هكذا نظنّ فاللحظة مواتية، ولا بأس أن ننسب هذه المكرمة إلى الانقلاب، لقد عرّى كل الخَوَر الذي تقوم عليه الدولة، وكل الخَوَر الذي يغطيه المجتمع بخطابات مستنفدة، ونزعم الآن أن الحماس للثورة في انطلاقاتها قد منع الجميع من رؤية مواضع التغيير وأماكن التدخل التعديلي على البناء السياسي وعلى المؤسسات، خاصة في عالم الأفكار وأطروحات الحكم التي كانت انتهت قبل الثورة وفقدت قدراتها على الإقناع والقيادة.
غياب خريطة بناء ديمقراطي سمح باستعادة الخرائط القديمة واستعمالها ضد الثورة في النخب نفسها، التي بررت للديكتاتورية وحمتها واحتمت بها.
الخريطة القديمة لم تدلنا على الكنز
كانت هناك خريطة كلاسيكية مستعارة وغير محلية بين أيدَي النشطاء (كل ثورة لا بدَّ أن تكتب دستورها وتعيد تأسيس الدولة التي ترغب في بنائها). لقد حصل ذلك فعلًا في تونس ووُضع دستور جديد، لعبة وضع الدساتير هي لعبة نخبة تعيش من النصوص ولها، وهي تفقد سبب بقائها إذا أُلغيت مهمة التشريع بما هي عملية توجيه قانوني للمجتمع.
في سياق مراجعات جذرية، نظن أنه قد آن الأوان لطرح السؤال الموجع: ألم يكن الذهاب إلى التأسيس فخّ للثورة وضعته نخب الحقوقيين، فجرّت الشباب الثائر إلى معارك بالنصوص وحرّفت تركيزهم على قضاياهم الواقعية التي أدّت فعلًا إلى الثورة؟
لقد كان هناك وعي ثوري بهذا الفخ، ورفض كثير من الشباب الذهاب إلى انتخابات مجلس تأسيسي (المحفل الأكتوبري)، لكن تيار الحقوقيين كان أقوى فطاوع الغالبية التيار.
ومن أطرف ما حصل ضمن عمل الحقوقيين أن شخصًا غُمرًا غير ذي وزن في النخب الحقوقية نفسها قد صار مرجعًا دستوريًّا، حتى حمله التقدير المبالغ فيه للنصوص إلى سدّة الرئاسة، فانكشف فقره الفكري والتشريعي. ما دلالات قرصنة الحقوقيين للثورة؟
هذه هي الخريطة الكلاسيكية التي بُنيت عليها الدولة. قيادة المجتمع بنصّ قانوني يضعه شخص طلعة يمتلك خصال نبي ويعرف ما يصلح للشعب أكثر من الشعب صاحب الحاجة. خريطة بورقيبة (التي نسخها عن نابليون) وصنع بها نخبًا على هواه، فأعادت إنتاجه.
وعندما كانت دولته تشرف على نهايتها الوبيلة، خرجت النسخ البورقيبية من مكامنها وقدمت نصوصها، فإذا وهم الدولة قائم، وإذا المجتمع غائب ومغيّب حتى وصلنا بالخريطة نفسها إلى الانقلاب، ويظنّ الانقلاب أنه قادر على مواصلة السير على الخريطة نفسها. لا يوجد كنز هنا، بل حفرة مظلمة تنذر بكارثة.
حرّاس النفاق الجماعي
في نص ألمعي لبيار بورديو يتحدث عن الحقوقيين بصفتهم حرّاس النفاق الجماعي، ويرى قولهم بأهمية التشريع في إدارة الدولة هو محض هراء أيديولوجي يبررون به مواقعهم واستدامة منافعهم، ويمنعون به كل تفكير متحرر من الدوغما القانونية من التعبير.
إنهم القساوسة الجدد للدولة الوضعية، وفي تونس اختطف هؤلاء القساوسة الثورة، وهي الآن بين أيديهم لكنها أقرب ما تكون إلى جثة تتحلل، فآخرهم حطّم بالقانون ما قام به أولهم.
من هنا وجب البدء في المراجعات الجذرية، ونعتقد أن إخراج الدولة من تحت البراديغم القانوني (أو التشريعي) هو بداية سليمة. وهذه ليست دعوة لحياة بلا قانون، لكن وضع القانون وواضعي القانون في حجمهم الطبيعي ضمن سياقات ترتيب الحياة العامة. إنهم أدوات السياسي وليسوا هم السياسي، على أن يكون هناك سياسي في الطائرة. فمن يكون؟ وكيف يكون؟
الاستبعاد يعني الإحلال. فلا بدَّ من فكرة تقود، لكن مَن يبلورها؟ ومِن أين يأتي بها؟ وما ضمانات ألّا تتحول جماعات العلوم الإنسانية والفلاسفة بدورهم إلى قساوسة جدد، فجمهورية أثينا ماثلة في الكرّاسات المدرسية.
المراجعات التي نتوقع ضرورتها في هذا الظرف ليست مجرد استبدال “طائفة” الحقوقيين بطائفة مهنية أخرى، فهذا مجرد استبدال وظيفي يعيد إنتاج المعضلات نفسها.
إذا كنا رأينا هيمنة الحقوقيين على الدولة وعلى الثورة، فهؤلاء ليسوا عندنا أشخاصًا، بل نمط تفكير غير ديمقراطي لأنه يحلّ نفسه محل الشعب، ويفكّر له ويأمره ولا يقترح عليه، وهنا البداية، ألّا تملي على الناس بل أن تأخذ منهم وتجادلهم في أمرهم، وهذه هي أسُس الديمقراطية التي عاينا نجاحها في دول الغرب، ووصلت نتائجها الرشيدة إلى أوسع قطاع من مواطني تلك الدول.
إذا حصلَ انقلاب في سياق انتقال ديمقراطي، فإن أسبابه في تقديرنا تعود إلى غياب الإيمان الجماعي بالديمقراطية وقدراتها على فصل في الاختلافات وترتيب حالات السلم الجماعية داخل دولة، وإحدى علامات الكفر بالديمقراطية هي الإيمان بقدرة النص القانوني على القيادة فوقيًّا.
من هنا دخل الانقلاب بصفته قمة الكفر بالديمقراطية، ومن هنا التحق به مساندوه ولا يزالون يدافعون عنه، ولا عجب، فأشدَّ أنصار الانقلاب حماسًا هم عشاق البوط العسكري العربي واليسار المتطرف، وطبعًا كل فلول منظومة الفساد التي كانت تتمتع بخيرات الدولة وحرمتها منها الثورة.
أعداء الديمقراطية هم أكثر من يتكلم بالقانون ويعتبره الفيصل في النزاعات، ولذلك فإن أول نصوص وضعها الانقلاب تتجه إلى قمع الحريات بمنع الناس من الكلام في الشأن العام، وهو الكلام الذي يبني الديمقراطية ويطوّرها.
من أين تبدأ المراجعات؟ ومَن عليه أن يراجع؟ وأين نتجه؟
لقد فضح الانقلاب القوميين العرب قيادة وجمهورًا، وفضح اليسار الثوري قيادة وجمهورًا، ووضعهم في نفس الخندق المعادي للديمقراطية مع فلول الأنظمة ومع أجهزة القمع، وهو مكسب ثمين جدًّا لكل الديمقراطيين أو القابلين بالديمقراطية كوسيلة تعايش وحكم.
هذا الفرز بعض المراجعة الضرورية، فهؤلاء لن يكونوا أبدًا جزءًا من عملية بناء الديمقراطية في أي قطر عربي (فلا فرق بين تونس ومصر)، لقد خدعوا الجمهور المتعطّش للديمقراطية عقودًا طويلة، وقد آن أوان اعتزالهم وما يعبدون من دون الديمقراطية.
أحد محاور المراجعة الضرورية هو ألّا يعود المؤمنون بالديمقراطية إلى ذلك القول المهزوم مسبقًا، بأن إسقاط انقلاب يقتضي التحشيد ضده، بما في ذلك ضمّ أعداء الديمقراطية، لأن هذه عملية تخريب مسبقة للمستقبل القادم بلا شك بعد الانقلاب. إنها تعفين للثمرة قبل نضجها، وتكشف جهلًا وطمعًا لا يختلفان عن طمع الفلول في الاحتفاظ بالسلطة.
إنها مراجعات فكرية وتنظيمية وسياسية لم يسعها مقال واحد، لذلك سنواصل تفكيكها لأن زمن المراجعات قد حان.