يتربّع المسجد الأقصى المبارك في القدس المحتلة للعام الثالث على التوالي على سُلّم الأحداث التي تشهدها القضية الفلسطينية خلال شهر رمضان، في ظل تزامن شهر الصوم مع الأعياد اليهودية المزعومة، وما تشهده قبلة المسلمين الأولى من انتهاكات إسرائيلية متصاعدة.
ويسعى الاحتلال الإسرائيلي عبر المنظمات اليهودية الدينية المتطرفة إلى فرض واقع التقسيم الزماني والمكاني بكل السبل والأدوات، سواء كانت خشنة عبر قمع المصلين ومنع الاعتكافات وإبعاد المرابطين فيه عنه، أو عبر الأدوات الناعمة المتمثلة فيما يسميها “التسهيلات”.
ويعكس استشهاد الشاب محمد العصيبي من قرية حورة بالنقب المحتل، برصاص الاحتلال على أبواب المسجد الأقصى خلال محاولته الدفاع عن إحدى المصليات الفلسطينيات، جانبًا من التصعيد الإسرائيلي في المدينة المقدسة، ومحاولته فرض سيطرته عليه.
ويتعارض ما يشهده المسجد منذ بداية شهر رمضان مع مزاعم الاحتلال التي أعلن عنها قبيل شهر الصوم، بتقديم سلسلة من التسهيلات على دخول المصلين الفلسطينيين من الضفة الغربية لأداء الصلاة أيام الجمعة في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان.
واستبق الاحتلال شهر رمضان بفرض سلسلة من القيود التي ادّعى أنها تسهيلات، إذ سمح بدخول النساء من كل الأعمار والأطفال دون 12 عامًا من دون تصريح، كما يمكن دخول الرجال فوق 55 عامًا من دون تصريح، أما الرجال بين 45 و55 عامًا يشترط دخولهم بحيازة تصريح، وبالنسبة إلى تصاريح الصلاة يمكن تقديم الطلب عن طريق الارتباط الفلسطيني.
وتمّت الموافقة على السماح لسكان الضفة الغربية بالقيام بزيارات عائلية لأقاربهم في الداخل المحتل، وكذلك الزيارات العائلية إلى الضفة للأقارب القادمين من الدول العربية، مؤكدًا أن كافة التصاريح يتم إصدارها تحت الموافقة الأمنية، ويمكن تقديم الطلبات عن طريق الارتباط الفلسطيني.
وينظر فلسطينيًّا إلى هذه الإعلانات على أنها قيود جديدة من خلال الحدّ من دخول الشبان إلى المسجد الأقصى المبارك وحرمانهم من التواجد فيه، في خطوة تبدو مدروسة من أجل عدم التصدي لاقتحامات المستوطنين للمسجد، كما جرى خلال شهر رمضان العامَين الماضيَين.
وبالتوازي مع ذلك، رفض الاحتلال السماح بالاعتكاف اليومي داخل المسجد، واقتصر هذا الأمر على الموافقة على الاعتكاف يومَي الجمعة والسبت إلى جانب الأيام العشرة الأخيرة من الشهر، وهي أيام لا تشهد أي اقتحامات للمستوطنين في الوضع الطبيعي.
القيود على الاعتكاف.. محاولة لمنع التصدي للاقتحامات
قبل أسابيع من شهر رمضان، أطلقت مؤسسات أهلية وهيئات دينية فلسطينية نداءات إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الأردنية (المسؤولة عن الأوقاف الإسلامية في القدس) لفتح باب الاعتكاف في المسجد الأقصى منذ بداية الشهر، أي إبقاء المسجد مفتوحًا بعد منتصف الليل لقيام المصلين ومبيتهم، ولإعماره قبيل اقتحام عيد الفصح العبري المخطّط له في 6 أبريل/ نيسان الجاري، وتحديدًا في منتصف شهر رمضان.
وتلاقت الدعوات الفلسطينية مع إرسال النائب الأردني ينال فريحات في 22 مارس/ آذار الماضي كتابًا إلى رئيس مجلس النواب الأردني، يساءله فيه عن سبب إغلاق باب الاعتكاف في الأقصى، ويطالب بفتحه طوال العام في ظل التهديدات التي يتعرّض لها، لكن كتاب فريحات لم يقابَل بردّ رسمي، شأنه كشأن باقي الدعوات الأهلية.
أما دائرة الأوقاف الإسلامية، المسؤولة المباشرة عن المسجد الأقصى، أعلنت عن موقفها ميدانيًّا من الاعتكاف، حيث طالب مدير المسجد الأقصى، الشيخ عمر الكسواني، ليلة التاسع من رمضان الماضي 2022 المصلين بالتوجُّه للاعتكاف في مساجد البلدة القديمة، لكنهم رفضوا وواصلوا اعتكافهم داخل الأقصى.
كما كشف كتاب موجّه من مدير عام أوقاف القدس، الشيخ عزام الخطيب، في 21 مارس/ آذار 2023 إلى الكسواني، يخبره فيه بقرار مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في القدس، بأن يقتصر الاعتكاف في الأقصى على العشر الأواخر وليلتَي الجمعة والسبت من كل أسبوع في شهر رمضان.
يرى الفلسطينيون أن حماية الأقصى من انتهاكه المقبل لا تتأتّى إلا بالاعتكاف المبكّر فيه، رغم قيود الاحتلال المشددة على دخول المصلين خلال فترة الاقتحامات.
أما ميدانيًّا، فقد نجح المصلون للمرة الثانية منذ احتلال المسجد الأقصى عام 1967 بالاعتكاف فيه ابتداء من ليلة الثاني من رمضان، وتحديدًا مساء الخميس 23 مارس/ آذار الماضي، لكنهم لم يقابَلوا بقمع بسبب توقيت الاعتكاف (ليلة الجمعة) باستثناء اعتقال شرطة الاحتلال من داخل المصلى القبلي معتكفَين (إبراهيم خليل وهارون أبو سنينة) وإبعادهما عن الأقصى.
واستمرَّ وجود المعتكفين ليلة السبت (الليلة الثالثة من رمضان) ثم ليلة الأحد، حيث اقتحمت شرطة الاحتلال المصلى القبلي (فيه يتركز الاعتكاف) وأجبرت العشرات منهم -ومعظمهم من الضفة الغربية والداخل- على مغادرة المسجد الأقصى، وصادرت هواتف بعضهم، واعتقلت 3 منهم، ليقضي البقية ليلتهم في أحد مساجد البلدة القديمة خارج الأقصى.
ونشرت شرطة الاحتلال بعد ذلك بيانًا رسميًّا بررت فيه طرد المعتكفين، قائلة: “بعد انتهاء الصلوات في المسجد الأقصى وإغلاقه تحصّن مئات الأشخاص في المكان، وهذا يناقض تمامًا الاتفاق مع إدارة الأوقاف في رمضان وقواعد المكان.
الخطوات الإسرائيلية الأخيرة خطيرة، إذ يسعى من خلالها لجعل المسجد قضية متنازع عليها، بحيث تخضع للتفاوض بطريقة أو بأخرى ومحاولة تحقيق إنجاز من خلال إدارة مشتركة
وتكرر إجلاء المعتكفين ليلة الاثنين 27 مارس/ آذار الماضي، حيث طرد 30 معتكفًا إلى مسجد في حي القرمي بالبلدة القديمة، لتأمين مواصلة اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، والتي لم تتوقف في رمضان (3297 مستوطنًا اقتحموه خلال مارس/ آذار) وتستمرّ يوميًّا باستثناء الجمعة والسبت، وتقتصر على الفترة الصباحية دون المسائية، مع تمديد الاحتلال الفترة الأولى إلى 4 ساعات ونصف، ما يوضّح أن السماح بالاعتكاف مرهون بأيام اقتحامات المستوطنين.
وللعام الثاني على التوالي يتقاطع عيد الفصح العبري مع شهر رمضان المبارك، حيث اشتعلت الأحداث في المسجد الأقصى في رمضان الماضي بعد اقتحام آلاف المستوطنين بدءًا من 14 رمضان ولمدة 7 أيام، تزامنًا مع محاولات حثيثة لذبح “القربان اليهودي” داخل المسجد الأقصى، الأمر الذي واجهه الفلسطينيون بالاعتكاف والإرباك الصوتي، وسط إصابة واعتقال المئات منهم.
ويرى الفلسطينيون أن حماية الأقصى من انتهاكه المقبل في 6 أبريل/ نيسان الجاري (ويستمرّ 7 أيام) لا تتأتّى إلا بالاعتكاف المبكّر فيه -قبل العشر الأواخر-، رغم قيود الاحتلال المشددة على دخول المصلين خلال فترة الاقتحامات، حيث يمنع الدخول تمامًا أحيانًا أو يشترط أعمارًا معيّنة أحيانًا أخرى، ما يفرغ المسجد من المصلين أثناء الاقتحام.
ذبح القرابين.. مساعٍ إسرائيلية جديدة لواقع مختلف في الأقصى
في 22 مارس/ آذار الماضي نشرت الجماعات الدينية المتطرفة إعلانًا باللغة العبرية في البلدة القديمة للقدس وعلى مواقع التواصل، تغري فيه القاطنين قرب الأقصى بتخزين القرابين مقابل أجر مادي، كما دعت أنصارها للتجمع على أبواب المسجد عشية العيد في 5 أبريل/ نيسان الجاري لذبح القربان.
في الوقت ذاته، أرسل 15 حاخامًا متطرفًا كتابًا إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، يطالبون فيه السماح بذبح القربان داخل الأقصى، إضافة إلى الإعلان لاحقًا عن جوائز مالية أعلاها 5500 دولار لمن ينجح بذبح القربان في المسجد.
وأعلنت “جماعات الهيكل المزعوم” و”حركة نعود للجبل” رصدها مبالغ مالية كمكافآت للمستوطنين الذين يحاولون ذبح قربان في المسجد الأقصى المبارك خلال عيد الفصح اليهودي، مشيرة إلى أنها ستقدّم لمن يتمكن من ذبح القربان داخل المسجد الأقصى 25 ألف شيكل، و2500 شيكل في حال تمَّ اعتقال نشطائها داخل المسجد الأقصى وبحوزتهم القربان (الدولار = 3.60 شيكلات).
وأطلقت الجماعات الاستيطانية المتطرفة دعوات لأنصارها لتنفيذ أكبر اقتحام للمسجد الأقصى خلال عيد الفصح العبري، تزامنًا مع ما أعلنه جيش الاحتلال بفرض إغلاق على الضفة الغربية وقطاع غزة، وإغلاق الحواجز كافة خلال فترة العيد.
כמו בכל שנה, גם השנה אנחנו מבטיחים פיצוי כספי לכל מי שיעצר בדרך להקרבת קרבן פסח!
הקרבת – גאלת!
נעצרת – ניצחת!
רוצים קרבן פסח – עכשיו!#קרבן_פסח_תשפג pic.twitter.com/9Gv29rsZxx
— חוזרים להר (@CozrimLahar) March 31, 2023
قراءة تحليلية.. ما الذي يجري في الأقصى؟
في هذا السياق، يقول الباحث والمختص في شؤون القدس والأقصى، جمال عمرو، إن الخطوات الإسرائيلية الأخيرة خطيرة، إذ يسعى من خلالها لجعل المسجد قضية متنازع عليها، بحيث تخضع للتفاوض بطريقة أو بأخرى ومحاولة تحقيق إنجاز من خلال إدارة مشتركة وفرض التقسيم الزماني والمكاني بأي وسيلة.
ويضيف عمرو لـ”نون بوست” أن هذه الدعوات المدعومة من النظام الرسمي في الاحتلال باتت تمتلك غطاءً رسميًّا لها، لا سيما مع وجود أعضاء وممثلين لها في الحكومة الإسرائيلية الحالية، إلى جانب أعضاء في برلمان المستوطنين “الكنيست”.
ووفق الباحث والمختص في شؤون القدس والأقصى، فإن هناك إدراكًا يهوديًّا بوجود تحركات فلسطينية وإسلامية لتعزيز الحضور في المسجد الأقصى المبارك، وانتزاع الحق المشروع في أداء الاعتكاف خلال أيام شهر الصوم منذ بدايته وحتى نهايته.
ويصف عمرو ما يحصل حاليًّا في المسجد الأقصى بأنها مرحلة “كسر عضم” ولعبة “العض على الأصابع” مع التحركات الإسلامية لانتزاع الحق الشرعي في مسجدهم، وهو ما يتعارض مع توجهات الاحتلال الإسرائيلي الراغب في تغيير الوضع القائم.
ويشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي له اليد الطولة في القدس والأقصى، كما حصل من اعتداء على أحد الفلسطينيين وأدّى إلى استشهاده، في ظل أن الأوقاف الإسلامية مغلوبة على أمرها ولا تمتلك أي صلاحيات حقيقية، كونها لا تمتلك سوى حرّاس للأقصى.
الخطر الشديد بات يكمن في وجود الشخصيات الأكثر تطرفًا، مثل بن غفير وسموتريش، داخل الجسم الحكومي، ما يجعل النظر في طلبات ذبح القرابين مجرد مسرحية
وبحسب عمرو فإن الاحتلال يحاول تفريغ الأوقاف الإسلامية من مهامها ومحاولة جعلها عدوًّا للحاضنة الشعبية، وهو ما يتطلب تعزيز دورها وبات مطلوبًا الجلوس معها للحوار وإخراج جميع العناصر الفاسدة منها، كونها الجسم الأخير المتبقي لحماية الأقصى.
ويقدّر الباحث والمختص في شؤون القدس والأقصى إجمالي أعداد المبعدين عن المسجد منذ بداية شهر رمضان المبارك بأكثر من 70 مرابطًا ومرابطة، وهو رقم كبير، إلى جانب أعداد أخرى لم تسجَّل حتى اللحظة، بالإضافة إلى عمليات الاعتقال التي يقوم بها.
ويرى عمرو أن الخطر الشديد بات يكمن في وجود الشخصيات الأكثر تطرفًا، مثل بن غفير وسموتريش، داخل الجسم الحكومي، ما يجعل النظر في طلبات ذبح القرابين مجرد مسرحية، باعتبار ما يجري عملية تقديم لطلبات بين بعضهم.
في المحصلة، إن إقدام الاحتلال على ذبح القرابين داخل الأقصى أو على أبوابه قد يشعل مواجهة جديدة وهبّة على غرار ما حصل في مايو/ أيار عام 2021، بالتزامن مع تحذيرات أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة بأن “سيف القدس” قد تتكرر حال تمَّ المساس بالأقصى.