باتت فنلندا رسميًا العضو الـ31 في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد استكمال وزير خارجيتها بيكا هافيستو عملية الانضمام بتسليمه وثيقة رسمية لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ورفع العلم الفنلندي رمزيًا بمقر الحلف في بروكسل، لتطوي هلسنكي سياسة عدم الانحياز التي التزمت بها طيلة العقود الثلاث الماضية.
الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو أشاد بهذا التحول الذي اعتبره خطوة أولية نحو مرحلة جديدة في مسيرة بلاده، مضيفًا أن “حقبة عدم الانحياز العسكري في تاريخنا انتهت وبدأت حقبة جديدة”، فيما وصف رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عملية الانضمام بـ “الحدث التاريخي”، مطالبًا أعضاء الحلف بالموافقة على انضمام السويد كذلك.
وبينما ينظر الغرب لما حدث على أنه إنجاز يستوجب الاحتفاء والإشادة وتحريك مهم في توسيع نفوذ التحالف شرقًا، ترى موسكو أن ما حدث إعلان عداء واضح من فنلندا للدولة الروسية، استنادًا إلى تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين في 2016 حين قال: “حينما ننظر إلى ما وراء حدودنا اليوم، نرى فنلندا في الجانب المقابل، إذا انضمت فنلندا إلى الناتو، فإننا سنرى عدوًا”.
ويمثل هذا القرار محطة مفصلية في خريطة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وإعادة ترتيب لمعادلة توازن القوى في تلك المنطقة اللوجستية الواقعة شرق أوروبا وغرب آسيا، وسط مخاوف من احتمالية أن تكون تلك الخطوة بارودًا لمعارك قادمة بين موسكو والناتو كفيلة بأن تشعل المنطقة وتضعها فوق فوهة بركان، الأمر قد يتعاظم إذا تراجعت تركيا والمجر عن موقفيهما ووافقا على انضمام السويد إلى التحالف.
نائب المتحدث باسم الخارجية، فيدانت باتل: مثّل أمس يومًا تاريخيًا حيث احتفلنا بالذكرى السنوية الـ 74 لحلف الناتو، ورحّبنا بفنلندا كعضو جديد في الناتو. https://t.co/9ZnrTwS8rf
— الخارجية الأمريكية (@USAbilAraby) April 5, 2023
الحرب الأوكرانية كلمة السر
قبل 24 فبراير/شباط 2022 لم تكن فكرة الانضمام للناتو قد تخمرت بعد في عقلية الفنلنديين، إذ حافظت هلسنكي منذ الاستقلال عام 1917 على علاقة الحياد مع الاتحاد السوفيتي ومن بعده روسيا، الأمر ذاته مع جيرانها ذات التماس الحدودي معها: السويد (غربًا) والنرويج (شمالًا) وإستونيا (جنوبًا).
لكن سرعان ما تغير الأمر بعد الحرب التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا، العام الماضي، ومحاولة السيطرة على الدولة والشعب، وتغيير الجغرافيا السياسية في المنطقة لصالح طموحات بوتين التوسعية ومساعيه لإحياء الإمبراطورية السوفيتية القديمة على حساب دول الجوار.
ورغم أن الغزو الروسي لأوكرانيا بدأ في 2014 وأسفر عن سيطرة الروس على شبه جزيرة القرم، فإن المبررات التي ساقتها موسكو حينها، ورسائل الطمأنة المقدمة للجيران، حالت دون انفجار الموقف لدى فنلندا والسويد، وتغيير سياستهما التي تعتمد على التوازن والمقاربة في العلاقات بين روسيا من جانب وأوروبا من جانب آخر، رغم ما أثارته تلك الخطوة من تنامي مشاعر القلق لدى الشعبين في ذلك الوقت.
ومع الانقلاب على المبررات السابقة وإسقاط القناع عن أطماع الروس في المنطقة من خلال استهداف كييف نفسها، تحول القلق إلى كابوس دفع هلسنكي وستوكهولم للتفكير مليًا في سياسة الحياد المتبعة التي ربما تكلفهما الكثير، في ظل الرعب من تكرار السيناريو الأوكراني فوق أرضيهما، ومن هنا كان التحرك.
وبعد أقل من 3 أشهر على شن الروس هجماتهم على أوكرانيا، وبالتحديد في مايو/أيار 2022 طلبت فنلندا والسويد، رسميًا الانضمام لحلف شمال الأطلسي، كخطوة استباقية للتخندق إلى جانب تحالف قوي يضمن الأمن والاستقرار للبلدين في مواجهة الأطماع والتهديدات الروسية (البند الخامس من ميثاق الناتو ينص على أنه إذا تعرضت دولة عضو لهجوم مسلح فإن الدول الأخرى ستعتبر هذا العمل هجومًا مسلحًا موجهًا ضد كل الأعضاء، وستتخذ الإجراءات التي تعتبر ضرورية لتقديم المساعدة للبلد المستهدف)، تلك الخطوة عززتها بطبيعة الحال الضغوط الأوروبية والأمريكية الممارسة على الدولتين للانضمام لهذا التحالف في إطار سياسة التوسع شرقًا.
وقد ألمح الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى دور تلك الحرب في انضمام فنلندا للناتو من خلال بيانه الصادر للترحيب بتلك الخطوة، حيث قال: “حين شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه العدوانية الوحشية على الشعب الأوكراني أعتقد أنه سيتمكن من إحداث انقسام في أوروبا وحلف شمال الأطلسي وقد كان مخطئًا، واليوم نحن موحدون أكثر من أي وقت مضى”، التصريح ذاته قاله وزير خارجيته، بلينكن، الذي قدم الشكر لموسكو على تلك الخدمة التي منحتها على طبق من ذهب للناتو لتوسعة نفوذه.
ويمثل انضمام فنلندا للتحالف إضافة كبيرة على المستوى اللوجستي والعسكري، حيث إثراء جيوش الناتو بجيش جديد قوامه أكثر من 280 ألف مجند، فضلًا عن ترسانة متطورة من الأسلحة، هذا بخلاف الموقع الجيوسياسي الإستراتيجي الذي يعزز دفاعات الناتو على حدود البلطيق المكشوفة والرخوة عسكريًا.
روسيا تحت أعين الناتو
ضربة موجعة على المستوى الأمني تلقتها موسكو بتلك الخطوة، فقبل 4 أبريل/نيسان 2023 كانت المساحة التي تتشاركها روسيا حدوديًا مع البلدان الداعمة والمدعومة من الغرب لا تتجاوز 1500 كيلومتر، هي مساحة الحدود بينها وبين أوكرانيا، لكن اليوم وبعد انضمام فنلندا زادت تلك المساحة 1300 كيلومتر جديدة هي إجمالي مساحة الحدود المشتركة بين فنلندا وروسيا، ليصبح إجمالي الحدود المشتركة بين روسيا والدول المنتمية للمعسكر الغربي 2800 كيلومتر وهو رقم كبير يحمل بين طياته تهديدات عدة للأمن القومي الروسي.
وعليه فإن هذا الانضمام يعني بشكل ميداني تطويق روسيا من الناحية الشمالية بالأذرع الأطلسية الغربية، وتوسيع منطقة التشارك الحدودي بينهما من المحيط الشمالي المتجمد إلى بحر البلطيق الذي كان يعد بالأمس أحد المناطق الرخوة في نفوذ الناتو لصالح الهيمنة الروسية عليه بشكل كامل.
ومن الناحية اللوجستية فإن 2800 كيلومتر من الحدود المشتركة ستجعل معظم أنشطة روسيا تحت سمع وبصر الناتو، بل إن انضمام فنلندا يمنح التحالف الأطلسي فرصة قطع الطريق البحري الوحيد الواصل بين مدينة سان بطرسبرغ وكالينينغراد، ما يعني شل حركة التواصل بينهما بشكل كبير، باختصار منحت فنلندا الأمريكان والأوروبيون مقعدًا ثابتًا في الحديقة الخلفية للروس.
ومما يزيد من تعميق الأزمة روسيًا، متاخمة فنلندا لشبه جزيرة كولا التي تعد المخزن الإستراتيجي الأهم لترسانة الأسلحة الروسية، التي يطلق عليها إعلاميًا “أسلحة يوم القيامة” (في إشارة إلى الغواصمة “بيلغورود” القادرة على حمل 100 ميغا طن من الأسلحة النووية) تلك الجزيرة التي ظلت حتى اليوم مؤمنة بشكل كامل في ظل تحصينها بصواريخ قصيرة وطويلة المدى، لكن بعد خضوع فنلندا لسيادة الناتو فإن الوضع سيختلف كثيرًا، فترسانة السلاح الروسي بأكملها في مرمى هجمات الناتو إذا ما أراد.
عاجل | الكرملين: انضمام فنلندا إلى النيتو لا يعزز الاستقرار والأمن في أوروبا ويشكل تهديدا لروسيا
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) April 5, 2023
تحركات استباقية
حاولت موسكو التزام الاتزان في ردود فعلها على انضمام فنلندا للناتو، ساعية في بداية الأمر إلى التقليل من تلك الخطوة، فيما جاءت التصريحات متضاربة وتعكس حالة من التناقض في قراءة الموقف، فبينما اكتفى بوتين بوصف ما حدث بـ”الخطأ” وأنه لا مشكلة لدى روسيا بهذا التخندق وإن لم يكن هناك تخوفات أمنية تستدعي ذلك، وصف الكرملين القرار بأنه هجوم على أمن الدولة الروسية التي ستتخذ إجراءات مضادة، بينما قال المتحدث باسم البرلمان، ديمتري بيسكوف: “الكريملين يعتقد أن هذا هو أحدث تفاقم للوضع”، مضيفًا “توسع الناتو يعد اعتداءً على أمننا ومصالح روسيا القومية”.
وقبيل بيان إعلان الانضمام الرسمي استبقت موسكو الموقف بتعزيز القدرات التسليحية للحليف البيلاروسي، حيث تم تزويده بالمروحيات والطائرات المتطورة، هذا بخلاف صواريخ “إسكندر” الباليستية المصممة لاستيعاب رؤوس نووية قابلة للتحكم عن بعد، وهي التي منحت الروس تفوقًا كبيرًا في ميزان الردع الإستراتيجي طيلة السنوات الماضية.
تسليح بيلاروسيا بهذه النوعيات من الأسلحة المتطورة والفتاكة يعكس تنسيقًا كبيرًا بين البلدين وتفاهمًا واضحا في التخندق العسكري وضمان الروس لولاء مينسك الكامل واستعدادها لخوض غمار المواجهة حال نشوب أي مواجهات مع دول الناتو، مع الوضع في الاعتبار القوة العسكرية للحليف الروسي الذي يمتلك جيشًا قوامه قرابة 450 ألف جندي.
وستحاول موسكو جاهدة خلال الأيام المقبلة نقل ساحة المواجهة من الداخل الروسي إلى الخارج من خلال المنصة البيلاروسية التي ستمثل حائط صد أولي لضمان وحماية الأمن القومي الروسي، وليس بمستبعد تزويدها برؤوس نووية تكون على أهبة الاستعداد، وهي الخطوة التي إن حدثت ستقلب الموازين، لكنها مغامرة محفوفة المخاطر أن تمتلك دولة بحجم بيلاروسيا مثل هذا النوع من الأسلحة الذي قد يمثل تهديدًا مستقبليًا لموسكو ذاتها إذا تعرضت العلاقات بين الجارتين للتوتر.
ماذا عن السويد؟
انضمام فنلندا بشكل رسمي بعد ماراثون من المناقشات والتفاهمات بين دول التحالف الرافضة وعلى رأسها تركيا، فتح الباب بطبيعة الحال أمام الحديث عن مسألة انضمام السويد التي تقدمت مع فنلندا في نفس التوقيت للحصول على عضوية الحلف للأسباب والمخاوف ذاتها.
قادة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرهم أعربوا عن أمانيهم بأن تنضم ستوكهولم للحلف الأطلسي في أسرع وقت، باعتبار أن انضمام البلدين للتحالف سيزيده قوةً وثباتًا ويجعله أكثر نفوذًا لضمان أمن الفضاء الأوروبي – الأطلسي، وتمثل تركيا والمجر العقبتين الوحيدتين أمام إتمام عملية الانضمام بسبب عدم تنفيذ السويد للضمانات الأمنية التي تطلبها الدولتان كشرط مسبق للموافقة على تلك الخطوة.
وفي تعليقه على هذا الملف قال وزير الخارجية الليتواني غابريلوس لاندسيرغيس: “نأمل في أن يرفرف علم السويد في حلف الأطلسي خلال قمة فيلنيوس”، مناشدًا الرئيس أردوغان بعدم نسف تلك القمة والموافقة على عملية الانضمام التي يبدو أنها لن تقف عند حاجز هلسنكي وستوكهولم فقط.
وعلى الأرجح فإن عملية انضمام السويد للناتو باتت مسألة وقت لا أكثر في ضوء تلك التطورات وحروب الاستقطاب المشتعلة حاليًّا، فمع تصاعد التخوفات جراء رد الفعل الروسي المتوقع أن يتصاعد مع الموقف الفنلندي الأخير، واستشعار ستوكهولم – بعدما كشفت عن نواياها الحقيقية في الانضمام للمعسكر الغربي – للخطر المحدق في مواجهة طموحات القيصر، من المتوقع أن تكون هناك ضغوطات غربية على أنقرة مع مرونة أكبر من الجانب السويدي للتوصل إلى تفاهمات وضمانات مرضية للأتراك والمجريين للموافقة على عملية الانضمام.
في المجمل يمكن القول إن انضمام فنلندا رسميًا لحلف الناتو يعد انتصارًا كبيرًا – على الورق – للمعسكر الغربي وهزيمة مدوية لروسيا ومعسكرها، غير أن المعركة لن تنته عند تلك الجولة، فمن الواضح أن هناك جولات أخرى لم تكشف بعد عن ملامحها، ومن السابق لأوانه تقييم هذا الانتصار لوجستيًا في سياق صراع النفوذ بين المعسكرين، لكن المؤكد أن ما كان قبل 4 أبريل/نيسان 2023 لن يكون كما بعده فيما يتعلق بخريطة توازن القوى في تلك المنطقة.