة، كما ثبت استخدام الفسفور الأبيض كسلاح من قبل الجيش الأمريكي، ومازال سكان مدينة الفلوجة يشهدون الآثار الخطيرة التي خلفها هذا السلاح الكيماوي القاتل، ومثل هذا تكرر على مدى سبع سنوات خلال حرب العراق.
المؤرخ الإخباري في العراق “نير روسن” وصف ما يحدث في العراق قائلاً: “العراق قتلت كي لا تعود مجددًا، الاحتلال الأمريكي كان مدمرًا أكثر من الاحتلال المنغولي في القرن الثالث عشر”.
ومع فراغ السلطة الذي نتج عن الغزو بدأت الميليشيات بالتكون وبدأت الصراعات الطائفية بالاشتعال ما بين السنة والشعية والأكراد، وما حصل من انقلاب كفة السلطة للشيعة على حساب السنة الذين كانوا مهيمنين على الوسط السياسي قبل الحرب أدى في النهاية إلى حرب أهلية تحارب بشكل أساسي بين السنة والشيعة في العراق، هذا بالإضافة إلى التطهير العرقي الذي تعرضت له بغداد وعدة مدن وقرى على يد قوات الاحتلال والميليشيات، ثم تبع كل ذلك زعزعة في المنطقة المحيطة بالعراق بأكملها.
وإذا ما لاحظنا الوضع الحالي للعراق مع ظهور تنظيم داعش على المنصة السياسية وما تبعه من مزيد من الانقسامات والصراعات، فإنه يمكن تتبع المصدر الأساسي للحال الذي وصلت إليه العراق إلى الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولكن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، السيطرة على ثاني أكبر مخزون للنفط في العالم كان يستحق هذا العناء، ويظهر هذا جليًا منذ بداية الحرب، حيث كان حماية الحقول والمنشآت النفطية ذي أهمية بالغة بينما تركت بنية العراق وآثارها للانهيار، إضافة إلى أن النفط العراقي أصبح في أيدي شركات غربية وأمريكية بالتحديد، وهذا ما نصت عليه المعاهدة العراقية – الأمريكية في 2007 التي تم التوقيع عليها لتضمن للجيش الأمريكي البقاء على أرض العراق مدة غير محدودة حتى ينتهي العدوان والإرهاب في العراق، وهو الأمر الذي يثير السخرية لأن العدوان والإرهاب في العراق لم يتشكل إلا على يد الجيش الأمريكي، كما نصت المعاهدة بشكل أهم على تشجيع الاستثمار الأجنبي وخصوصًا الاستثمار الأمريكي.
في الواقع، العراق قُتلت مرات كثيرة على يد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، صدام حسين كان ديكتاتورًا ولكن الرئيس الذي خلفه كان ديكتاتورًا آخر مدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، والعراق مازالت تعيش في ظل نظام استبدادي يحرم الشعب العراقي من أبسط حقوقه، ما يدعو للسخرية أن جورج بوش يصف العراق بالإنجاز العظيم، إذا كان بوش يقصد تخريب تراث مهد الحضارة وتحويلها إلى ملجأ للإرهاب، قتل أكثر من مليون شخص، وتشريد ملايين أخرى، وزعزعة منطقة بأكملها، فإذن .. نعم العراق كانت “إنجازًا عظيمًا”.