من لم يمر بمخيم فلسطيني يومًا؟
في البدايات، تشكلت المخيمات من خيام قماشية مؤقتة متناثرة، ومع الوقت تحوّلت إلى بيوت متلاصقة ضيقة وصغيرة، لا تتعدى الطابقين، سقفها من “الزينجو” أو “الكرميد” المرقع، وأزقتها ضيقة بالكاد تتسع لشخص واحد للمشي فيها عرض الشارع.
ورغم تبدل حال المخيمات وصار بها بناء حديث، فإن ما بداخلها من ذكريات محفورة في الذاكرة لا تزال كما هي في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، أما جدرانها فتحكي وجع النكبة الممتد منذ أكثر من سبعة عقود، منقوش عليها عبارات ثورية تختصر الحكاية الفلسطينية منذ بدايتها، وكلما محيت يعيد ساكنو المخيم كتابتها كأنها إرث يتناقله الأجيال حتى العودة.
وكما أن المخيمات الفلسطينية لعيش اللاجئين الذين رحلوا من بيوتهم قسرًا وقت هجرة 1948، فهي مأوى للثوار أيضًا، فقد كانت دومًا حاضنة للثورة والعمل المقاوم، وتنطلق منها شرارة المواجهات مع الاحتلال كما جرى في مخيم جباليا الواقع شمال قطاع غزة، حين اندلعت منه الانتفاضة الأولى عام 1987، واليوم كما يجري في مخيم جنين بالضفة المحتلة.
ومع أن المخيمات بمظهرها الخارجي تبدو بؤرًا للفقر، فإنها شكلت في الوقت نفسه بؤر ثورة وتمرد على الواقع، وأصبحت نماذج لكرامة الإنسان الفلسطيني وحرصه على هويته ورفضه للتوطين وتمسكه بحق العودة.
أفرزت النكبة نحو 64 مخيمًا فلسطينيًا، 58 منها مسجلة رسميًا لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، تتوزع كالتالي: 19 مخيمًا في الضفة الغربية و8 مخيمات في قطاع غزة و10 في الأردن و9 في سوريا و12 في لبنان.
بداية الهجرة واللجوء إلى المخيمات
في بدايات الهجرة، رفض الفلسطينيون تحويل الخيام التي سكنوها إلى أبنية، غير أن طول المعاناة اضطرهم للتكيف مع أوضاعهم، فاتخذت المخيمات شكل أبنية بسيطة مكتظة، تفتقر للتنظيم المدني والبنى التحتية والخدمات.
ومع مرور السنوات، بات غالبية من سكنوا المخيمات في وضع اقتصادي أفضل، لكنهم يرفضون العيش خارج المخيم، فوجودهم يعد إعلان وجود تاريخي وحقوقي وأنهم لن يخرجوا إلا لبيوتهم التي استولت عليها “إسرائيل”.
سريعًا انخرط شباب المخيمات في مسيرة المقاومة، لإسقاط البرنامج الاحتلالي الهادف لإذابة الهوية الوطنية وإجبار الفلسطينيين على قبول الأمر الواقع، خاصة أن نسبة من هم دون سن الرابعة عشر بلغت 46% من سكان الضفة الغربية، فيما وصلت النسبة في قطاع غزة إلى 47%.
تسعى حكومات الاحتلال المتتالية للتأثير على الأمم المتحدة لإلغاء قرار 194 الذي يقر بـ”وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم”
الدور الذي اضطلع به شبان مخيمات اللاجئين يعود للنسبة التي يشكلونها في مرحلة الانتفاضة الأولى 1987، وهي 60% من عدد السكان الذين ولدوا في ظل الاحتلال وسياساته القمعية، واستيقظوا على محاولات طمس وتبديد الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني وتضييق الخناق على حرية الرأي والتفكير والإبداع ومحاولات تزوير الثقافة والتراث الوطني.
وطيلة سنوات الصراع المستمرة، والمخيمات الفلسطينية تشكل هاجسًا كبيرًا للاحتلال، لذا أعد الخطط والمشاريع لتذويب قضية اللاجئين في أماكن وجودهم والضغط لإنهاء دور وكالة الغوث (الأونروا) كون عقلية الاحتلال تعتقد بأنه عند تحسن أوضاع المخيمات وإلغاء دور الأونروا، سيصبح اللاجئون الفلسطينيون غير مطالبين بالعودة وتفرض عليهم الدولة المقيمين فيها مواطنة دائمة.
منذ 75 عامًا لا يزال اللاجئ يتمسك بالمخيم ويرفض مغادرته، فهو مستعد لبناء عمارة دون مغادرة المكان، وهناك قيادات لا تزال تسكن المخيمات ومنها إسماعيل هنية
كما تسعى حكومات الاحتلال المتتالية للتأثير على الأمم المتحدة لإلغاء قرار 194 الذي يقر بـ”وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقًا لمبادئ القانون الدولي والعدالة”.
وتشن “إسرائيل” بشكل مستمر حملة إعلامية دعائية سياسية تحريضية لتجفيف المصادر المالية المانحة لوكالة الغوث وإقناع المجتمع الدولي بإعادة تعريف اللاجئ، والاكتفاء بأن اللاجئ هو الذي غادر فلسطين عام 1948، وضرورة وقف عملية “توريث مسمى لاجئ” للذين ولدوا لأبوين لاجئين، إذ لا يعدون لاجئين ولا تشملهم العملية التفاوضية ولا ينطبق عليهم القرار 194.
كما تطلق حملة تحريضية أخرى تتهم فيها “الأونروا” بدعم الإرهاب، وتدعي أن مدارس في غزة تحولت إلى مخازن للأسلحة، والمخيمات تحولت إلى بؤر لتصدير العنف.
الارتباط ومحاولات تفريغ المخيمات
يؤكد عصام عدوان المختص في شؤون اللاجئين أن المخيمات الفلسطينية الأكثر حضورًا في المشهد المقاوم، لشعور اللاجئ أنه الأكثر مساسًا بالقضية وهو المتضرر الأول، بالإضافة إلى التكدس السكاني الكبير في المخيمات وهو سبب آخر.
ولفت عدوان في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن دواعي الفقر والبطالة المرتبطة بحياة المخيمات عامل محفز إضافي لانخراطهم في العمل المقاوم، ما يولد لديهم شعور التصدي للاحتلال ومقاومته.
وأوضح أنه منذ 75 عامًا لا يزال اللاجئ يتمسك بالمخيم ويرفض مغادرته، فهو مستعد لبناء عمارة دون مغادرة المكان، وهناك قيادات لا تزال تسكن المخيمات ومنها إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية العاشرة سابقًا ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس اليوم، فبيته لا يزال في مخيم الشاطئ بمدينة غزة.
أسباب سعي “إسرائيل” لتفريغ المخيمات من ساكنيها أنها تدل على النكبة وتحفز أصحابها على العمل المقاوم من أجل العودة
وفي سؤال عن مساعي “إسرائيل” لتفريغ المخيمات من اللاجئين، أجاب عدوان أنه منذ أوائل السبعينيات يفكر الاحتلال بتدمير المخيمات في غزة والضفة بحجة توسعة الشوارع، وتحقق ذلك بالفعل، فقد هدم مئات البيوت وفر ساكنوها خارج المخيم.
وذكر أن الاحتلال شارك في عمليات نقل أهالي المخيمات عبر إغرائهم ببيوت مستقلة بخدمات كاملة، ومنهم من استجاب وخرج بسبب الاكتظاظ السكاني، وذلك ضمن المخططات التي فعلها الاحتلال لتفريغ اللاجئين من المخيمات حين أنشأ أحياءً جديدةً في قطاع غزة كحي الشيخ رضوان عام 1967 وبدأ يشجع الناس بالتعاون مع الأونروا ورفع شعار “سلم بيتك في المخيم واستلم بدلًا منه على شارع مرصوف ومبنى من الباطون”، وبحسب متابعته فإن هناك عائلات دفعتهم الحاجة للاستجابة والخروج، لكن أكثرهم عادوا للمخيم.
ويشير عدوان إلى أن أسباب سعي “إسرائيل” لتفريغ المخيمات من ساكنيها أنها تدل على النكبة وتحفز أصحابها على العمل المقاوم من أجل العودة، بالإضافة إلى سبب آخر يتعلق بالناحية العسكرية حيث يصعب على الجنود اقتحام المخيم وملاحقة الثوار لضيق أزقته.
أبرز مخيمات اللجوء في فلسطين وخارجها
لم تقتصر المخيمات الفلسطينية على الضفة المحتلة وقطاع غزة، فهناك في الأردن ولبنان وسوريا فلسطينيون يعيشون في مخيمات لكل منها ظروفها الخاصة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية.
ففي قطاع غزة 8 مخيمات لم تتغير ملامحها رغم مرور عقود على إنشائها، فهي تحمل ذات الطابع، حتى إن عائلات بعينها تسكنها منذ النكبة كما في مخيم النصيرات والشاطئ وجباليا والمغازي وخانيونس ورفح والبريج ودير البلح.
أما الظروف المعيشية في مخيمات غزة كما هو حال سكان غزة صعبة، بفعل الحصار المفروض منذ أكثر من 15 عامًا، عدا عن تقليص الأونروا لحجم المساعدات الإغاثية التي تمنحها لكل أسرة.
كما أن البنية التحتية لمخيمات قطاع غزة سيئة ورديئة وبحاجة لصيانة عاجلة، لكن وكالة الغوث تماطل عند أي إصلاح جديد وتتحجج دومًا بتقليص ميزانيتها.
أما في الضفة المحتلة، تشير سجلات دائرة الإحصاء الفلسطيني أن عدد اللاجئين في الضفة الغربية بلغ 800 ألف لاجئ فلسطيني يعيش جزء منهم في مخيمات الضفة الغربية البالغ عددها 19 مخيمًا وفق الأونروا، وهي: الأمعري، الجلزون، الدهيشة، العروب، الفارعة، الفوار، بلاطه، بيت جبرين، جنين، دير عمار، رقم واحد، شعفاط (عناتا)، طولكرم، عايدة، عسكر، عقبة جبر، عين السلطان، قلنديا، للاجئين نور شمس.
ولا تدير الأونروا أو تراقب الأمن في هذه المخيمات، إذ تقع المسؤولية في ذلك على عاتق السلطة الفلسطينية.
يُشّكل اللاجئون الفلسطينيون ما نسبته عُشر سكان لبنان الذين تقدر أعدادهم بنحو 4.7 مليون نسمة
وفي سوريا، يبرز مخيم اليرموك في ضواحي دمشق كأحد أعظم النكبات التي أصابت المخيمات الفلسطينية طوال تاريخها، ويعد أحد أكبر مخيمات الشتات الفلسطيني، وكان يقيم فيه نحو 144 ألفًا وفق تقديرات الأونروا، ولم يعد يقيم فيه إلا بضعة آلاف (ثلاثة آلاف فقط وفق مختصين).
عانى أبناء هذا المخيم بشكل هائل نتيجة الصراع الداخلي في سوريا، ووُضعوا أمام استحقاقات صعبة بسبب حالة الاستقطاب بين النظام السوري وحلفائه وفصائل المعارضة بكل أشكالها، وكذلك بين القوى الفلسطينية المختلفة.
وفي أجواء الصراع في سوريا، نُكِبت المخيمات الأخرى في سوريا أيضًا بدرجات متفاوتة، فمثلًا تعرض مخيم درعا لتدمير 70% من مبانيه، كما تعرضت مخيمات الرمل وعين التل لعمليات تهجير ومنع عودة.
ونتيجة للأوضاع في سوريا فمن بين نحو 600 ألف فلسطيني اضطر 175 ألف فلسطيني للهجرة خارج سوريا، كما اضطر نحو 225 ألفًا للجوء إلى مناطق أكثر آمانًا داخل سوريا نفسها.
وفي لبنان يقّدر عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بأكثر 463 ألف نسمة وفق إحصاءات الأونروا للعام 2017، والعدد الأكبر منهم يعيش داخل المخيمات والتجمعات من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في لبنان.
ويشكل اللاجئون الفلسطينيون ما نسبته عُشر سكان لبنان الذين تقدر أعدادهم بنحو 4.7 مليون نسمة، ويُذكر أن اللاجئين في لبنان يسجّلون أعلى نسبة للاجئين من فئة الحالات الصعبة بين اللاجئين في الدول المضيفة.
رغم قسوة الحياة داخل المخيمات الفلسطينية من الناحية الاقتصادية واستهداف الاحتلال لها بشكل مباشر، إلا أن ساكنيها من المهجرين قسرًا يعدونها هويتهم الوطنية، فمغادرتهم المكان باتت تعني لهم تخليهم عن حق العودة
ويقيم اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات التالية: الرشيدية، برج الشمالي، البص، عين الحلوة، المية ومية، برج البراجنة، شاتيلا، مار إلياس، ضبية، ويفل (الجليل)، البداوي، ونهر البارد، فيما يقيم بقية اللاجئين في المدن والقرى اللبنانية، إضافة إلى تجمعات سكنية جديدة نشأت بسبب تطورات الأوضاع في لبنان.
بينما الأردن كانت له حصة الأسد في استقبال وضيافة اللاجئين الفلسطينيين، فقد بلغ عددهم وفق تقديرات الأونروا 2.6 مليون لاجئ ولاجئة وذلك عام 2017.
كما تشير التقديرات إلى وجود مليون ونصف المليون لاجئٍ تقريبًا غير مسجلين، يعيش منهم في المخيمات، وهم نحو 298 ألف لاجئ ولاجئة، فضلاً عن آلاف الذين نزحوا إلى الأردن من أبناء قطاع غزة التي تقدر إحصاءات غير رسمية أعدادهم بنحو 200 ألف يعيشون في مناطق المملكة المختلفة، منهم 25 ألفًا يقطنون مخيم غزة هاشم بالقرب من مدينة جرش.
وبالتالي، فإن قسمًا كبيرًا من اللاجئين واللاجئين النازحين والنازحين يقيمون في 13 مخيمًا رسميًا مسجلاً لدى الجهات المعنية (الأونروا ودوائر الشؤون الفلسطينية)، فضلًا عن عدد من المخيمات والتجمعات غير الرسمية أو غير المصنفة منها مخيمات الشلالة والسخنة زمأدبا والأمير حسن، وغيرها، ويتقاسم إدارة شؤون اللاجئين في الأردن كل من وكالة غوث ودائرة الشؤون الفلسطينية.
ورغم قسوة الحياة داخل المخيمات الفلسطينية من الناحية الاقتصادية واستهداف الاحتلال لها بشكل مباشر، إلا أن ساكنيها من المهجرين قسرًا يعدونها هويتهم الوطنية، فمغادرتهم المكان باتت تعني لهم تخليهم عن حق العودة.