تشهد الأعمال الدرامية التاريخية في العادة سجالًا بين داعم ومعارض في ضوء حزمة من المرتكزات التي يستند إليها كل فريق لإثبات صحة وجهة نظره، خاصة فيما يتعلق بإشكالية الخلط بين الدراما والتوثيق، إذ إن معضلة هذا النوع من الدراما هو المزاجية والشخصنة، وفي الغالب تكون مثل تلك المعارك متوازنة إلى حد كبير في ظل عدم التطرف في دعم أي من الرؤيتين.
غير أن الموقف يختلف بشكل واضح مع مسلسل “رسالة الإمام” المعروض حاليًا على الفضائيات المصرية والذي يتطرق إلى السنوات الست الأخيرة من حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي (767-820م) التي قضاها في مصر، تركيزًا على تأثره بالحضارة المصرية وسماتها وطقوسها.
العمل منذ الحلقة الأولى له لاقى تفاعلًا كبيرًا، وأثار ردود أفعال متباينة بين مؤيد يراه أحد الأعمال التاريخية العملاقة في تاريخ الدراما المصرية وعودة قوية للدراما التاريخية في مصر بعد سنوات من الغياب، وآخر يعتبره مشوهًا وفقيرًا لما تضمنه من أخطاء أخرجته من سياقه التاريخي إلى عمل خيالي من بنات أفكار المؤلف.
وبين هذا وذاك نشبت معركة حامية الوطيس على منصات التواصل الاجتماعي، لكنها معركة غير متكافئة، إذ إن أحد أطرافها جهاز المخابرات المصرية وأذرعه الإعلامية المتعددة ممثلًا في الشركة المنتجة للعمل “سعدي جوهر – Media Hub” التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المملوكة لأحد الأجهزة السيادية في مصر، وأضفى غياب التكافؤ هذا زخمًا أكبر على تلك المعركة التي يبدو أنها لن تنتهي حتى بنهاية عرض العمل، لتظل أزمة الدراما التاريخية في مصر قائمة حتى إشعار آخر.
وتضيقُ دنيانـا فنَحسبُ أنّنا؛
سنموتُ يأساً أو نموتُ نحيبا
وإذا بلُطفِ الله يَهطلُ فجــأةً
يُرْبِي من اليَبَسِ الفُتاتِ قلوبا.. ♥️#رسالة_الإمام pic.twitter.com/OZR9nGxzHi
— ????? (@AlaaSob35242197) March 23, 2023
أخطاء بالجملة
واجه العمل حتى الحلقة التاسعة من عرضه قرابة 5 أخطاء رئيسية، تنوعت بين التاريخي والحقوقي والفني واللغوي، كانت كفيلة بتعرضه لانتقادات لاذعة، قادت في النهاية إلى اعتزام البعض رفع دعوى قضائية على صناع المسلسل للمطالبة بالتعويض كما هو حال الشاعر السوري حذيفة العرجي الذي اتهم العمل بسرقة مجموعة من أبياته الشعرية التي كتبها قبل 10 سنوات ونسبها للإمام الشافعي.
وعلى صفحته على فيس بوك كتب الشاعر السوري الأربعاء 29 مارس/آذار 2023 يقول “أبدأ بعون الله وإذنه وبعد استشارة الأصدقاء ومن أثق برجاحة عقولهم من أهل الأدب والفكر، أبدأ التحرك في عمل وكالة لمكتب (دار القانون – مدينة نصر) ممثلاً بالمحامي جمال عبد الحميد، لرفع دعوى تعويض عن حقوقي الأدبية والنفسية في المحكمة الاقتصادية المصرية، ضد صناع مسلسل رسالة الإمام”.
ويؤكد العرجي أن الأبيات التي جاءت على لسان بطل العمل (خالد النبوي) الذي يجسد دور الشافعي وهي “وتضيقُ دُنيانا فنحسَبُ أنَّنا.. سنموتُ يأساً أو نَموت نَحيبا، وإذا بلُطفِ اللهِ يَهطُلُ فجأةً.. يُربي منَ اليَبَسِ الفُتاتِ قلوبا”، هي أبيات له وليست للشافعي كما يقول العمل، وقد كتبها على فيس بوك عام 2013.
وهناك أخطاء تاريخية تضمنها العمل وشكك فيها البعض، مثل الحوار الذي دار بين الشافعي والخليفة العباسي المأمون في قصر الخليفة، وهو الحوار الذي لم يثبت صحته تاريخيًا، إذ إن الشافعي لم يقابل المأمون في حياته، كما أشار المحاضر والباحث في اللغة العربية في جامعة بيرن بألمانيا، أشرف حسن الذي غرد يقول “في مسلسل رسالة الإمام نرى حوارًا في قصر الخليفة العباسي، الذي يفترض أن يكون المأمون، مع الإمام الشافعي سنة 198، ويتكلمان فيه عن (خلق القرآن)” وأضاف: “حقيقة 1: الخليفة المأمون دخل بغداد سنة 204 هـ، رغم توليه الخلافة سنة 198. حقيقة 2: الخليفة المأمون اعتنق القول بـ(خلق القرآن) سنة 212 هـ، وبعدها بدأ ما عرف بـ(فتنة خلق القرآن) أو (المحنة). حقيقة 3: الإمام الشافعي توفي سنة 204 هـ في مصر، والإمام الشافعي لم يقابل المأمون”.
ومن الأخطاء التي اعتادت عليها الدراما المصرية إضفاء بعض الأحداث من وحي وخيال المؤلف لتعزيز معاني الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين ولو على حساب الحقيقة، وهو الخطأ المتكرر، وقد وقع العمل في هذا الخطأ حين عرض الشافعي زوجته المريضة على راهب قبطي لمداواتها، وهو ما يتعارض مع علم الإمام بالطب والذي كان يؤهله لمداواة زوجته بنفسه، بجانب صعوبة وربما استحالة عرض امرأة – في ذلك الوقت – على طبيب دون طبيبة، ناهيك عن كونه غير مسلم.
التجاوزت تطرقت إلى أخطاء في أحكام العبادات وهي التي من الصعب أن يقع فيها شخص بحجم الشافعي بكل ما لديه من علم ودراية بأمور الفقه، مثل صلاته للفجر دون أن يصلي السنة، واستشهاده بحديث للنبي صلى عليه وسلم يقول فيه “رَكْعتا الفجْرِ خيْرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها”، حيث يفسر الإمام الحديث – بحسب العمل – على أن المقصود بالركعتين هنا فريضة الفجر رغم أن المقصود بهما بإجماع الأئمة صلاة السنة.
المسلسل عكف على كتابته فريق عمل متكامل مكون من 7 مؤلفين
اللغة المستخدمة في العمل كان مثار انتقاد لاذع من المتخصصين في علوم لغة القرآن والباحثين التاريخيين، فما عُرف عن الشافعي ولا أهل مصر في ذلك الوقت أن تحدثوا باللغة العامية الدارجة، بل كانت الفصحى هي اللهجة المعتمدة لدى الجميع آنذاك، وهو ما وضحه الكاتب والمتخصص في التاريخ القديم، محمود سالم الجندي، الذي كشف عبر تدوينات له على حسابه على تويتر: “كان في مصر مجموعتين من اللغات لا ثالث لهما ليس من بينها ما يعرف اليوم (باللهجة أو العامية المصرية)” مضيفًا : “هي اللغة العربية الصرفة أو ما يطلق عليها “العربية الفصحى وكانت منتشرة في المناطق التي سكنتها القبائل العربية بعد الفتح مثل بلبيس وغيرها من مدن وقري الدلتا وكذا بعض المناطق في الصعيد، وأهمها الفسطاط حاضرة القطر المصري وأخواتها. وفي هذه المناطق تكلم الناس كما قلنا بلغة القرآن وبشكل أصيل دون شوائب”.
وتابع: “أما المجموعة الثانية من اللغات فهي اليونانية واللاتينية.. وهي لغات الدول السابقة على الفتح والتي انتشرت في المدن الإغريقية في مصر مثل الإسكندرية في الشمال وبطلمية في الجنوب. وكانت لغة الأقباط التي مزجوها ببعض المفردات المصرية القديمة، ثم بقايا لغات ولهجات مصرية قديمة كان يتكلم بها المصريون الذين عاشوا في قرى ونجوع وأقاليم مصر بعيدًا عن مدن الأقباط النصارى ومدن العرب المسلمين”.
وشدد الباحث التاريخي “اللهجة أو العامية المصرية لم تبدأ في الظهور والانتشار إلا بعد فترة طويلة من الفتح الإسلامي لمصر خاصة مع انتشار الإسلام فيها عام 400 هجريًا” مؤكدًا أن الناس في مصر استمروا في كلامهم بالفصحى (بجانب اليونانية واللاتينية) دون غيرها لما بعد موت الشافعي، وتابع “حتى إن المأمون لما جاء إلى مصر من أشهر ما يروى عنه أنه كان يمشي في الأسواق بصحبة المترجمين وكذا كان يستقبل الأعيان ومعه أكثر من مترجم”.
المثير للانتباه هنا أن هذا المسلسل عكف على كتابته فريق عمل متكامل مكون من 7 مؤلفين (4 مصريين و3 سوريين)، بإشراف الكاتب المصري محمد هشام عبية، واستند في كتابته – بحسب تتر العمل – إلى العديد من الكتب والمصادر التاريخية، فضلًا عما قيل بشأن مراجعة لجنة من الأزهر له، فكيف رغم كل ذلك يقع في تلك الأخطاء؟
أبدأ بعون الله وإذنه وبعد استشارة الأصدقاء ومن أثق برجاحة عقولهم من أهل الأدب والفكر، أبدأ التحرك في عمل وكالة لمكتب ( دار القانون – مدينة نصر ) ممثلاً بالمحامي جمل عبدالحميد، لرفع ( دعوى تعويض ) عن حقوقي الأدبية والنفسية في المحكمة الاقتصادية المصرية، ضد صناع مسلسل #رسالة_الإمام
— حذيفة العرجي (@al_arje) March 28, 2023
استماتة في الدفاع
وعلى الجانب الأخر، هناك فريق يتعامل مع العمل على أنه عودة قوية للدراما التاريخية المصرية الغائبة عن الساحة منذ سنوات، وأنه علامة فارقة في مسيرة الدراما المصرية في مجملها، وروج لهذا الطرح حالة الاحتفاء التي قوبل بها العمل خاصة أداء خالد النبوي وارتجاله للأبيات الشعرية المنتقاة والتي انتشرت بسرعة كبيرة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
أصحاب هذا الرأي يسدون آذانهم عن أي انتقادات توجه للمسلسل، حتى الأخطاء الموثقة يتجاهلونها بشكل يعكس إصرارهم على إنجاح العمل بشتى السبل، فهم المؤمنين بأن الإيجابيات التي قدمها هذا العمل الضخم تغفر له أي أخطاء هامشية يمكن أن يقع فيها أي كاتب أو مخرج.
عدد قليل من هذا الفريق أراد الاشتباك مع سهام النقد الموجهة للعمل لكن من منطقة الدفاع المستميت وليس الاعتراف بالخطأ، كأن شككوا في ملكية الشاعر السوري لتلك الأبيات المزعومة، بدعوى أنه لم يضمها إلى أي كتاب أو مطبوعة له منذ 2013 كما يقول، هذا بجانب أن بعض وسائل الإعلام الأخرى نسبتها للشافعي دون أن يعترض أحد، وهي الدعاوى التي رد عليها العرجي بإعلانه التحدي أن يثبت أحد تناقل تلك الأبيات قبل تاريخ نشره لها قبل 10 سنوات.
وقد دفعت الانتقادات الموجهة للعمل المدقق والمراجع اللغوي للمسلسل أحمد عمار لإصدار بيان يتبرأ فيه من هذا الخطأ واصفًا إياه بالفضيحة، وقال: “بكل وضوح، أعتذر عن هذا الخطأ الكبير بقدر كبره، على رغم أني لست المسؤول الأول على الأقل عنه”، معربًا عن أسفه لانتشار العامية كلهجة متداولة على ألسنة أبطال العمل.
أما الشركة المنتجة للعمل، فالتزمت الصمت، لكن شدة أمواج الهجوم المتلاطمة، والانتقادات الحادة الموثق بعضها، أجبرها على إصدار تنويه بداية من الحلقة السادسة تقول فيه “المسلسل رؤية درامية مستوحاة من أحداث تاريخية وبعض أحداث وشخصيات العمل من وحي خيال المؤلف للضرورة الدرامية”، في محاولة لتبرأة ساحتها من تشويه التاريخ المتعمد لتخرج العمل من سياقه التاريخي البحت كما كان يروج أنصاره وداعموه إلى الدرامي المطعم بالخيال.
بقالي فترة كبيرة مشوفتش مسلسل ديني معمول بقوة زي رسالة الإمام، خالد النبوي بيمثل بدون تكلف وبهدوء وبإتقان تام للشخصية أتمني الجمال ده يستمر لنهاية المسلسل ❤❤ pic.twitter.com/0DPxCzieOo
— Yehya Rashad (@YShuqairy) March 25, 2023
فخ التسييس
المعركة تحولت من سجال فني تاريخي إلى صدام سياسي، إذ جيّش الإعلام الداعم والمدعوم من النظام كافة لجانه الإلكترونية للتمجيد في العمل وتسليط الضوء عليه بشكل مبالغ فيه، فيما حوت العبارات المستخدمة والصياغات الخاصة بالمواد الصحفية التي تطرقت للعمل معاني ودلالات أخرجته من سياقه الفني إلى السياسي، ووصل حد اتهام منتقديه بالانتماء للجماعات الإرهابية والأشرار.
ونظرًا لأن الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المملوكة للمخابرات هي المنتج الرئيسي لهذا العمل، كان زخم المعركة أكثر سخونة بين الطرفين، لتنتفي معايير التقييم الموضوعية (سيناريو – قصة – إخراج – الاستيثاقية التاريخية) وتظهر معها معايير أخرى تتعلق بسمعة الوطن وصورته الخارجية، فالداعمون للعمل هم الوطنيون حقًا وما سواهم أقل وطنية.
وهاهو الداعية خالد الجندي يتهم منتقدي العمل بأنهم من المحسوبين على التيارين الإخواني والسلفي وأن هدفهم النيل من الجهات التي راجعت العمل، مضيفًا “إن عملًا دراميًا محبوكًا يتناول سيرة الإمام الشافعي يمثل لهؤلاء أزمة كبيرة، ومن المعروف أن مشيخة الأزهر الشريف تراجع من خلال علمائها الجوانب الفقهية في المسلسل الذي يتناول السنوات التي قضاها الإمام في مصر”.
أما المخرج عمرو سلامة فشن هجومًا على المتحفظين على العمل، مغردًا على حسابه على تويتر قائلًا: “المتفرج العربي ديكتاتور مصغر، رقيب مصغر، كل فرد أو فئة مؤمنة أن من حقها تحكم على باقي البشر وتتحكم في يشوفوا إيه ومايشوفوش إيه”.
في المجمل.. ورغم كل تلك الأخطاء التي تضمنها مسلسل “رسالة الإمام” والانتقادات التي تعرض لها، وبعيدًا عن الحرب المستعرة على منصات التواصل الاجتماعي، إلا أنه يمثل خطوة في طريق عودة الدراما التاريخية الغائبة عن مصر منذ سنوات، لكنها العودة التي لا تؤهل لاستعادة الريادة مرة أخرى كما يمني البعض نفسه.