نشأت الدولة العثمانية بدايةً كإمارة حدود تركمانية تعمل في خدمة سلطنة سلاجقة الروم وترد الغارات البيزنطية عن ديار الإسلام، ومع مرور الوقت، تحولت الإمارة الصغيرة إلى دولة كبيرة، وبلغت ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
استمر حكم إمبراطورية العثمانيين لأكثر من 6 قرون، وامتدت أراضيها لتشمل أنحاءً واسعةً من قارات العالم القديم الثلاثة – أوروبا وآسيا وإفريقيا – وكان لها دور كبير في توحيد العالم الإسلامي تحت راية واحدة ونشر الإسلام.
رعى العثمانيون الإسلام لقرون طويلة، وقد ظهر ذلك في سائر أيام حكمهم، فقد حكموا بالشريعة الإسلامية ووسعوا على المسلمين وأقاموا المساجد والمدارس في كل مكان.
هذا كان دأبهم في أغلب أيام السنة، فما بالك في شهر رمضان الكريم، فقد كان شهرًا عظيمًا لهم أسوة بالرسول – محمد صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام، وفيه تسابقوا لفعل الطاعات والخيرات، وبالغوا في الاحتفال به توقيرًا له.
نحط الرحال في “نون بوست” ضمن ملفنا “رمضان زمان” هذه المرة، عند الدولة العثمانية، لتقصي احتفالاتهم بالشهر الكريم، وتسليط الضوء على عباداتهم وأبرز العادات التي انتشرت في ذلك الوقت وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.
تسابق للطاعات والخيرات
التحضير لشهر رمضان زمن العثمانيين كان يبدأ مبكرًا، في المنازل والمساجد ومؤسسات الدولة، وكانت مهمة رصد هلال رمضان تسند عادة للقضاة، فكان الناس ينتظرون ولادة الهلال الجديد لتعيين وتحديد بداية الشهر الفضيل.
يصعد بعض الناس أو موظفو الدولة إلى أماكن عالية ومرتفعة من أجل هذه المهمة، وعند رؤية الهلال وتعيينه يذهبون مع اثنين من الشهود إلى القاضي ويخبرونه برؤية الهلال، وعندها يعلن القاضي بداية الشهر المبارك، ثم يسير مبعوث القاضي في الطرقات والأسواق العامة لإعلان قدوم رمضان بصوت جهوري ليعلم الجميع.
اهتم العثمانيون بتزيين المساجد والاعتناء بها طيلة الشهر الفضيل، فأغلب وقتهم يقضونه هناك، فالجميع يحاول استغلال شهر الصيام في كسب الثواب والأجر، إما بقراءة القرآن وتلاوته وإما بدراسة علم الحديث النبوي، فضلًا عن الصلاة.
حرص المسلمون زمن العثمانيين على إقامة صلاة التراويح في المساجد، وجلبوا لذلك أئمة يملكون أصواتًا جميلةً وخاشعةً، وكان المؤذن يقرأ بين كل 4 ركعات بعض الأدعية والآيات القرآنية، وفي آخر الصلاة يقرأ الإمام بعض الآيات القرآنية وبهذا الشكل كانت تنتهي صلاة التراويح.
لم تكن صلاة التراويح حكرًا على الرجال فقط، إذ حضرتها النساء أيضًا، كما كانت تتلى في جميع مساجد المدن والقرى، ختم القرآن الجماعية، وتنشد المدائح النبوية والقصائد الدينية، وتنظم الحلقات الدينية وتعطى الدروس.
من أبرز العادات التي حرص عليها سلاطين العثمانيين في شهر رمضان، تجميع العلماء حولهم ليومين من كل أسبوع في رمضان، لتلاوة القرآن وتفسيره، يتم البدء بتفسير آية من العالم الأكفأ ويسمى هذا العالم بـ”المكرر”، أما العلماء المستمعون فيقال لهم “المخاطبون”.
كانت هذه الدروس تستمر لمدة لساعتين، وكانت تعطى، بشكل عام، في وقت الظهيرة، وبدأت هذه الدروس تعطى في زمن السلطان العثماني الأول الغازي عثمان، واستمرت إلى أن أصبحت رسمية في زمن مراد الرابع (وهو السلطان الـ17 للدولة العثمانية) الذي أمر العلماء بإلقائها في المساجد أيضًا.
كما برزت في العهد العثماني عادة رمضانية تسمى “خروج الجرة”، وتتمثل في منح عطلة للمدارس مدتها ثلاثة أشهر، يتم فيها إرسال طلبة مدارس مختارة إلى مناطق وقرى مختلفة من أراضي الدولة بهدف دعم معلوماتهم وتعليم الناس أمور دينهم، وتسند لهؤلاء الطلاب مهمة إمامة الناس ورفع الأذان في المساجد ويحصلون مقابل ذلك على النقود والأرزاق.
الاهتمام بالرعية والفقراء
أظهر سلاطين الدولة العثمانية اهتمامًا كبيرًا بالرعية خلال شهر رمضان، وحرصوا على إقامة موائد الإفطار في قصر الحكم، وكانت تسمى بأسماء سور القرآن الكريم لإضفاء المهابة عليها، وتشير بعض المراجع التاريخية إلى حرص القائمين على إعدادها على نقش أسماء الضيوف والموائد على ملاعق الطعام الخشبية.
من ثم يتم وضع هذه الملاعق، في سلة يستقبل بها الضيوف فيأخذ كل ضيف ملعقته الخاصة ويذهب للجلوس على المائدة المخصصة، وكان المشرفون حريصين على أن يجلس الفقراء بجانب الأغنياء لإخفاء الفوارق الطبقية بين الناس.
كما أشرف رجال الدولة العثمانية على نحر الأضاحي المختلفة في الأماكن العامة والساحات الواسعة أو على أبواب المساجد والمدن الكبرى، مع الأمر بتوزيع هذه اللحوم على الناس خاصة الفقراء منهم وذوي الحاجة، عملًا بتوصيات الرسول.
لم يكن اهتمام العثمانيين في شهر رمضان منصبًا على الطاعات فقط، فللفرح نصيب أيضًا
إلى جانب ذلك، يعمد حكام الدولة في رمضان إلى تحديد أسعار المواد الغذائية وتسجيل هذه الأسعار في وثائق يقال لها “دفتر النرخ” أو “دفتر الأسعار”، ويؤمر أئمة الأحياء بإيصال هذه الوثائق إلى البقالين، لحماية الناس من “جشع” بعض التجار في الشهر الفضيل.
وكانت السبل المنتشرة في كل مدن الدولة العثمانية، تملأ بالشراب والعصائر في شهر رمضان، عوضًا عن الماء، فإذا أراد أحد المارة في الشوارع أن يشرب شرابًا أو عصيرًا، فما عليه إلا أن يذهب إلى سبيل من السبل العامة.
لم يكن الاهتمام بالفقراء موكولًا للسلاطين فقط، فقد اجتهد الأغنياء أيضًا في ذلك، فكان العديد منهم يطوفون بالأسواق ويدخلون على البائعين لطلب دفاتر الدائنين لديهم، ومن ثم يختارون صفحات عشوائية ويسددون ما بها من دين.
كما يحرص الأغنياء على توزيع الاحتياجات الأساسية، مثل الخبز والشعير والأرز والزيت واللحم والحمص والعسل والقهوة والشمع والقطن على الفقراء، لإدخال البسمة إلى منازلهم ومساعدتهم على إقامة شعيرة الصوم على أفضل حال.
ليس هذا فقط، إذ يقوم هؤلاء أيضًا بتنظيم موائد إفطار في منازلهم، يدعون لها عامة الناس وخاصتهم، وتقدم فيها أشهى أنواع الطعام والمشروبات، وعند الانتهاء من الإفطار يمنح صاحب الدعوة الضيوف أكياسًا مخمليةً تحتوي على أطباق فضية وسبح من الكهرمان وخواتم من الفضة على شكل هدايا.
أما الفقراء فيعطيهم أكياسًا مخمليةً تحتوي على نقود فضية أو ذهبية على حسب كرم صاحب الدعوة، وكانت هذه الأعطية أو الهدية تسمى “أجرة السن” أو الأسنان أي أجرة أسنان المدعوين الذين لبوا الدعوة وأصبحوا سببًا في كسب صاحب الدعوة للثواب.
عادات أخرى
اعتاد السلطان العثماني في رمضان، زيارة جناح الأمانات المقدسة، كما حرصوا على تنظيف غرفة البردة الشريفة في قصر توب كابي التي تحتوي على أغراض النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تعرض العباءة لعموم الناس، بعد الخامس عشر من الشهر الكريم.
وإلى اليوم تحفظ البردة الشريفة في الجامع الذي يحمل اسمها بإسطنبول، وهي البردة التي أخذها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، للتابعي أويس القرني، ويسمح للزوار اعتبارًا من الجمعة الأولى من كل رمضان بزيارة البردة الشريفة، حتى أواخر الشهر الفضيل.
يذكر أن بعض أجزاء البردة تعرضت للتلف بسبب طريقة الحفظ التي كانت متبعة، وهو ما دفع المشرفون عليها لترميمها وحفظها بوسائل حديثة، وقد اكتشف المرممون خلو البردة من أي نوع من الميكروبات عكس عمامة وحزام أويس القرني رغم حفظهم جميعًا في الصندوق نفسه.
من العادات الجميلة زمن العثمانيين، التي ما زالت سارية إلى يومنا هذا “صيام العصافير” أي الأطفال الذين استطاعوا أن يصوموا كامل اليوم، أما الأطفال الذين لا يستطيعون إكمال الصيام فيصومون فترة معينة من النهار، وغالبًا ما تكون من الإمساك حتى وقت الظهيرة، حيث يفطرهم ذووهم ويسمى صيامهم “صيام القارب”.
ولتشجيع الأطفال على الصيام، كانت الدولة العثمانية تقيم موائد إفطار جماعية للأطفال ويكافئونهم بالمال والهدايا على إتمام الصيام حتى وقت صلاة المغرب، كما تسند الهدايا والمكافآت للأطفال الذي لم يكملوا صومهم أيضًا.
من عادة العثمانيين في رمضان أيضًا “المحيا”، وهي عبارة عن زينة تعلق بين مئذنتي المساجد، مكتوب عليها رسائل ترحيب بشهر رمضان أو عبارات دينية بشبكة من المصابيح الزيتية، ولا تزال تركيا تحتفظ بهذه المراسم إلى الآن، إلا أنه تم استبدال الأضواء الزيتية بلافتات ضوئية مصنوعة من أسلاك ممدودة بين مئذنتي الجوامع، فيما استبدلت الكتابة إلى الأحرف اللاتينية.
احتفالات ومهرجانات
لم يكن اهتمام العثمانيين في شهر رمضان منصبًا على الطاعات فقط، فللفرح نصيب أيضًا، فقد كان الشهر الفضيل بمثابة المهرجان عندهم، خاصة في الليل، حيث تتزين الشوارع ويخرج الأطفال للعب وتفتح المحلات وتنتشر الفرحة في كل مكان.
في ليل رمضان زمن العثمانيين، كانت تنظم العديد من الفعاليات الترفيهية، منها “أورطه أوينو” وهي المسرح المقام بين الناس على نحو ارتجالي من دون نص ليظهر الموهوبون مهاراتهم فيه، وكانت هذه الفعاليات تستمر حتى وقت السحور من كل ليلة طيلة شهر رمضان المبارك.
صحيح أن المدفع ظهر بداية في القاهرة، إلا أن تكريسه في العالم الإسلامي كان بفضل العثمانيين
برز أيضًا “الأراجوز” وهو أحد الفنون التي ظهرت في القرن الرابع عشر في عهد السلطان بايزيد الأول، و”الأراجوز” هو أحد الأشكال التي تنتمي لما يعرف باسم “مسرح العرائس” وهو على وجه الدقة عبارة عن دمية قفاز، حيث نجد رأسه مصنوعًا من خامة خفيفة وصلبة كالخشب، مرسومًا عليه وجه له تعبيرات حادة، وينتهي من أعلى بـ”طرطور أحمر اللون”، أما وسط الدمية وصدرها فهما عبارة عن جلباب أحمر طويل، ويداه قطعتان من الخشب.
وبرز في ليالي رمضان أيضا “المداح” أي الحكواتي، من خلال زيه العجيب الذي يرتديه وحكاياته التي ينقلها للجمهور بعد صلاة العشاء، وخلالها يقوم بحركات وتعبيرات وتقليد أصوات كنوع من المسرحة للقصص التي يرويها.
مدفع رمضان
تطور الاحتفال برمضان في عهد العثمانيين والاهتمام به، وقد خصصوا مدافع للإعلان عن موعد الإفطار والسحور أيضًا، يقول شهاب الدين الحلاق البديري في كتابه “حوادث دمشق اليومية” إنه في سنة 1155هجريًا/1742ميلاديًا “كان هلال رمضان.. وأشعلت القناديل في سائر مآذن الشام، وضربت “مدافع الإثبات” في منتصف الليل، وحصل للناس زحمة في حركة السحور، حتى فتحت دكاكين الطعام ليلا كالخبازين والسمانين”.
نفس الشي في باقي المدن الكبرى، ففي إسطنبول كانت تطلق المدافع وقت الإفطار وبعد منتصف الليل كتنبيه لدخول موعد السحور، ومن ثم يتم النداء من مآذن المساجد بالصلاة على النبي كتنبيه باقتراب موعد الإمساك، ومن ثم يؤذن بعدها.
اطلاق مدفع رمضان في القدس خلال فترة الحكم العثماني pic.twitter.com/dzIecFyHbz
— المركز الفلسطيني للإعلام (@PalinfoAr) June 9, 2016
صحيح أن المدفع ظهر بداية في القاهرة، إلا أن تكريسه في العالم الإسلامي كان بفضل العثمانيين، إذ منحوا المدفع الرمضاني أولوية كبيرة لدرجة العشق، ووظفوا أشخاصًا للاعتناء به، وما زال هذا التقليد حاضرًا في بقاع إسلامية عديدة في شهر رمضان.
تذكر كتب التاريخ أن المدافع كانت موجودة في غالبية المدن والدول والأقاليم الواقعة تحت الحكم العثماني في الشرق الأوسط وبلاد الشام كسوريا ولبنان ومصر وفلسطين والعديد من المدن الفلسطينية وفي شمال إفريقيا.
لا تقتصر مهمة المدفع على إعلان موعد الإفطار والسحور فقط، إنما تصل أيضًا إلى الإعلان عن موعد شهر الصيام والعيد، ففي مساء يوم الـ29 من شهر شعبان، كانت 21 طلقة تطلق من فوهة المدفع تبشيرًا برؤية الهلال، ويطلق العدد نفسه من الطلقات عند ثبوت هلال شهر شوال احتفالًا باستقبال عيد الفطر.