كما كان متوقعًا، أخذت الأحداث في المسجد الأقصى طابعًا عنيفًا بعد القمع الإسرائيلي للمرابطين في قبلة المسلمين الأولى، بالتزامن مع احتفالات ما يسمّى “عيد الفصح اليهودي” ومحاولة ذبح القرابين من قبل المستوطنين الإسرائيليين داخل المسجد.
وعلى مدار يومَين تحوّل المصلى القبلي إلى ساحة حرب ومواجهة، بعدما حطمت قوات الاحتلال نوافذ المصلى وحاصرت مئات المصلين والمعتكفين بداخله، وأطلقت وابلًا كثيفًا من الأعيرة المطاطية وقنابل الصوت والغاز السام باتجاههم.
وخلال هذين اليومَين عاش المرابطون والمرابطات أوقاتًا مؤلمة وعصيبة، نتيجة استخدام قوات الاحتلال القوة المفرطة، واعتداءاتها الوحشية على المتواجدين بالمصلى القبلي بأعقاب البنادق والهراوات في محاولة لإخلائهم وتفريغ المسجد الأقصى منهم، إلى جانب الغاز.
ووثّقت مقاطع فيديو تمَّ تصويرها من قبل المعتكفين داخل الأقصى لحظات قاسية عاشها المرابطون في الأقصى، نتيجة للقمع الوحشي من قبل شرطة الاحتلال الإسرائيلي، حيث عمد أفراد الشرطة الإسرائيلية التنكيل بشكلٍ كبير بالشباب والنساء على حدٍّ سواء.
ومع تتابُع الاعتداءات عاشت الساحة الفلسطينية ككُلّ أجواء من الغضب، رافقتها عمليات إطلاق نار استهدفت غالبية حواجز الاحتلال المنتشرة في الضفة الغربية المحتلة، من قبل الخلايا العسكرية المحسوبة على المقاومة الفلسطينية في عدد من مدن الضفة.
أما غزة، فقد كانت حاضرة هي الأخرى في المشهد من خلال عمليات إطلاق الصواريخ التي استهدفت مستوطنات في غلاف غزة وبعض المدن المحتلة القريبة من القطاع، في حين قصفت الطائرات الإسرائيلية مواقع تتبع للمقاومة في غزة.
سيناريو شبيه بـ”سيف القدس” عام 2021.. أم اختلفت الصورة؟
أمام تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية والردّ السريع الأولي لقوى المقاومة الفلسطينية في غزة، المتمثل في إطلاق الصواريخ والتبني العملي لها، يشكّل ما يجري نموذجًا مصغّرًا لما حصل عام 2021 خلال معركة “سيف القدس”، التي اندلعت شرارتها كردة فعل فلسطينية دفاعًا عن الأقصى.
وتشكّل الاقتحامات الاستفزازية وتنكيل شرطة الاحتلال الإسرائيلي بالمصلين، من النساء والرجال على حدٍّ سواء، رافعة للتصعيد، وتعزز من فرص اندلاع مواجهة جديدة، لا سيما أن التنكيل الإسرائيلي في أعقاب سيف القدس أخذ أشكالًا أعنف، في محاولة للنيل من الصورة التي سعت المقاومة لرسمها.
ويوضّح ما يجري أن الاحتلال يتقدم بقوته الغاشمة لفرض أجندته التهويدية فيه بشكل حاسم، عبر القوة العدوانية ومحاولة جعلها روتينًا دوريًّا متوقعًا لا يؤدّي إلى استجلاب أي ردود فعل فلسطينية أو عربية وإسلامية تغيّر من الشكل الذي يسعى إلى فرضه.
ويرى بعض المراقبين أن الاعتداءات الأخيرة على المعتكفين لم تكن لتمرير اقتحامات المستوطنين فقط، بل كانت أيضًا تسعى بكل إصرار إلى كسر سيفٍ للقدس شرعه الناس بمقاومتهم قبل عامَين من اليوم، وسحب أي منجز نضالي شعبي حققوه ودفعوا ثمنه بدمائهم وحرياتهم.
ومنذ عام 2021 عمل الاحتلال على تصعيد إجراءاته ضد المرابطين وكثّف تعاونه مع منظمات الهيكل، وللعام الثاني على التوالي يعمل لتثبيت شكل أشد عُتُوًّا من الاقتحام، يكون الهدف المباشر فيه استئصال الوجود في المصلى القبلي، وتُكسر لأجل ذلك العيادات والنوافذ والأبواب.
في هذا السياق، يقول خطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، الشيخ عكرمة صبري، إن ما حصل هو تكرار لما حصل العام الماضي والعام الذي سبقه، وهو ما يعكس النوايا العدوانية بحقّ المسجد الأقصى المبارك.
اعتقل الاحتلال ما يزيد عن 400 شاب من المعتكفين داخل الأقصى من أجل تفريغ المسجد الأقصى المبارك من المرابطين فيه
ويضيف الشيخ صبري لـ”نون بوست” أن ما يجري يؤكد على طمع اليهود في الأقصى، وعلى مساعيهم الرامية للسيطرة وفرض السيادة عليه، وبالتالي إن إدخال القرابين وذبحها هي محاولة لإشعار يهود العالم بأن الحكومة الإسرائيلية هي المسيطرة على الأقصى، وهي القادرة على القيام بشعائرها الدينية فيه من أجل تشجيع يهود العالم للقدوم إلى فلسطين.
ويرى خطيب المسجد الأقصى أن الإسرائيليين لديهم مشروع التقسيم الزماني والمكاني، وهو قائم منذ أكثر من 10 سنوات، غير أنه يفشل في كل عام أمام صمود المعتكفين والمرابطين داخل المسجد الأقصى، وهو ما يدفع نحو إخلائه ويعكس فشلًا في السيطرة عليه.
ووفق الشيخ صبري، اعتقل الاحتلال ما يزيد عن 400 شاب من المعتكفين داخل الأقصى من أجل تفريغ المسجد الأقصى المبارك من المرابطين فيه، وضمن مساعيه لتمرير الاقتحامات التي ينفّذها المستوطنون دون اشتباكات أو تصدٍّ من أحد.
الفصائل تلوّح بالقوة العسكرية.. سيف القدس ما زال مشرعًا
أما الفصائل الفلسطينية في غزة فلوّحت هي الأخرى بالقوة العسكرية والرد من قبل أذرعها العسكرية على ما يحصل في المسجد الأقصى من انتهاكات وصفتها بـ”الخطيرة وغير المسبوقة”، على اعتبار أن ما يحصل مشابه لما كان قبل عامَين وتسبّب في اندلاع معركة “سيف القدس”.
في هذا السياق، يؤكّد مسؤول مكتب القدس في حركة حماس وعضو مكتبها السياسي، هارون ناصر الدين، في تعليقه لـ”نون بوست” على ما جرى في الأقصى، أن الاحتلال يتحمل مسؤولية العدوان الهمجي على الأقصى وسيدفع ثمن هذا الاعتداء.
ووفق حديث ناصر الدين، فإن الفلسطينيين سيكونون موحّدين لإفشال مخططات الاحتلال بالسيطرة على المسجد الأقصى واقتحامه وتنفيذ المستوطنين لما يسمّى “ذبح القرابين”، إلى جانب تعزيز التواجد في الأقصى والاعتكاف بداخله لإفشال المخططات الإسرائيلية.
ويواصل قائلًا: “المقاومة الباسلة التي قالت كلمتها في كل مرة، ستقول كلمتها هذه المرة، وبالطريقة التي يقررها شعبنا الذي يبدع دومًا في الدفاع عن حقوقه ومقدساته، في المقابل إن المخاطر التي يتعرض لها الأقصى اليوم لم تُبقِ عذرًا لأحد في الأمة العربية والإسلامية”.
ما يجري هو عملية نقل للمسجد الأقصى من خانة المقدس الإسلامي إلى خانة المقدس المشترك
في المقابل، اعتبر مدير المكتب الإعلامي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، داود شهاب، أن الموقف من عدوان الاحتلال على الأقصى عبّرت عنه المقاومة بالصواريخ التي لم تكن سوى رسالة تحذير أولية للاحتلال من مغبّة التمادي في العدوان على المعتكفين والمصلين في المسجد الأقصى.
ويقول شهاب لـ”نون بوست” إن هذه الرسالة جاءت في توقيت متزامن مع عدد من عمليات إطلاق النار في الضفة الغربية، لتدلّل على أن معركة الدفاع عن الأقصى ستشمل كل مناطق الضفة وغزة والقدس والداخل المحتل، ما يعني أن الشعب الفلسطيني مستعدّ ومتأهّب للدفاع عن الأقصى وسيذهب للمواجهة مهما بلغت التضحيات.
من المقدس الإسلامي إلى “المقدس المشترك”
ما يجري في الأقصى خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة مريب، إذ يعلن الاحتلال بشكل متكرر عن نيته الحفاظ على الوضع القائم في قبلة المسلمين الأولى، لكن على أرض الواقع ينفّذ مخططات مختلفة تمامًا.
من جهته، يقول الباحث والمختص في شؤون القدس، زياد بحيص، إن ما يجري هو عملية نقل للمسجد الأقصى من خانة المقدس الإسلامي إلى خانة المقدس المشترك، بحيث يتم إعادة تعريف المسجد كشيء مقدس، وهو مخطط أكبر من مخطط التقسيم الزماني والمكاني.
ويوضّح بحيص لـ”نون بوست” أن هذا المخطط ذو طبيعة أخطر، كونه يحوّل المسجد الأقصى بشكل عملي ليصبح تحت الإدارة الإسرائيلية بشكل كامل، فيما تكون شرطة الاحتلال هي صاحبة الإدارة فيما يتعلق بأداء الصلوات الخاصة بالمسلمين واليهود.
ووفق الباحث والمختص في شؤون القدس، فإن شرطة الاحتلال باتت تتبنّى “عدوان الفصح” باعتباره سياسة مركزية للاحتلال، وأنه لا بدَّ من إدخال المستوطنين إلى المسجد بأي ثمن ووضع مخططات لأجل ذلك، وبالتالي هم ذاهبون لفرض هذا العدوان بأي ثمن.
ويشير إلى أن الاعتداءات الأخيرة على المعتكفين تستهدف منع التواجد الفلسطيني، حتى وإن كان بالحد الأدنى، ليصبح الاقتحام في أوقات “عيد الفصح” أمرًا اعتياديًّا ومقبولًا للجميع، ضمن سياسة فرض الأمر الواقع في المسجد الأقصى.
ويحذّر بحيص من ضرورة عدم الاستخفاف بمحاولات إدخال القرابين إلى الأقصى، إذ إنها محاولات جدّية تختلف عن السنوات السابقة، فوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير هو عضو في جماعات الهيكل، وكان متطوعًا في الدفاع عن المعتقلين الإسرائيليين الذين يتم اعتقالهم بسبب القرابين.