رفض غانجار برانوو ووايان كوستر حاكما مقاطعة “بالي” بإندونيسيا إقامة قرعة كأس العالم للشباب 2023 على الجزيرة، بسبب اعتراضهما على مشاركة منتخب الكيان الصهيوني في البطولة، حيث اعتبرا ذلك الفريق غير مرحب به في جزيرتهما، ذلك القرار الذي أقام الفيفا وأقعدها، فسرعان ما هم باتخاذ قراره بسحب تنظيم البطولة من إندونيسيا، قبل 52 يومًا من انطلاقها، ما هوى بأحلام الإندونيسيين وعرقهم في التجهيز للبطولة منذ إعلان استضافتها في هذا البلد عام 2019م.
لم يكتف الفيفا بذلك، وبخسائر قدرت بملايين الدولارات صُرفت في الاستعداد للبطولة، فأكبر جهة مسؤولة عن كرة القدم في العالم تدرس تطبيق عقوبات على الاتحاد الإندونيسي لكرة القدم منها المنع من الاشتراك في تصفيات كأس العالم 2026، وكل ذلك من أجل عيون “إسرائيل”.
قبل القرار بأيام، اندلعت في جاكارتا، عاصمة إندونيسيا، مظاهرات تحتج على مشاركة “إسرائيل” في البطولة، فإندونيسيا أكبر دولة مسلمة في العالم الإسلامي، لا تقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع “إسرائيل” حتى الآن، رغم كل مساعي نتنياهو للتقارب.
يبدو الفيفا صورة أخرى من صور التناقض الغربي الإمبريالي، لكن في عالم كرة القدم، فتلك المؤسسة التي تقر لوائحها بفصل السياسة عن الرياضة، وتعاقب الدول التي يظهر فيها شبهات التدخل الحكومي في كرة القدم، كإندونيسيا ذاتها، حين هددتها الفيفا في عام 2015 بوقف نشاطها الرياضي بسبب شبهات للتدخل الحكومي، إلا أنه حينما يتعلق الأمر بـ”إسرائيل” أو سياسات حلف الناتو تجد الفيفا سياسيًا أكثر من الأمم المتحدة.
يأتي ذلك الحدث في إندونيسيا بعد مرور عام بالتمام والكمال على موقف كاشف لذلك النفاق الذي يخيم على أجواء الفيفا، فبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في مطلع عام 2022، اتخذ الفيفا الكثير من الإجراءات تباعًا لمعاقبة الاتحاد الروسي لكرة القدم، واللاعبون الروس كذلك!
فبدءًا من حرمان المنتخب الروسي من اللعب تحت علمه وعزف نشيده، وانتهاءً بحرمان المنتخب وفرق الاتحاد الروسي بمساعدة قرارات اليويفا (الاتحاد الأوروبي لكرة القدم) من المشاركة في تصفيات كأس العالم 2022، والمشاركة في بطولات دوري أبطال أوروبا والدوري الأوروبي والمؤتمر الأوروبي.
وفجأة، تحولت شاشات المباريات وشارات اللاعبين في الدوريات الأوروبية، إلى رُسل لإرساء السلام بشعار “أوقفوا الحرب” الذي كُتب بالأوكرانية والإنجليزية في مسابقات كبرى كدوري أبطال أوروبا والدوري الإنجليزي والإسباني، وشهدت بعض المباريات في الدوري الإنجليزي، الوقوف دقيقة تضامنًا مع الشعب الأوكراني في حربه ضد الغاصب الروسي، وقد غض الفيفا الطرف عن ذلك النشاط السياسي الواضح الذي يزين أهم مسابقة كروية في أوروبا.
من العيب إظهار التضامن مع فلسطين، بينما يمكنك أن ترفع علم “إسرائيل” تحت شمس برلين في ظهيرة يوم قائظ، دون أن يتعرض لك سيب بلاتر رئيس الفيفا السابق ولو بكلمة
في الواقع، لا يبدو ذلك سيئًا من الناحية الإنسانية، لكن الذي يسوءنا ويستفزنا حين يُظهر بعض اللاعبين أي موقف من مواقف التعاطف مع الشعب الفلسطيني ويناهض “إسرائيل”، فتجد الفيفا يعاقب ويشجب ويشطب بموجب قانونه ذي “الشفافية” الذي يوجب فصل السياسة عن الرياضة، وبنفاق واضح لم يجتهد الفيفا في تمويهه.
دلالات الأعلام
في إسكتلندا، وللكثير من الاعتبارات التاريخية، تؤيد كتلة جماهير سيلتك التي تتشكل من المهاجرين الإيرلنديين، القضية الفلسطينية، وتحرص على إظهار ذلك التضامن مع الفلسطينيين دائمًا، بسبب التجربة التاريخية بين الجيش الإيرلندي الحر والفدائيين الفلسطينيين، والكثير من التراكمات التاريخية التي شكلت ذلك التضامن.
في عام 2016، رفعت جماهير سيلتك الإسكتلندي الأعلام الفلسطينية حين واجهوا فريقًا صهيونيًا في الأدوار التمهيدية لدوري أبطال أوروبا، واعتبر اليويفا ذلك التصرف محظورًا بموجب قانون خلط السياسة والرياضة، ففرض عقوباته على نادي سيلتك بالغرامات المالية.
وإذا عدنا بالزمن قليلًا، نجد اللاعب فردريك كانوتيه الذي كان ينشط في صفوف نادي إشبيلية الإسباني عام 2008، حين تعرض لغرامة مالية من الاتحاد الإسباني، والسبب كان ببساطة لإقحامه السياسة في الرياضة – في الدوري الذي تزين شارة “أوقفوا الحرب على أوكرانيا” مفتتح مبارياته – حين سجل هدفًا، أظهر بعده قميصًا يحمل اسم فلسطين بأكثر من لغة، تضامنًا معها ضد العدوان الإسرائيلي على غزة في نفس العام، وهو نفس العام الذي شهد حادثة مماثلة للاعب محمد أبو تريكة لاعب منتخب مصر، حين تلقى بطاقة صفراء لإظهاره قميصًا كُتب عليه “تعاطفنا مع غزة” وتلقى تهديدًا من الكاف بتغريمه إذا تكرر الأمر مرة أخرى.
ما لم يدركه كانوتيه وأبو تريكة وجماهير سيلتك، أنه من العيب إظهار التضامن مع فلسطين، بينما يمكنك أن ترفع علم “إسرائيل” تحت شمس برلين في ظهيرة يوم قائظ، دون أن يتعرض لك سيب بلاتر رئيس الفيفا السابق ولو بكلمة.
إندونيسيا موقف مشرف وقوي تشكر عليه …الفيفا اذا لم تستحي فاصنع ما شئت .. الكيان الصهيونى وباء العالم محتل يجب على الجميع مقاطعته ونبذه ..ومازال كيل بمكيالين هو السائد لدي الفيفا ولا غرابه ..
— محمد أبوتريكة (@trikaofficial) March 29, 2023
في 17 يونيو/حزيران 2006، حقق المنتخب الغاني لكرة القدم انتصارًا تاريخيًا على المنتخب التشيكي في نهائيات كأس العالم المقامة بألمانيا وقتها، آنذاك، أخرج اللاعب جون بانتسيل من أحد جواربه علم “إسرائيل”، وجرى ملوحًا به في جنبات الملعب احتفالًا بذلك الفوز الذي لا علاقة لـ”إسرائيل” به، بينما كان يتصرف بانتسيل بسذاجة مغازلًا جماهير فريقه الذي ينشط فيه في الدوري الإسرائيلي، غض الفيفا الطرف تمامًا عن الحادثة، حتى إنه لم يهدد الاتحاد الغاني لكرة القدم أو اللاعب بكلمة واحدة.
هنا نقف أمام قضية بسيطة، لم يظهر كانوتيه أو أبو تريكة أو جماهير سيلتك حديثًا فيه كراهية ضد “إسرائيل”، كل ما حدث كان رفع علم فلسطين أو إظهار اسمها، وفي المقابل، لم يصدر بانتسيل أي عبارة فيها كراهية ضد الشعب الفلسطيني أو العرب، كل ما حدث أنه أظهر علم “إسرائيل”، لكن الفيفا ومؤسساته التابعة له من اليويفا والكاف اختار أن يعتبر علم فلسطين كالعادة يحمل دلالات رمزية سياسية تستوجب العقوبة، بينما يحمل علم “إسرائيل” دلالة للسلام مثلًا!
فرق المستوطنات برضا الفيفا
نقف أمام حادثة أخرى في تاريخ الغزل الكروي المتبادل بين “إسرائيل” والفيفا، حيث العام 2017 حين قرر جياني إنفانتينو بعد ضغوطات من نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يقدم مقترح قرار لكونغرس الفيفا بعدم إجراء تصويت على طلب الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، ذلك الطلب الذي تقدم به الاتحاد الفلسطيني للفيفا لإلزام “إسرائيل” بأن تمتنع عن إشراك ستة فرق لكرة القدم مكونة من المستوطنات في الضفة الغربية في الدوري الصهيوني لكرة القدم، واستند الطلب الفلسطيني إلى لوائح الفيفا التي تمنع المواقف المشابهة لذلك الموقف، حيث تنشط تلك الفرق على أراضي دولة أخرى مُحتلة.
إن ذلك القرار يبدو صورة مناقضة لقرار اليويفا في العام 2014، الذي ألزم منع الأندية التي تنشط في شبه جزيرة القرم من اللعب في الدوري الروسي، بعد سيطرة روسيا على هذه المنطقة في خلاف مبكر مع الجارة أوكرانيا.
كان الاتحاد الفلسطيني قد حصل من الفيفا على اعتراف مبكر في العام 1929، لكن في ذلك الوقت كان الاتحاد الفلسطيني تتكون غالبيته من المهاجرين اليهود إلى فلسطين أساسًا، وقلة من العرب
إن ذلك الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم الذي تقدم بتلك الشكوى ضد “إسرائيل” في الفيفا، وراؤه قصة أخرى تستحق أن تروى في تاريخ الغزل الكروي بين “إسرائيل” والفيفا، فسيكون من المثير أن نعود إلى بدايات الفيفا التي شهدت ميلاد الصراع الصهيوني العربي مبكرًا، حيث تأسس الفيفا عام 1904م، ولم يحصل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم على عضويته إلا عام 1998 الذي رأى فيه الفيفا أن فلسطين استكملت الشروط الرسمية لوجوب وجودها ككيان رسمي ودولة تستحق مقعدًا في الفيفا.
لكن، كان الاتحاد الفلسطيني قد حصل من الفيفا على اعتراف مبكر في العام 1929، لكن في ذلك الوقت كان الاتحاد يتكون غالبيته من المهاجرين اليهود إلى فلسطين أساسًا، وقلة من العرب، ومع تفاقم الصراع على الأرض، انفصم الاتحاد، وشعر الفلسطينيون بالحاجة إلى اتحاد كرة قدم يشكل هويتهم المستقلة عن اليهود المحتلين، فتأسس الاتحاد الرياضي الفلسطيني العربي عام 1931م الذي طلب الانضمام للفيفا في أكثر من مرة ورفض، وأعيد تأسيسه مرة أخرى عام 1944 وطلب نفس الطلب ورفض.
وظل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم الأول يمثل فلسطين في كل المحافل الدولية، لكن لاعبيه إسرائيليون، حتى تحول بشكل كامل إلى الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم عام 1948، وتلقى اعترافًا فوريًا من الفيفا، في الوقت الذي حاول فيه الاتحاد الفلسطيني العربي الانضمام مرة أخرى للفيفا عام 1951 وقوبل الطلب بالرفض كذلك، وسيلقى رفضًا مرة أخرى عام 1978 وعام 1989.
في العام 1976، تعرض الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم إلى انتكاسة كبرى، لم ينقذه منه سوى آبائه في الغرب، ونتحدث هنا عن قرار الاتحاد الآسيوي في حملة قادتها الاتحادات العربية لطرد “إسرائيل” من الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، وكللت تلك الحملة بالنجاح، وظل الاتحاد الإسرائيلي مشردًا دون أي أنشطة رياضية حتى عام 1992م حين قبل الاتحاد الأوروبي (اليويفا) بعضوية “إسرائيل”، ليشارك الكيان الذي يقع بكامل محيطه الجغرافي في قارة آسيا، في المنافسات الأوروبية، كاستمرار لمسيرة من الغزل الكروي بين الفيفا ومؤسساته والكيان الصهيوني، وهو غزل ودلال لا نعلم إلى متى يستمر؟