تقف تركيا اليوم على أعتاب انتخابات حاسمة ستكون من بين أكثر الانتخابات أهمية للشعب التركي لما لها من قيمة رمزية كبيرة، إذ ستجري في بداية المئوية الثانية للجمهورية التركية، وستحدد القائد الذي سينقل تركيا إلى القرن المقبل.
اختيار الرئيس رجب طيب أردوغان 14 من مايو/أيار موعدًا لإجراء الانتخابات المقبلة لم يأت من فراغ أو مصادفة، بل هو اليوم الذي أنهى فيه الحزب الديموقراطي بقيادة عدنان مندريس بالتصويت الشعبي عام 1950 فترة الحزب الواحد الذي سيطر على الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923.
هذه الانتخابات ستكون على نفس القدر من الأهمية بالنسبة للعديد من الملفات الإقليمية والدولية التي لعبت فيها تركيا دورًا نشطًا خلال السنوات الماضية.
وزن جيوسياسي لا يمكن تجاهله
أثبتت الحرب الروسية على أوكرانيا من جديد أهمية الموقع الجيوسياسي لتركيا، خاصةً لحلف الناتو، لذلك لا غرابة أن نرى الأوروبيين والروس والأوكرانيين والأمريكيين، يراقبون عن كثب النتائج التي ستتمخض عنها هذه الانتخابات وتداعياتها المستقبلية على العديد من الملفات الحساسة التي تنخرط فيها تركيا.
ويعكس ذلك اهتمام الصحف الأمريكية والغربية البارزة، التي سارعت إلى إنشاء مساحات وزوايا مخصصة لتحليلات عن الانتخابات المقبلة، القاسم المشترك بين أغلب هذه التحليلات هو الهجوم على النظام الرئاسي في تركيا – وهو ما تتبناه المعارضة التركية أيضًا – وتآكل دور المؤسسات، وانتقاد سياسات الرئيس أردوغان تجاه الغرب ووصفه بـ”الديكتاتور”، واتهامه بتحويل تركيا إلى دولة إسلامية واستبدادية، إضافة إلى غياب حرية الصحافة والمجتمع المدني الحر في البلاد، ويبدو الهدف من ذلك هو التأثير على خيارات الناخب التركي وتقديم الدعم للمعارضة وترويج تصور لدى الشعوب والمسؤولين الغربيين بأن تركيا دون أردوغان ستكون أفضل للغرب.
تأثيرات جيوسياسية واقتصادية
في مطلع العام الحاليّ نشرت شبكة بلومبيرغ الأمريكية مقالًا للصحفي الشهير بوبي غوش أشار فيه إلى أن نتيجة الانتخابات التركية ستشكل الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية في واشنطن وموسكو، وكذلك في عواصم أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا.
وأضاف غوش “القادة الغربيون سيكونون سعداء برؤية ظهر أردوغان” في إشارة إلى خسارته الانتخابات المقبلة، مضيفًا أن أردوغان قوض أمن الناتو من خلال الحصول على أنظمة دفاع صاروخية من روسيا، ستكون الولايات المتحدة وأوروبا في وضع أفضل دون تأثير أردوغان المربك في الشؤون العالمية، خاصة مع اشتداد المواجهة مع فلاديمير بوتين.
ورغم الدور الكبير الذي قام به الرئيس أردوغان وحكومته في استضافة مفاوضات مباشرة بين القادة الروس والأوكرانيين في بداية الحرب لإنهاء النزاع، والتوصل لاحقًا إلى اتفاقية مع روسيا وأوكرانيا للحد من الأزمة الغذائية العالمية من خلال السماح بتصدير الحبوب والزيوت بموافقة أطراف النزاع، التي حظيت بإشادة عالمية واسعة ومن الأمم المتحدة، فإن شبكة بلومبيرغ قللت من أهمية هذه الجهود، مشيرةً إلى أن أردوغان لم يكن له تأثير كبير على “صديقه العزيز” فلاديمير بوتين.
الحسابات الأمريكية في الانتخابات التركية
على الرغم من الخلافات بين البلدين بشأن عدد من الملفات، فإن تركيا أثبتت أنه لا يمكن تجاوزها من الحسابات الأمريكية، فقد كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا معقدة، اتسمت بفترات من التعاون والتوتر مع مجموعة من القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تُعقّد علاقاتهما الثنائية، مع ذلك تسلط الانتخابات التركية المقبلة الضوء على مستقبل العلاقات بين البلدين مرة أخرى، حيث يتساءل الكثيرون عن الحسابات الأمريكية في هذه الانتخابات.
لفهم الوضع الحاليّ، من المهم فحص تاريخ العلاقات الأمريكية التركية. كانت الدولتان حليفتين مقربتين منذ الأيام الأولى للحرب الباردة، عندما انضمت تركيا إلى حلف الناتو عام 1952، وخلال هذه الفترة، رأت الولايات المتحدة تركيا كحليف أساسي ضد التوسع السوفيتي، وقدمت مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة إلى البلاد، ومع ذلك، بدأت العلاقة تتدهور في السبعينيات والثمانينيات، حيث مرت تركيا بفترة من عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الاقتصادي.
توترت العلاقة بين البلدين بشكل أكبر في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما رفضت الحكومة التركية الجديدة بقيادة حزب العدالة والتنمية السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية كنقطة انطلاق لغزو العراق، أثار هذا القرار غضب العديد من صانعي السياسة الأمريكيين الذين رأوا رفض أنقرة خروجًا عن الوصاية الغربية التي مورست على تركيا طيلة القرن العشرين.
على الرغم من هذه الصعوبات، استمرت الدولتان في الحفاظ على علاقة وثيقة في العديد من المجالات، فعلى سبيل المثال، عملت الدولتان معًا في عدد من القضايا الإقليمية المهمة، مثل الحرب في سوريا ومكافحة الإرهاب.
في السنوات الأخيرة، خاصة خلال الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، تصاعدت حدة التوترات بين البلدين بسبب ما اعتبرته تركيا دعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني في سوريا الذي تصنفه تركيا على لائحة الإرهاب.
دفعت هذه التوترات العديد من صانعي السياسة الأمريكيين إلى انتقاد سياسات أردوغان بشكل صريح، وبعضهم طالب الولايات المتحدة بقطع المساعدات عن تركيا أو اتخاذ إجراءات عقابية أخرى.
ومع ذلك، امتنعت الولايات المتحدة عن اتخاذ إجراءات عقابية قاسية ضد تركيا باستثناء بعض العقوبات على عدد من المسؤولين الأتراك وتعليق مشاركة تركيا في برنامج تصنيع الطائرات المقاتلة (إف-35)، ويعود ذلك إلى عدة أسباب أهمها: أولًا، لا تزال تركيا حليفًا إستراتيجيًا مهمًا للولايات المتحدة، لا سيما بالنظر إلى موقعها الجيوسياسي، ثانيًا، كانت الولايات المتحدة مترددة في اتخاذ إجراءات قاسية ضد تركيا، لأنها تخشى أن تدفع هذه الإجراءات الحكومة التركية إلى تعزيز علاقاتها مع روسيا أو القوى المعادية الأخرى.
على الرغم من هذه المخاوف، لم تتردد الولايات المتحدة في استخدام نفوذها لمحاولة تشكيل الأحداث في تركيا، فعلى سبيل المثال، في الفترة التي سبقت انتخابات 2018، أعربت الولايات المتحدة عن دعمها لأحزاب المعارضة، ولم تنجح هذه الجهود إلى حد كبير، فقد تمكن أردوغان وحلفاؤه من تحقيق نصر حاسم في الانتخابات، ومع ذلك، يعتقد بعض صانعي السياسة الأمريكيين أن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في الضغط من أجل إصلاحات ديموقراطية في تركيا، حتى لو كان ذلك يعني اتخاذ مواقف أكثر تصادمية تجاه الحكومة التركية.
على أي حال، هناك عدة عوامل مهمة يجب مراعاتها عند تقييم الحسابات الأمريكية في الانتخابات التركية والحكومة المقبلة التي ستتمخض عنها.
أولًا، تشعر الولايات المتحدة بالقلق بشأن مستقبل الديمقراطية التركية، وتعتقد أن الحكومة الحاليّة لا تراعي المعايير الديمقراطية وتُضيّق على وسائل الإعلام وتسيّس القضاء، وأعربت واشنطن عدة مرات عن مخاوفها بشأن أوضاع حقوق الإنسان في تركيا خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، ودعت الحكومة التركية إلى احترام سيادة القانون وحماية الحريات الأساسية.
ثانيًا، استمرار الخلاف بشأن حيازة تركيا لنظام الدفاع الصاروخي الروسي (إس-400)، ففي عام 2013، نشرت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بطاريات صواريخ باتريوت في تركيا بهدف حماية الأراضي التركية من الهجمات الصاروخية المحتملة من سوريا، وكان يُنظر إليه على أنه رمز لالتزام الولايات المتحدة وحلف الناتو بأمن تركيا.
ومع ذلك، في عام 2015، أعلنت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أنهما سيسحبان نظام صواريخ باتريوت من تركيا، قوبل القرار بخيبة أمل في تركيا، حيث اعتبر المسؤولون الأتراك الانسحاب علامة على تراجع التزام أمريكا وحلف الناتو بأمن تركيا، ودافعت الولايات المتحدة عن قرار سحب نظام صواريخ باتريوت كجزء من جهد أوسع لتحديث وتحسين قدرات الدفاع الصاروخي.
دفعت هذه التطورات الحكومة التركية إلى التوجه لروسيا، وبعد مفاوضات شاقة بين الجانبين استطاعت تركيا التوصل إلى صفقة لشراء أحدث أنظمة الدفاع الصاروخي الروسية وهو (إس-400)، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة ودول الناتو.
ورغم مرور سنوات على هذا الملف فإنه لا يزال يثير مخاوف كبيرة بين صانعي السياسة الأمريكيين، حيث تعتقد الولايات المتحدة أن هذا النظام لا يتوافق مع أنظمة الدفاع لحلف الناتو ويشكل تهديدًا للعمليات العسكرية الأمريكية وحلفائها في المنطقة.
من جانبها استمرت تركيا في مواجهة الضغوط الأمريكية، ورفضت التخلي عن الصفقة، حيث جادل المسؤولون الأتراك بأن شراء (إس-400) ضروري للأمن القومي لبلادهم، واتهموا الولايات المتحدة بمحاولة التدخل في الشؤون الداخلية لتركيا، إضافة إلى فشلها في أخذ مخاوفهم الأمنية على محمل الجد.
ثالثًا، ملف فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، فقد طلبت الحكومة التركية عدة مرات من الولايات المتحدة تسليم غولن لمواجهة اتهامات تتعلق بمحاولة الانقلاب، لكن واشنطن رفضت القيام بذلك.
كانت قضية غولن مصدرًا رئيسيًا للتوتر في العلاقات الأمريكية التركية، فقد اتهم المسؤولون الأتراك غولن بأنه “إرهابي” وقالوا إن رفض تسليمه دليل على الدعم الأمريكي للإرهاب، من جانبها، أكدت الإدارة الأمريكية أن الأدلة التي قدمتها الحكومة التركية ليست كافية لتبرير تسليم غولن.
ساهمت التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا بالملفات المذكورة في التأثير على نظرة الشعب التركي تجاه الولايات المتحدة، ووفقًا لدراسة ميدانية أجرتها جامعة قادر هاس في إسطنبول عام 2022، فإن 43% من السكان الأتراك ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها تهديد لتركيا
رابعًا، الخلافات الاقتصادية والتجارية، في عام 2018، فرضت إدارة دونالد ترامب تعريفات جمركية على واردات الصلب من عدة دول، بما في ذلك تركيا، وكانت هذه الخطوة جزءًا من جهود إدارة ترامب لحماية الصناعة والوظائف الأمريكية.
ردت الحكومة التركية بفرض رسوم جمركية انتقامية على البضائع الأمريكية، فقد شكل فرض الرسوم الجمركية على صادرات الصلب التركية إلى الولايات المتحدة ضربة كبيرة للاقتصاد التركي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى الآن. ينظر المسؤولون الأتراك إلى الرسوم الجمركية على أنها علامة على عدم الاحترام الأمريكي والفشل في أخذ المصالح الاقتصادية لتركيا على محمل الجد.
خامسًا، العقوبات الاقتصادية، ففي عام 2016 اعتقلت الحكومة التركية القس الأمريكي أندرو برونسون بتهمة دعمه لتنظيم فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني، وساهم اعتقال برونسون في توتير العلاقات بين البلدين حيث فرضت الولايات المتحدة على تركيا عقوبات اقتصادية ردًا على اعتقال برونسون وبهدف التأثير على نتائج انتخابات 2018.
ورغم أن هذه القضية طويت بالإفراج عن القس برونسون عام 2018، فإن تداعياتها لا تزال ماثلة على الاقتصاد التركي، حيث تسببت العقوبات الأمريكية بانخفاض حاد في قيمة الليرة التركية وارتفاع التضخم إلى مستويات لم تشهدها البلاد من قبل، ومن المرجح أن يؤثر ذلك على خيارات الناخبين خلال الانتخابات المقبلة.
سادسًا، الخلافات بشأن العمليات العسكرية التركية في سوريا، ففي عام 2019، شنت تركيا عملية عسكرية في شمال سوريا أطلقت عليها اسم “نبع السلام” ضد قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية بسبب علاقاتها مع حزب العمال الكردستاني، لكن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة يعتبرها حليفًا في حربها ضد “داعش”.
هدفت العملية التركية إلى طرد قوات سوريا الديمقراطية من المنطقة الحدودية وإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترًا داخل الأراضي السورية، أثارت العملية التركية انتقادات حادة من الولايات المتحدة، التي كانت تقدم الدعم العسكري لقوات سوريا الديمقراطية، واعتبرت واشنطن أن العملية التركية تهديد للاستقرار الإقليمي ومحاربة “داعش”.
ساهمت التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا في الملفات المذكورة في التأثير على نظرة الشعب التركي تجاه الولايات المتحدة، فـ 43% من السكان الأتراك ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها تهديد لبلادهم
سلطت العملية التركية في شمال سوريا الضوء على الأولويات والإستراتيجيات المختلفة والمصالح المعقدة والمتضاربة في كثير من الأحيان للولايات المتحدة وتركيا في المنطقة، شكلت معارضة الولايات المتحدة للعمليات العسكرية التركية في شمال سوريا مصدر توتر في العلاقات الأمريكية التركية، واتهم مسؤولون أتراك الولايات المتحدة بالوقوف إلى جانب المنظمات الإرهابية وعدم الاعتراف بمخاوف تركيا الأمنية المشروعة.
كما سلطت العملية الضوء على التحديات التي تواجه العلاقات الأمريكية التركية في سياق قضايا الأمن الإقليمي، فلدى كلا البلدين مصالح مهمة في سوريا والشرق الأوسط، لكن هذه المصالح لم تتوافق دائمًا، ويوضح الصراع في شمال سوريا صعوبات الموازنة بين المصالح والأولويات المتنافسة لكلا البلدين في المنطقة.
بالنظر إلى هذه العوامل، كان نهج الولايات المتحدة تجاه الانتخابات التركية حذرًا ومدروسًا، فلم تتخذ الحكومة الأمريكية موقفًا علنيًا بشأن الانتخابات، لكنها راقبت الوضع عن كثب وتواصلت مع المسؤولين الأتراك والأحزاب السياسية، مع ذلك فإن حكومة الولايات المتحدة قلقة بشأن التأثير المحتمل للانتخابات المقبلة على الاستقرار الإقليمي، بالنظر إلى دور تركيا الرئيسي في عدد من الملفات الإقليمية وأهميتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط.
على أي حال، شكلت الخلافات الأمريكية التركية بشأن هذه الملفات أدوات ضاغطة على العلاقات بين البلدين، وتعتقد الولايات المتحدة أن لها دورًا يجب أن تلعبه في تركيا من خلال استخدام نفوذها لمحاولة تشكيل الأحداث في البلاد، لذلك فإن الانتخابات التركية المقبلة بالنسبة لواشنطن توفر إمكانية استعادة حليف مهم لها إلى الحظيرة الغربية.
من جهة أخرى، ساهمت التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا في الملفات المذكورة في التأثير على نظرة الشعب التركي تجاه الولايات المتحدة، ووفقًا لدراسة ميدانية أجرتها جامعة قادر هاس في إسطنبول عام 2022، فإن 43% من السكان الأتراك ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها تهديد لتركيا.
ملفات مشتركة
على الرغم من التوترات التي ميزت العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا في السنوات الأخيرة، يواصل البلدان تبادل مجموعة من المصالح المشتركة التي توفر أساسًا للتعاون والشراكة المستمرة، وتعتبر مكافحة الإرهاب من أهم المجالات ذات الاهتمام المشترك.
تواجه كل من الولايات المتحدة وتركيا تهديدات كبيرة من المنظمات الإرهابية، بما في ذلك “داعش” والقاعدة وحزب العمال الكردستاني والميليشيات التابعة لإيران في سوريا، عمل البلدان معًا في مجموعة من مبادرات مكافحة الإرهاب، بما في ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات المشتركة واستضافة تركيا عدة قواعد لحلف الناتو.
كان هذا التعاون مهمًا بشكل خاص في الحرب ضد “داعش” في سوريا والعراق، حيث لعبت تركيا دورًا رئيسيًا في دعم جهود الولايات المتحدة لهزيمة “داعش”، إلا أن الجهود التركية لم تواجه بخطوات عملية من قبل الإدارة الأمريكية لدعم أنقرة في القضاء على مخاوفها الأمنية بشأن أنشطة قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني في سوريا.
على الرغم من التوترات الأخيرة بشأن قضايا مثل طلب تسليم غولن، تتمتع الولايات المتحدة وتركيا بتاريخ طويل في دعم المؤسسات الديمقراطية
ومن المجالات المهمة الأخرى ذات الاهتمام المشترك الاستقرار الإقليمي، إذ تحتل تركيا موقعًا إستراتيجيًا على مفترق طرق أوروبا وآسيا، ويُنظر إليها منذ فترة طويلة على أنها لاعب رئيسي في الشرق الأوسط، فللولايات المتحدة مصلحة كبيرة في تعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة، وقد نظرت إلى تركيا كشريك في تحقيق هذه الأهداف.
العلاقات التجارية والاقتصادية هي أيضًا منطقة مهمة ذات اهتمام مشترك، يتمتع البلدان بتاريخ طويل من التعاون الاقتصادي، حيث تعد الولايات المتحدة واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لتركيا.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار دور تركيا كوسيط في الصراع بين روسيا وأوكرانيا تطورًا إيجابيًا من قبل الولايات المتحدة. إذا كانت تركيا قادرة على المساعدة في التوسط في حل سلمي للصراع، فيمكن اعتبار ذلك مساهمة إيجابية في الاستقرار والأمن الإقليميين، وهما مصالح مشتركة مهمة لكل من الولايات المتحدة وتركيا. علاوة على ذلك، قد يُنظر إلى جهود الوساطة التركية بعين الريبة من البعض في الولايات المتحدة بسبب المخاوف بشأن طموحات تركيا الإقليمية وعلاقتها المتنامية مع روسيا.
أخيرًا، يشترك البلدان في الالتزام بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى الرغم من التوترات الأخيرة بشأن قضايا مثل طلب تسليم غولن، تتمتع الولايات المتحدة وتركيا بتاريخ طويل في دعم المؤسسات الديمقراطية.
المعارضة التركية والحسابات الأمريكية
رغم عدم وجود تفصيلات بشأن السياسة الخارجية المحتملة للمعارضة التركية، فإن “وثيقة السياسات المشتركة” المنبثقة عن “الطاولة السداسية” أشارت إلى أنه “سيتم وضع العلاقات مع الولايات المتحدة على أساس مؤسسي مع تفاهم بين أنداد، وسيتم العمل على تعزيز علاقة التحالف القائمة على الثقة المتبادلة”، إضافة إلى “بذل محاولات لإعادة تركيا إلى مشروع الطائرات المقاتلة (إف-35)”، دون أي تفاصيل أخرى عن الإستراتيجيات التي ستتبعها المعارضة لإعادة رسم العلاقات مع الولايات المتحدة.
مع ذلك عبر ممثلو السياسات الخارجية في أحزاب المعارضة عن دعمهم لإيجاد حلول لملف منظومة (إس-400) معتبرين أن شراء تركيا لهذه المنظومة كان خطأً، ورفض تعميق العلاقات الاقتصادية مع روسيا، ورفض العضوية في منظمة شانغهاي للتعاون التي تسيطر عليها روسيا والصين لأن ذلك سيهدد علاقات تركيا مع الغرب، وزيادة التعاون في السياسة الخارجية مع الاتحاد الأوروبي، وإعادة بناء الثقة بين أنقرة وواشنطن لحل المشكلات المعلقة بين البلدين.
بلا شك، مثل هذه المواقف الصادرة عن المعارضة قد تؤثر على الحسابات الأمريكية تجاه الانتخابات التركية، لكن يبقى هاجس الاستقرار الإقليمي أمرًا حيويًا بالنسبة لواشنطن، لذا من الممكن أن تنظر الولايات المتحدة إلى أردوغان باعتباره الخيار الأفضل للحفاظ على الاستقرار في تركيا.
على الصعيد ذاته، قد يشكل وصول المعارضة التركية إلى السلطة عبر الانتخابات المقبلة، فرصة للولايات المتحدة لإعادة تركيا إلى حظيرة الوصاية الغربية من خلال حلفائها التقليديين، والتخلص من السياسات الحازمة والاستقلالية التي حاولت الحكومة التركية بقيادة الرئيس أردوغان اتباعها خلال العقد الماضي وجلبت الكثير من القلق لحلفائه الغربيين بما فيهم الولايات المتحدة.
يتوجب على الولايات المتحدة ألا تتوقع انعطافًا حادًا للسياسة الخارجية التركية وإعادة تركيا إلى “دولة تابعة” لها حتى في حال فوز حلفائها التقليديين
لذلك بدأت العديد من مراكز الأبحاث الغربية بوضع تصورات مستقبلية عن كيفية التعامل مع الحكومة التركية المقبلة في حال فوز المعارضة، مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات FDD، وهي مؤسسة بحثية مقرها واشنطن العاصمة تركز على الأمن القومي والسياسة الخارجية، نشرت في الأول من مارس/آذار 2023 دراسة بعنوان “تركيا ما بعد أردوغان“، تضمنت مجموعة من التوصيات للمسؤولين الأمريكيين لدعم الحكومة الجديدة بقيادة المعارضة التركية أبرزها: إعداد حزمة إنقاذ اقتصادي والعمل على إبعاد تركيا عن روسيا وإعادة النظر بصفقة صواريخ (إس-400) مقابل التراجع عن حزمة العقوبات التي سبق أن فرضتها الولايات المتحدة على تركيا وتشجيع الاتحاد الأوروبي على إعداد حوافز للحكومة التركية الجديدة.
في الختام، الولايات المتحدة والدول الغربية لديها مصالح مشتركة مع تركيا رغم الخلافات بشأن العديد من الملفات الإقليمية والدولية وحتى الداخلية، وقد تتغير الحسابات الأمريكية في تركيا عن الحسابات الأوروبية، لكن يجمعها هدف مشترك وهو إعادة تركيا إلى الوصاية الغربية كما كان عليه الحال طيلة القرن الماضي قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002.
مع ذلك يتوجب على الولايات المتحدة ألا تتوقع انعطافًا حادًا للسياسة الخارجية التركية وإعادة تركيا إلى “دولة تابعة” لها حتى في حال فوز حلفائها التقليديين، لأن الهياكل التي بناها أردوغان خلال السنوات الماضية وعلى رأسها المؤسسة العسكرية والقضائية والمكاتب البيروقراطية لن تستجيب بسهولة لهذا التحول.
إلى جانب ذلك سيبقى حزب العدالة والتنمية حتى في حال خسارته الانتخابات يتمتع بحضور قوي داخل البرلمان وهذه الهياكل، وسيقاوم هذا التحول بشراسة كبيرة.