حظي شهر رمضان بمكانة مضاعفة لدى الأندلسيين، فبالإضافة لمكانته الدينية، فتح المسلمون شبه الجزيرة الإيبيرية خلاله، وفي هذا الشهر من عام 91هـ وقع العبور الأول للمسلمين إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، على سبيل الاختبار واستطلاع الوضع.
وفي رمضان السنة الموالية، خاض المسلمون بقيادة طارق بن زياد معركة وادي لكة الشهيرة التي كانت حاسمة في تمهيد الطريق للفتح، وفي رمضان عام 93هـ عبرَ موسى بن نصير بنفسه نحو الأندلس، وكان يرافقه جيش من المقاتلين أغلبهم من العرب، ليلتحق بجيش طارق بن زياد ويدعمه في زحفه المتواصل على الأراضي الإيبيرية.
هذه الأحداث جعلت لرمضان خصوصية كبيرة عند الأندلسيين، واستمرَّ الحكم الإسلامي في الأندلس 8 قرون انقسمت إلى حقب عديدة، منها مرحلة الفتح ثم عهد الولاة التابعين للدولة الأموية، تاليه عهد الإمارة ثم عصر الخلافة المستقلة تمامًا، ليتلوه عصر ملوك الطوائف ومنهم انتقلت إلى حكم الموحدين، بينما شكّلت مملكة غرناطة آخر مرحلة من الوجود الإسلامي في الأندلس الذي انتهى بسقوطها.
سقطت دولة الأندلس لكن عديد الشواهد ما زالت شاهدة على عظمة تلك الدولة، وهو ما جعلنا نعود قليلًا إلى الوراء للغوص أكثر في مظاهر الاحتفال بشهر رمضان الكريم، ونخصّص لذلك تقريرًا مفصّلًا في “نون بوست” ضمن ملف “رمضان زمان”.
تزيين المساجد وإضاءة الشوارع
مباشرة إثر فتح الأندلس وبداية تأسيس الدولة هناك، بدأ المسلمون في بناء المساجد، وقد تفنّنوا في ذلك، وأخذت المساجد كثيرًا من طابع بني أمية في الشرق، من حيث الأقواس والأعمدة الرخامية والحدائق والزخرفة الهندسية.
اهتمّ الأندلسيون بالمساجد في سائر أيام السنة، لكن في شهر رمضان كان الاهتمام أكثر كعادة غالبية المسلمين، حيث للشهر الفضيل مكانة كبيرة لديهم كما قلنا في البداية، كونه يُذكّرهم بفتح هذه الديار وبدا كمناسبة وطنية كما نقول في هذه الأيام.
اتخذ سكان الأندلس وحكامها، بداية كل شهر رمضان، عادة تزيين المساجد وتنويرها، تأكيدًا على تعلقهم بالشهر الكريم وإضفاء طابع الاحتفال به، فرمضان لا يقتصر على الصوم والصلاة فقط، فللفرح نصيب أيضًا.
كان ملوك الأندلس يعمدون إلى إنشاء الأسمطة في كل بقاع البلاد، وفيها يقدّمون أشهى الأكلات.
تقول كتب التاريخ إنه إذا حلَّ رمضان على المسلمين في الأندلس، خاصة في حالة السلم، دفع أمراؤها وحكامها نصيبًا من المال من خزينة الدولة لتزيين المساجد المطبوعة بعمارة العهد الأموي في الشرق، إلى جانب إضاءة المصابيح في الشوارع والطرقات.
اهتمَّ الأندلسيون بأغلب مساجد البلاد، لكن كان هناك تركيز كبير على المساجد الكبرى، على غرار جامع قرطبة الكبير الذي تأسّس عام 170هـ على يد صقر قريش عبد الرحمن الداخل، وهو أبو المطرَّف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي القرشي، وأنفق على بنائه 100 ألف دينار وقيل 80 ألف دينار.
كانت عادة وزير الأندلس الأشهر ومدبّر أمرها للأمويين، المنصور بن أبي عامر، الاهتمام بجامع قرطبة الكبير في رمضان، فكان يرسل إليه، كما يقول ابن عذاري في “البيان المُغرب”، “من الكتَّان للفتائل في كُل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار، وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمئة ربع أو نحوها، يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد”.
و”مما كان يختص برمضان المعظّم ثلاثة قناطير من الشمع، وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقصر لإقامة الشمع المذكور، والكبيرة من الشمع تُوقد بجانب الإمام، يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلًا (من 22 إلى 32 كيلوغرامًا)، يحترق بعضها بطُول الشهر، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة”.
“تكية السلطان”.. الولائم لطلاب العلم والفقراء
لم يكتفِ ملوك الأندلس بتزيين المساجد وتهيئتها لاستقبال شهر رمضان على أحسن وجه، بل عملوا على الإحاطة بطلاب العلم الذين ارتحلوا من أمصارهم وجاؤوا لتلقي الدروس في جامع قرطبة -وإن كان ذلك عادة يومية، فإنه في رمضان يزيد الاهتمام بالطلاب أكثر-.
تمّت إقامة الولائم لهؤلاء الطلاب، لتسهيل عباداتهم وتمكينهم من طلب العلم في أحسن الظروف، وقاسم الفقراء طلاب العلم في الولائم التي تقام كامل أيام شهر رمضان في المساجد، وأيضًا في الشوارع والساحات.
#رمضان #مشاهير_الفلس #الاندلس
جامع قرطبه..
وما أدراك ماجامع قرطبه..
هنا صلى خلفاء وأمراء وقادة وعامة المسلمين خمس مرات في اليوم لمئات السنين..حتى سلبوه منا النصارى المتطرفين وقتلوا المؤمنين وارغموهم على التنصر وليحلوا الجوامع لكنائس ونوادي لهو ومرابط واسطبلات لخيولهم.
سيعود جامع… pic.twitter.com/wAz4ZBWQ9i
— فالح بن صقر (@falehsager) March 29, 2023
تشير عديد المراجع التاريخية إلى انتشار ما عُرف في ذلك الزمان بالأسمطة، أو “تكية السلطان”، في كل مناطق الأندلس، والتي تُعرَف اليوم باسم “موائد الرحمن”، وهي العادة التي توارثتها الأجيال جيلًا عن جيل إلى يومنا الحاضر.
اتخذ حكّام الأندلس من الإنفاق في رمضان وإقامة موائده العامة وسيلة لتقوية صلاتهم برعاياهم، وإحدى الأدوات الدعائية القوية لترسيخ شرعيتهم السياسية بين جماهير شعوبهم، خاصة في زمن الفتن والصراع على الملك، إذ عرفت البلاد أزمات وصراعات كثيرة على الحكم.
كان ملوك الأندلس يعمدون إلى إنشاء الأسمطة في كل بقاع البلاد، وفيها يقدّمون أشهى الأكلات ويعدّون أفضل الولائم، وكان أمراء المدن الأندلسية بأمر من السلطان الحاكم يصرفون من بيت المال أموالًا طائلة على الموائد التي كانت تقام طوال شهر رمضان.
واجتمعت الأموال الكثيرة لملوك الأندلس، فظهرت عليهم مظاهر الترف والبذخ، فكانوا يقيمون في كل ليلة من ليالي رمضان سماطًا يتألف من 40 مائدة يتصدّرها أمراء الدولة وقواد الجيوش والعلماء والأجناد، وفيها أنواع شتى من الأطعمة والمشروبات.
فيما تعدّ أسمطة أخرى تعنى بإطعام الفقراء وأبناء السبيل، حتى إن عشرات الأصناف من الأطعمة كانت تحمل على عجلات يطاف بها في الشوارع، فلا يأخذها أحد، ذلك أن موائد الرحمن منتشرة في كلّ مكان، والجميع نال نصيبه منها.
فضلًا عن إشعال الشموع في تلك الليلة، يعمد المسلمون في الأندلس إلى إيقاد البخور أيضًا.
يُذكر أن حكّام الأندلس اشتهروا بحبهم الكبير للطعام، ما جعل الأندلسيين يتفنّنون في اختراع ألوان كثيرة من الأطعمة والمشروبات، فتميّزوا بمطبخهم المتنوّع وأطباقهم الشهية التي تتوارثها عديد الشعوب في شرق الأرض وغربها إلى الآن.
لم يكن إطعام الطعام مقتصرًا على الملوك والأمراء فقط، إنما لعامة الشعب نصيب أيضًا، إذ ينقل مؤرّخ آداب الأندلس المقّري التلمساني، في “نفح الطيب”، حديثًا لأحد أبناء قاضي قضاة الأندلس منذر بن سعيد البَلُّوطي، يقول فيه: “قعدنا ليلة -من ليالي شهر رمضان المعظّم- مع أبينا للإفطار بداره البرانية، فإذا سائل يقول: أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنّة”.
وسار على نهج البَلُّوطي قضاة آخرون بالأندلس، منهم قاضي مالقة محمد بن الحسن النُّبَاهي، الذي يقول عنه قريبه المؤرخ أبو الحسن النُّبَاهي -في “تاريخ قضاة الأندلس”- إنه “كان في كل رمضان يحذو حذو صهره القاضي بقرطبة أحمد بن زياد، فيدعو بدار له تُجاور المسجد عشرةً من الفقهاء في طائفة من وجوه الناس، يفطرون كل ليلة عنده، ويتدارسون كتاب الله بينهم ويتلونه”.
إشعال الشمع والبخور
خصّص ملوك الأندلس ميزانية وافرة لزينة المساجد، من ذلك شراء الشموع، فمن عادات الأندلسيين إشعال الشموع ليلة القدر، إلى جانب رشّ المسك في أرجاء المساجد التي تعمّ البلاد، خاصة الكبرى منها.
ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، التي يعتقد الكثير من الأندلسيين وغيرهم من المسلمين أنها توافق ليلة القدر، ليست كمثيلاتها من الليالي الرمضانية بالأندلس، إذ تتّسم بالعديد من الاحتفالات أبرزها إشعال الشمع، وتبدأ الطقوس مع حلول ليلة السابع والعشرين، منذ مغيب شمس اليوم إلى الساعات الأولى من فجر اليوم التالي.
ويعمد المصلون إلى إطفاء المصابيح في تلك الليلة وإشعال الشموع البيضاء في المساجد والمنازل على حدّ سواء، إذ تتم إنارتها بالكامل عن طريق الشموع وحدها، اعتقادًا منهم أن ذلك يجلب الحظ والبركة ويطرد الشياطين.
تذكر كتب التاريخ بعض التفاصيل عن عادة إشعال الشموع في الأندلس، إذ أشار المؤرخ ابن صاحب الصلاة إلى الشموع الضخمة التي رُفعت على مئذنة جامع قرطبة الشامخة من جهاتها الأربع، بقوله: “والشمع قد رُفعت على المنار رفع البُنُود، وعُرِضَت عليها عَرْض الجنود، ليتَجَلَّى طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد، وقد قُوبل منها مُبَيَّض بمُحَمَّر، وعورض مُخْضَرٌّ بمُصْفَرٍّ، تَضْحَك بِبُكائها وتَبْكي بِضَحِكِها، وتَهْلَك بحَيَاتِها وتَحْيَا بَهَلْكِها”.
?__كانت ليالي رمضان في الأندلس غنية جدا، حيث طغت المظاهر على ملوك الأندلس، فكانوا يقيمون الولائم، ويعمدون إلى انشاء الأسمطة في كل بقاع الأندلس، وكانت تسمى “تكية السلطان”، فكانوا يقدمون خلالها أشهى الأكلات، ويعدون أفضل الولائم. pic.twitter.com/XSYeF0UHij
— زهرة الأندلس ?? (@RokayaElghetany) March 25, 2023
إلى اليوم يحافظ المسلمون في إسبانيا على هذه العادة، ففي ليلة السابع والعشرين من رمضان يجتمعون لإشعال الشموع قرب جامع قرطبة، إحياءً لتلك الليلة الجليلة واستذكارًا لأمجاد أجدادهم الذين حكموا البلاد طيلة عدة عقود.
فضلًا عن إشعال الشموع في تلك الليلة، يعمد المسلمون في الأندلس إلى إيقاد البخور أيضًا، وقد أشار إلى ذلك مؤرخ الأندلس أحمد المقري التلمساني المعروف بـ”المقري”، ضمن حديثه عن جامع قرطبة ومتعلقاته، بقوله: “ويُوقَد من البُخُور ليلة الخَتْمَة أَرْبَع أَوَاقٍ من العنْبر الأشهب، وثماني أَوَاقٍ من العُود الرطْب”.
أما ابن صاحب الصلاة أشار إلى تلك العادة بقوله: “والطِّيب تَفَغم أفواحه، وتَنَسم أرواحه، وقتارُ الألنجوج والنّدُّ، يسترجع من روح الحياة ما نَدّ، وكلما تصاعد وهو مُحَاصَر، أطال من العُمُر ما كان تَقَاصر، في صفوف مَجَامِر، ككُعُوب مُقامر”.
رغم زوال دولة الأندلس بعد حكم امتدّ قرونًا، إلا أن هذه العادات ما زالت راسخة في ذهن المسلمين، يتذكّرون من خلالها حضارة الأندلسيين وقوّتهم وإسهاماتهم الكبيرة في نهضة العالم الإسلامي والأوروبي على حدّ سواء.