أعادت الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، قطاع غزة إلى الواجهة بعد تكرار إطلاق الصواريخ تجاه مستوطنات غلاف غزة، ردًّا على الانتهاكات والاقتحامات الاستفزازية التي ينفّذها المستوطنون بحماية السلطات الإسرائيلية للمسجد الأقصى.
وعلى مدار الأيام الماضية، أُطلق ما يزيد عن 50 صاروخًا تجاه مستوطنات غلاف غزة، وهو رقم بالنسبة إلى المنظومة الأمنية والعسكرية يعكس حالة الفشل الإسرائيلي في التعامل مع الأذرع العسكرية لقوى المقاومة الفلسطينية في غزة، في ضوء الادّعاء الدائم بأن المقاومة مردوعة نسبيًّا.
وشكّل إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان تجاه المدن والبلدات المحتلة عام 1948 صدمة جديدة بالنسبة إلى المنظومة الأمنية الإسرائيلية، في ضوء التوقع السابق من إمكانية أن يكون الردّ على ما يجري من تطورات في الأقصى من ساحة غزة.
لكن الصدمة الأكبر بالنسبة للمستويات السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية تتمثل في إطلاق الصواريخ من الساحة اللبنانية، على اعتبار أن من قام بإطلاقها هي حركة حماس التي تتهمها المؤسسة العسكرية في الاحتلال ببناء بنية عسكرية تحتية في الجنوب اللبناني.
وعكسَ إطلاق عشرات الصواريخ تجاه مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة حالة التخبُّط في المنظومة الخاصة بالقبّة الحديدية، وفشلها في التعامل مع هذه الصواريخ والمقذوفات، إلى جانب فشل جديد مُنيت به المنظومة الأمنية فيما يتعلق بقراءة نوايا المقاومة الفلسطينية.
وشهدت الأسابيع الأخيرة إشارات متكررة على أن الأذرع العسكرية للمقاومة الفلسطينية لن تمرّر ما يجري في الأقصى مرور الكرام، وستعمل على الردّ عليه وفقًا لسيناريوهات وخطط أُعدّت مسبقًا تستهدف بالأساس استنزاف الجبهة الإسرائيلية الداخلية.
مواقف الفصائل الفلسطينية.. ماذا تقول المقاومة؟
نقلت المقاومة الفلسطينية رسائل للوسطاء متكررة أنها لن تسمح بتغيير المعادلات التي فرضتها في السابق، سواء غزة-القدس أو القصف بالقصف، وأنها ستردّ على أي عدوان إسرائيلي يستهدف البنية التحتية للمقاومة أو يطال الأهداف المدنية.
في هذا السياق، يقول الناطق باسم حركة حماس، عبد اللطيف القانوع، إن “الاحتلال أعلن العدوان على المسجد الأقصى وعلى أهلنا في غزة، وشعبنا ملتحم بالمقاومة وموحّد في كل أماكن تواجده لمواجهة العدوان والدفاع عن الأرض والمقدسات”.
ويضيف القانوع في حديثه لـ”نون بوست” أن الشعب الفلسطيني يخوض معركة الدفاع عن المسجد الأقصى، وغزة هي إحدى ساحات المواجهة مع تحميل الاحتلال تبعات العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، إلى جانب أن المقاومة ستواجه العدوان بكل قوة واقتدار ولن يحقق العدو أهدافه.
أما مدير المكتب الإعلامي لحركة الجهاد الإسلامي، داوود شهاب، فقال إن كل قصف سيقابَل بقصف وكل عدوان سيرَدّ عليه بالمثل، وأن الاعتداء على الأقصى أو المساس بالمصلين والمعتكفين سيقابَل بردّ، باعتبارها قواعد اشتباك تحولت إلى جزء من عقيدة القتال لدى الفلسطينيين، حسب قوله.
ويؤكد شهاب لـ”نون بوست” أن رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، يستغل الهجوم على غزة للتهرُّب من الأزمات الداخلية في حكومته، في المقابل يشدد المسؤول في حركة الجهاد الإسلامي على أنه “لا يتوقع أحد في العالم أن يتم سحل حرائر الأقصى على الأرض وضربهن بالهراوات دون ردّ من المقاومة الفلسطينية”.
بدوره، يشدد عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومسؤول فرعها في غزة، محمود الراس، على أن العدوان على غزة جزء من العدوان على الشعب الفلسطيني الذي لم يتوقف يومًا، وأن ما جرى في غزة سيواجَه بالمزيد من الوحدة حول خيار المقاومة.
ويقول الراس لـ”نون بوست” إن “غزة كانت على الدوام في محل الاستهداف الصهيوني، كما كل شعبنا وكل بقعة من بقاع الوطن، ولا خيار أمام شعبنا سوى المقاومة والمزيد من المقاومة في مواجهة الإرهاب الصهيوني، فشعبنا لا ترهبه التهديدات ولا الغارات الإرهابية”.
ووفق القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فإن المقاومة “كما عوّدتنا بجاهزيتها وحضورها الدائم، ستكون قادرة على كسر موجة الإرهاب الصهيوني المتصاعد”.
قراءة في السيناريوهات
لا يمكن القول إن انتهاء عمليات القصف الإسرائيلية للقطاع تعني بدرجة كاملة انتهاء حالة التصعيد القائمة في غزة، على اعتبار أن الساحة الميدانية الفلسطينية أصبحت أكثر لهيبًا ممّا كانت عليه في السابق، في ضوء التصعيد على ساحة الضفة الغربية المحتلة والقدس.
وبالتزامن مع هذا الأمر، فإن حكومة نتنياهو التي تعيش أزمات داخلية قد تكون اختارت سيناريو القصف الاستعراضي لمواقع وأهداف فارغة تتبع للمقاومة الفلسطينية في الوقت الراهن، من أجل تجنُّب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة على غرار “سيف القدس” عام 2021.
لكن اللافت أن الاحتلال عادة ما يستخدم هذا النوع المحدود من الردّ، ثم يعمل بشكلٍ تكتيكي إما نحو تنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات في المقاومة الفلسطينية سواء في الساحة الفلسطينية أو في ساحة سوريا ولبنان، كما حصل قبل سنوات.
وفي بعض الأحيان، يميل الاحتلال إلى هذا النوع من العمليات التي يُطلق عليها “الاغتيال الصامت” أو “الناعم” من أجل تجنُّب أي مواجهة عسكرية مفتوحة، في مقابل محاولة تنفيذ عمليات ردع لقادة المقاومة الفلسطينية وثنيهم عن التصعيد مستقبلًا.
مرحليًّا، تبدو جميع الأطراف غير راغبة في الذهاب نحو التصعيد المفتوح، مع إبقاء الباب مواربًا من قبل الأذرع العسكرية للمقاومة وحتى حكومة نتنياهو لتبادل الرسائل العسكرية بالقصف والاستهداف المتبادل، فيما لو انزلقت الأمور أكثر.
وتعكس رسالة الغرفة المشتركة التي تضمّ جميع الأذرع العسكرية لقوى المقاومة هذا السيناريو، لا سيما أنها قالت بشكل واضح: “في ظل تهديدات العدو لمقاومتنا ولأهلنا في غزة، فإننا نؤكد جهوزية المقاومة للمواجهة والردّ بكل قوة على أي عدوان والدفاع عن شعبنا في كل أماكن تواجده، وعلى العدو المجرم وقف عدوانه الهمجي بحقّ المسجد الأقصى والمصلين والمعتكفين فيه، وأن يتوقف عن مهزلة تصدير أزماته الداخلية باتجاه شعبنا ومقدساتنا”.
المقاومة والتطور.. أدوات جديدة
شهدت الجولة الأخيرة للقصف الإسرائيلي على غزة لجوء المقاومة الفلسطينية إلى استخدام عدد كبير من قاذفات “سام 7″، في محاولتها للتشويش على الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال عمليات القصف التي كانت تقوم بها لمواقع وأهداف داخل القطاع.
واهتم المراسلون العسكريون بهذا الأمر كثيرًا، إذ زعم بعضهم وجود معلومات لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن الذراع العسكرية لحركة حماس عملت على تصنيع منظومة صواريخ، خاصة بالطائرات الحربية بشكل محلي في القطاع خلال الفترة الأخيرة.
وتكررت في الأسابيع الماضية إعلانات المقاومة الفلسطينية عن استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية بصواريخ من طراز أرض-جو، أو استخدام أنواع متعددة لاعتراض هذه الطائرات ومحاولة التشويش عليها بشكل محدود من خلال وحدات الدفاع الجوي الخاصة به.
ميدانيًّا، يبدو المشهد مفتوحًا على سيناريوهات من التصعيد خلال الفترة المقبلة، دون أن يتطور الأمر بشكل سريع إلى حالة حرب مفتوحة، على اعتبار أن جميع الأطراف غير معنية بهذا الأمر، إذ إن كل طرف يبحث عن تثبيت المعادلات القائمة.