نختتم سلسلة التقارير التي تتحدث عن العرقيات التي تشكل المجتمع التركي اليوم، بالحديث عن عرقية اللاز التي قدمت شخصيات قيادية للجمهورية التركية، وأيضًا عن الأتراك الشراكسة الذين دفعتهم الظروف الجغرافية وقربهم من الدولة العثمانية وظروف الحرب والنفي والتهجير الذي مارسته روسيا بحقهم إلى الهجرة صوب الإمبراطورية العثمانية واستقرار أعداد كبيرة منهم في بلاد الأناضول.
من هم اللاز؟
هم المجموعة العرقية التي عاشت على سواحل البحر الأسود في تركيا وجورجيا، وأحد شعوب القوقاز، وقد بدأ الإسلام بالانتشار بينهم مع القرن السادس عشر.
يعيشون اليوم في تركيا في حوض البحر الأسود بمحافظتي ريزه وأرتفين، بينما استقر قسم منهم في أدابازاري وسبانجا ويالوفا وبورصة هربًا من الحرب الروسية العثمانية.
يوجد تفاوت كبير في تقديرات أعداد أقلية اللاز في تركيا، فبينما يذكر أحد منشورات مجلس الهجرة واللاجئين في كندا أن تعدادهم يتراوح بين 90 – 150 ألف، يتحدث 30 ألفًا منهم اللغة اللازية كلغتهم الأم، فإن الدليل العالمي للأقليات والشعوب الأصلية ذكر أنه وفقًا لتعداد عام 1965، كان عدد الأفراد الذين أعلنوا عن أنفسهم لازًا 250 ألفًا، ويقدر عددهم اليوم بما يتراوح بين 750.000 و1.5 مليون إنسان.
ويستخدم أتراك الأناضول مصلح “اللاز” للإشارة إلى سكان البحر الأسود، بينما يطلقه سكان البحر الأسود على المقيمين شرق البحر الأسود، أي أنه استخدم كإشارة إقليمية.
دخول اللاز تحت الحكم العثماني
عندما فتح السلطان محمد طرابزون عام 1461، انضم جزء من اللازيين للإمبراطورية العثمانية ودخلوا طوعًا في الإسلام خلال نصف قرن (من بداية القرن السادس عشر إلى أربعينيات القرن السادس عشر) واندمجوا بالثقافة العثمانية والإسلامية ودافعوا عن الدولة العثمانية ببسالة وهي في أكثر حالاتها ضعفًا، وسميت المنطقة من باطوم إلى طرابزون باسم “لازيستان سنجق” في جميع المصادر العثمانية.
النشاط الثقافي واللغة
تأسست أول جمعية للاز داخل الحدود التركية في نهاية الدولة العثمانية عام 1914، لكن لم تتمكن من الاستمرار فترة طويلة، ولم يكُ من السهل التحدث أو الكتابة باللغة الأم حتى عام 1991، وبعد نحو 80 عامًا من إعلان الجمهورية، تأسست أول جمعية لازية باسم “Laz Kültür Derneği” في إسطنبول.
يتركز نشاط أقلية اللاز في تركيا كوحدة عرقية على الأنشطة الثقافية والمجتمعية، إذ تحمل الجمعيات على عاتقها تعزيز ثراء اللغة والثقافة وحمايتها، فتتخذ إجراءات قانونية ضد الاستيلاء على الموروث الثقافي والفني لشعب اللاز مثل الأغاني والرقصات الشعبية والأدب الشعبي والآلات التقليدية التي هي ملك لثقافة اللاز.
“<a href=”https://www.noonpost.com/content/34989″>كاظم كوينجو: صوت اللاز الحر</a>”.. فنان تركي لازي نشر “نون بوست” تقريرًا عنه في وقت سابق
وبما أن ثقافة اللاز جزء من الجغرافيا الثقافية لمنطقة القوقاز والبحر الأسود، فإن الجمعيات تعمل على التعريف بثقافة القوقاز والبحر الأسود والترويج لها ومشاركة قيم القوقاز والبحر الأسود كقيم مشتركة الإنسانية مع بقية أفراد المجتمع.
كما تعمل وتصدر هذه الجمعيات منشوراتها باللغتين التركية واللازية في المجالات الفنية والثقافية مثل الموسيقى والمسرح والسينما والأدب.
صنفت اليونسكو اللغة اللازية كلغة مهددة بالانقراض، وحتى وقت قريب لم تكن لغة مكتوبة بل محكية فقط، وتأسست العديد من الجمعيات الثقافية للحفاظ عليها وإعادة نشرها بين جيل الشباب وتشجيع تعليمها للأطفال، فاللغة تحمل ثقافة الشعب وتاريخه وتحكي أصالته.
تعود أصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمدينة ريزة على شواطئ البحر الأسود، ويُنسب لعرقية اللاز، كما يحكي في هذا الفيديو
الأطباق التقليدية
غالبًا ما يتم الخلط بين مطبخ اللاز ومأكولات البحر الأسود، فمطبخ البحر الأسود يتضمن بعض أنواع المأكولات التركية التقليدية رغم أصالته، أما مطبخ اللاز فيهيمن عليه الملفوف الأسود وسمك الهمسي ومنتجات الألبان.
يشتهر اللاز بسمك الهمسي المعروف بحجمه الصغير وسعره الزهيد، ويصنعون منه أطباقًا عديدة، إذ يستهلك طازجًا في الشتاء في موسمه ويحفظونه للصيف بعد تنظيفه وتمليحه في أوعية فخارية.
ويصف اللاز العائلات التي لا تملك حظيرة للأبقار والماشية أسفل منازلها ببيوت جائعة، إذ يتناولون منتجات الحليب من الأجبان والألبان والعيران والزبدة يوميًا، ويفتقر المطبخ اللازي للحوم فهي ليست شائعة في وصفاتهم.
مقلاة سمك الهمسي، يقلى بالزيت بعد تنظيفه وتتبيله بالطحين والبهارات
الشراكسة
وإلى الشراكسة، وهم الشعوب الذين سكنوا شمال القوقاز، اعتنقوا الإسلام تأثرًا بالإمبراطورية العثمانية وتتار القرم، وبعد هزيمتهم على يد روسيا القيصرية عام 1864 تعرضوا شأنهم شأن بقية الشعوب المسلمة في القوقاز للتهجير والإبادة.
فقد نُفي مليون ونصف شركسي إلى مناطق سيطرة الإمبراطورية العثمانية، واستقر عدد كبير منهم داخل حدود الجمهورية التركية الحاليّة، ويعيش أغلبهم في مدينة قيصري.
ضم الجيش العثماني أعدادًا كبيرةً من الشراكسة في صفوفه وتقلدوا مناصب قيادية فيه، إذ اشتهر محاربوهم بالشجاعة وقدراتهم القتالية العالية، وكان لهم دور بارز في حروب البلقان وحرب الاستقلال.
الحياة الثقافية والسياسية
حافظ الشركس على عاداتهم وثقافتهم وتماسكهم المجتمعي، فيحيي شركس تركيا كل عام ذكرى تهجيرهم وينظمون لقاءات وتجمعات بهذه المناسبة تضم عددًا كبيرًا من أفراد هذا المجتمع من مختلف الولايات التركية.
في عام 2014 تأسس أول حزب سياسي – حزب الديمقراطية التعددية – لتمثيل الشركس الأتراك، ويمثل نقطة انطلاق مهمة للشركس للوجود في الساحة السياسية لأول مرة من خلال هوياتهم الخاصة، وأظهرت نتائج انتخابات 2015 أن الناخبين الشركس كان لهم تأثير حاسم في ولاية قيصري التي يعيشون فيها بأكبر كثافة سكانية.
ويحافظ الأتراك الشركس على العلاقات والروابط مع جميع الشراكس حول العالم لحماية ثقافتهم وموروثهم الفني، إذ يوجد في تركيا ما يقرب من 250 جمعية للحفاظ على تقاليدهم حية، تنضوي تحت اتحاد الجمعيات القوقازية KAFFED.
لم يعان الشركس في تركيا من سياسيات الاستيعاب أو الصهر القومي، ولم يضطروا لإخفاء هويتهم العرقية، وبحسب تقرير أعدته وكالة الأناضول قال جمال قره داغ، مختار حي أرطغرل في مدينة قونية، الذي يعيش فيه اليوم نحو 120 عائلة تركية من أصول شركسية:
“لطالما عُومل الشركس كأشخاص من الدرجة الأولى في تركيا، وينظر إليهم وإلى عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم بعين الاحترام داخل المجتمع والدولة. تمكنا من الدراسة في جميع ومختلف المدارس بالطريقة التي أردناها، حصلنا على مختلف الوظائف في جميع قطاعات الدولة، إن لم أقل أرفعها. لم يقم أحد بتقييد تطورنا وتقدمنا في الدولة والمجتمع”.
افتتحت جمعية إسكي شهير للثقافة والتضامن في شمال القوقاز “النصب التذكاري للإبادة الجماعية والمنفى الشركسي في 21 مايو/أيار 1864”
وفي السنوات العشرين الماضية وفي ظل انفتاح الحكومة التركية على منح مساحات أوسع للأقليات الموجودة على أراضيها، بدأ بث مواد باللغة الشركسية على قنوات TRT ودخلت اللغات القوقازية كدورات اختيارية في المدارس، إضافة إلى افتتاح أقسام اللغات والثقافات القوقازية في عدة جامعات.
في نهاية هذا الملف الذي تناول عدة أعراق تعيش ضمن أراضي الجمهورية التركية، تتفاوت من حيث اندماج أفرادها مع بقية العرقيات ومن حيث تقبل الأغلبية لها، يمكن القول إنه من الممكن تحقيق مصالحة ديمقراطية عميقة الجذور ودائمة في العلاقات بين الأغلبية والأقلية والدولة من خلال المصالحة ذات الاتجاهين؛ أي من خلال سياسات حكومية تحمي الهويات الفرعية للأقليات وتضمن في الوقت نفسه اندماجهم في الهوية العليا.